أوطاننا ضحية الطوائف.. فلنُحرّم زواج الدين والