أردوغان وبن سلمان.. “زواج المصلحة”!

من يُمارس السياسة بكلّ تشعباتها وفنونها، يعلم أنّ السياسي الناجح والحذق هو من يوسّع هامش مناوراته ومساحتها  تحسبا للتحولات والمتغيرات، ولا يقفل على نفسه دائرة الخصومة بشكل مطلق وبالتالي يُضيّق خياراته؛ هذا تحديدًا ما أتقنه رجب طيب أردوغان خلال السنوات الماضية. كيف؟

أردوغان قادرٌ على أن يعاديك ويشاركك في الوقت نفسه. يمكنك أن تتقاتل معه في ساحة وتتوافق معه في أخرى، أو أن يرفع صوته بوجهك على المسرح ثم يفاوضك خلف الستارة. هو لا يمانع بأن يُبدل جلده أكثر مرة لأجل المنفعة. صحيح أن عدّاد مواقف الطيب أردوغان من الصعب ضبطه، لكن ثمة نسخ ثلاث حتى الآن، شكلت محطات مفصليةً للسياسة التركية في ظل حزب العدالة والتنمية.

النسخة الأولى امتدّت منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 حتى عام 2010، واتسمت بالمهادنة والمسايرة الخارجية والداخلية والتي كانت بالعموم ناجحة وفعّالة. ثم جاءت النسخة الثانية التي بدأت مع انطلاقة ما سُمي بـ”الربيع العربي” (2011) وامتدت حتى نهاية عام 2020، والتي تخلّلتها اندفاعة تركيا المتحمسة لبسط نفوذها الخارجي، فشهدت تمددًا عسكريا هو الأكبر من نوعه منذ انهيار السلطنة العثمانية مطلع القرن الماضي، إضافة إلى إحكام قبضة أردوغان على السلطة داخليًا، خاصة بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة عام 2016، ومن ثم التعديل الدستوري عام 2017 وما وفّره لرئاسة الجمهورية من صلاحيات شبه مطلقة.

اليوم تعيش تركيا أردوغان النسخة الثالثة. هي مزيج من شعبوية النسخة الأولى، وإن قلّت جاذبيتها وفقدت بريقها، وأحلام النسخة الثانية، لكن دون حماسة مفرطة ميّزت تلك المرحلة إلى حد التهور.

باتت تركيا اليوم أكثر فهمًا لحدود قوّتها وتأثيرها، وأكثر واقعيّة لأحلامها القومية. كما أنّها تشاهد وتدرس بعقلانية تبدل موازين القوى العالميّة، فقد اختبرت خلال العقدين الماضيين كمًّا من نظرياتها السياسية والعسكرية والثقافية، وها هي اليوم، تعود مرغمة إلى واقعيّتها الناضجة التي تحكمها وتقولبها البراغماتية ولغة المصالح.

القضاء على الدولتين السعودية الأولى والثانية جاء بفعل إرادة عثمانية، في حين أنّ الدولة السعوديةُ الثالثة ساهمت بسقوط السلطنة العثمانية، وكذلك فعل الشريف حسين. لقد أسّس مصطفى كمال أتاتورك، غداة الحرب العالمية الأولى، لسياسة إدارة الظهر بشكل كامل للعرب، ثم مضت المؤسّسة العلمانيّة من بعده بالإتجاه نفسه

القوّة الإقليميّة ومقوّماتها

لفهم موقع وموقف كلّ من الجمهوريّة التركيّة والمملكة العربيّة السعوديّة، لا بدّ من تشكيل تصوّر مبدئي وواضح عن القوّة الإقليميّة وأهدافها وأدواتها، وكذلك فهم علاقتها وتأثّرها بالقوى العظمى العالميّة المهيمنة.

يُعرّف مارتن بيك في كتابه “القوى الإقليمية في الشرق الأوسط” القوة الإقليمية بأنها جهة فاعلة، وهي عادة ما تكون دولة، بحيث تفوق قدراتها بكثير قدرات الجهات الفاعلة الأخرى داخل المنطقة نفسها، والتي تتمتع سلطتها بدرجة عالية من الفاعلية والتأثير على أساس دورها القيادي في المنطقة. أمّا ديتليف نولتي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هامبورج، فقد قدّم مفهومه للقوة الإقليمية على أنها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مهارات القوة الناعمة، نظرًا إلى أن قدراتها في مجال القوة الصلبة لا تكفي للسيطرة على الشؤون الإقليمية من خلال التفاعل الأحادي. وهكذا، تمارس القوى الإقليمية نفوذها على أساس التعاون الذي لا يكون متناظرًا بين الطرفين، ولكن ليس مُطلق الغلبة من جهة واحدة.

وبالتالي، فإن القوة الإقليمية كي تحوز على هذا التوصيف يجب أن تكون متمايزة بمعايير عدة تُراكمها فوق بعضها لتصبح كذلك. فالقوة الإقليمية هي الدولة التي تُبرز الإدعاء (التصور الذاتي) لمكانة رائدة لنفسها في منطقة جغرافية واقتصادية وسياسية، وتتميز وتستعرض قدراتها العسكريّة والإقتصاديّة والديموغرافيّة ومواردها التنظيميّة والإيديولوجيّة لبسط السلطة الإقليمية، ويكون لها نفوذٌ كبيرٌ في الشؤون الإقليمية. ومن مميزاتها أيضًا، أنها تتداخل وترتبط بشكل وثيقٍ وعميق إقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا في المنطقة، بحيث تؤثر بشكل فاعل في الترسيم الجيو-سياسي للمنطقة. وهي تمارس هذا التأثير من خلال أدوات الحكم الإقليمية (أي من خلال الحكومات والأحزاب والبنى السياسية والإقتصادية للبلد المُتأثّر)، وتساهم بتحديد الهوية أو المشروع الإقليمي بطريقة حاسمة.

أمّا بالنسبة لموقفها من القوى العظمى، فيوضح أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو جون ميرشايمر، سعي القوى الإقليمية المهيمنة إلى الحدّ من تأثير القوى العظمى على الإقليم الذي تقع فيه، لأنه بطبيعة الحال، سيؤدي إلى إضعاف دور ومكانة الدولة الإقليمية المهيمنة لصالح دور الدولة العظمى التي لا تسمح بوجود قوى منافسةٍ لها. لكن ثمّة خيارٍ أقلّ سوءاً للقوّة المهيمنة إقليميًا بحسب ميرشايمر، ألا وهو وجود قوتين عُظميين مع بعضهما البعض في المناطق الأخرى، وبالتالي ستُجبران على تركيز الإهتمام على بعضهما عوضًا عن الإهتمام بالدولة الإقليمية المهيمنة.

من إدارة الظهر للتوازن

لا داعي لاستعراض العلاقات التركية السعودية بشكل مستفيض؛ فقط تكفي الإشارة إلى أنّ القضاء على الدولتين السعودية الأولى والثانية جاء بفعل إرادة عثمانية، في حين أنّ الدولة السعوديةُ الثالثة ساهمت بسقوط السلطنة العثمانية، وكذلك فعل الشريف حسين. لقد أسّس مصطفى كمال أتاتورك، غداة الحرب العالمية الأولى، لسياسة إدارة الظهر بشكل كامل للعرب، ثم مضت المؤسّسة العلمانيّة من بعده بالإتجاه نفسه، وهي المؤسسة التي اعترفت بالكيان الإسرائيلي عام 1949، وانضمت إلى حلف شمالي الأطلسي عام 1952 وإلى حلف بغداد عام 1955، إلى أن تنبهت تركيا إلى فداحة موقفها بعد الأزمة القبرصية عام 1974 حين رأت الدول العربية تصطف جميعًا ضدها، هذا عدا عن دعم كلٍ من سوريا ومصر لقبرص اليونانية بالسلاح. شكلت تلك الحادثة صفعة لتركيا أعادت لها بعض التوازن في علاقتها مع العرب.

زيارة.. المصالح المتبادلة

في الشكل، يمكن القول بأن الرئيس التركي جاء إلى الرياض بما يشبه زيارة التراجع والإعتذار، فالذي بدّل في مواقفه وسياسته هو أردوغان، وليس الملك السعودي أو وليّ عهده محمد بن سلمان. فعلى صعيد العلاقة مع الإخوان المسلمين، من الواضح أن تركيا تُكمل تضييق الخناق على الجماعة المزعجة لتحالف أبو ظبي ـ الرياض ـ القاهرة وتقفل منابرهم الإعلامية، وتعمل على تقليص تواجد قياداتهم على أراضيها، وهي تفعل ذلك أيضًا مع قادة حركة حماس، المنبوذة سعوديًا، تحديدًا الجناح العسكري، وقد شاهدنا إدانتها لعمليات المقاومة الفلسطينية الأخيرة. كما أنّها تستمر في توددها للقاهرة، بعد أن طوت مرحلة حكم الإخوان وقضية الإنقلاب عليهم، وهي تجهد أيضًا لإعادة الدفء للعلاقات مع “إسرائيل”، مُبتلعةً إدانة أردوغان لبعض دول الخليج بسبب تطبيع علاقاتها مع تل أبيب. أما الأهم، فهو إغلاق ملف الصحافي السعودي جمال خاشقجي في تركيا ونقله إلى الرياض، ويكفي لوصف المشهد إحدى النكات التي يسأل فيها الملك السعودي عن قضيّة خاشقجي، ليجيب أردوغان بأنّه قتل نفسه ثم فرّ إلى مكان مجهول!

إقرأ على موقع 180  كوشنير يبحث عن صفقة عقارية لا عن مصالحة خليجية!

أمّا في الجوهر، فزيارة الرئيس التركي تأتي في ظل حاجته الداخلية والخارجية لتدفق رؤوس الأموال بالعملة الصعبة إلى بلاده، خاصة مع استنزاف فاتورة النفط والغاز لها وانعكاس ذلك على الإنتخابات الرئاسية التركية المقبلة، في حين يشعر محمد بن سلمان بإحكام قبضته على العرش لا سيما في ضوء فشل الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن في إضعافه أو تطويقه، كما أنّ الحوار السعودي الإيراني، قد يزيح عن كاهل السعودية ثقل وأعباء حرب اليمن في المستقبل القريب. إضافة إلى ارتفاع أسعار النفط وتراكم عوائده في خزائن الرياض التي يرصدها الرئيس التركي، مما دفعه إلى دعوة ولي العهد لتمويل بعض مشاريعه في انتاج الأسلحة، وذلك انطلاقًا من “غيرته” على العالم الإسلامي كي لا يبقى سوقًا للسلاح بل منتجًا له!

بالنسبة إلى السعودية، فإنّ مشهد “السلطان” في المملكة التي اتهم “أعلى المستويات” فيها ـ مستثنيًا الملك ـ بالتورط في مقتل خاشقجي، يُؤشّر إلى الصورة الجديدة التي يطمح بن سلمان لإشاعتها، وبرغم عدم نجاح تركيا في استثمار هذه القضيّة بل انعكاسها سلبًا على اقتصادها، فإنّ سحب هذا الملفّ من البازار السياسي، سيُسعد حكام الرياض.

هذا لا يعني أنّ الدولتين السعودية والتركية لن تلتقيا مطلقًا، قد تلتقيان بفعل زواج المصلحة الذي يُدرك كِلا الطرفين المصالح التي يبغيانها من ورائه، وأنّه سيفضي عاجلًا أم آجلًا إلى الطلاق بعد تحقّقها. حدث ذلك في الماضي القريب وتحديدًا عام 2015، حين اجتمعت مصالح الدولتين على إسقاط النظام في سوريا

زواج المصلحة

لا يمكننا مقاربة المستجد في العلاقات التركيّة السعوديّة على طريقة الآمال والأحلام البسيطة، التي تنظر إلى دلالة نزول الرئيس التركي في الغرفة رقم 1453 من فندقه كمؤشر غيبي أو إيجابي لهذه الزيارة، بل يجب فهمها وتحليلها استنادًا إلى الوقائع والمصالح.

انطلاقًا من قراءة المشهد، نرى انّه من الصعب أن تتطور العلاقات التركية السعودية إلى مستوى التحالف الإستراتيجي، وذلك كون الدولتين تحملان صفة ومواصفات القوّة الإقليميّة المهيمنة. لا يمكن لأنقرة بأن تكون تابعة للرياض، فمشروع أردوغان الكبير يجعله طامحًا لدور عالمي يستصغر معه الحضور الإقليمي، وكذلك الرياض، التي بدأت تعمل وفق شخصيّة أميرها الشاب الطامح والمندفع، الذي بدأ يستشعر بنفسه فائض القوّة على بايدن والإدارة الأميركيّة نفسها، فكيف الحال مع أنقرة، بمعزل عما يمكن أن يؤدي إليه هذا المسار.

كما أن ساحات الإشتباك بين كلّ من تركيا والمملكة العربية السعودية تطغى على ساحات التلاقي، من سوريا إلى العراق وقطر وليبيا وتونس ومصر، ولو فَصّلنا فقط الساحة السورية، لأدركنا أن الوجود والنفوذ التركي في سوريا إنما يُزاحم ويأخذ بالدرجة الأولى من الصحن السعودي، لا من إيران وروسيا، كما أنّ تثبيت موطىء قدمٍ لأنقرة في سوريا سيجعلها بشكل بديهي مؤثّرةً في القرار العربي، وسيفتح لها المجال للتمدّد إلى ساحات أخرى لتصبح على تماس مباشرٍ مع المملكة.

الإرث والدور والمصالح

إذًا باختصار، هناك ثلاثة عوامل باعتقادنا تمنع تطوّر العلاقة بين الطرفين بشكل إيجابي، بل هي تساهم في عكس وتآكل الآمال التي يتمناها البعض: أولًا الإرث التاريخي الذي لا يمكن محوه أو التخلص منه، وهو إرثٌ يشتدّ حضورًا كلّما تمسك أردوغان بعثمانيّته، وكلّما تمسّك ولي العهد السعودي بأمجاد أجداده وتاريخهم. ثانيًا الدور الذي تطمح له كلٌ من الرياض وأنقره، مع استشعار الطرفين بانشغال القوّى العظمى، ولا سيما الولايات المتحدة، بصراعٍ يُهدّد تفوقها. كلٌ من تركيا والسعودية تشحذ سكاكينها لاقتطاع جزءٍ من تركة الولايات المتحدة، وقالب الجبنة تحديدًا يقع على تقاطع شهيّة كلٍ من البلدين. أما ثالث العوامل فيتصل بتنافر المصالح، بحيث تُصبح تركيا القويّة تهديدًا للسعوديّة، وكذلك العكس.

هذا لا يعني أنّ الدولتين السعودية والتركية لن تلتقيا مطلقًا، قد تلتقيان بفعل زواج المصلحة الذي يُدرك كِلا الطرفين المصالح التي يبغيانها من ورائه، وأنّه سيفضي عاجلًا أم آجلًا إلى الطلاق بعد تحقّقها. حدث ذلك في الماضي القريب وتحديدًا عام 2015، حين اجتمعت مصالح الدولتين على إسقاط النظام في سوريا، لكن فقط للتذكير، حين لم يسقط النظام في دمشق، حصلت محاولة الإنقلاب في تركيا عام 2016 التي كادت أن تودي بحزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان إلى نفس مصير أسلافه المخلوعين، فقط للتذكير.

فلننتظر مدى تجاوب السعوديين مع دعوة الرئيس التركي لملء الفنادق والمنتجعات السياحية، وبالتالي خزائن الدولة التركية.. لعل ذلك يرفع رصيد رجب طيب أردوغان في الإنتخابات المقبلة.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  تفاهم الرياض وطهران ليس بديلاً لتفاهمات محلية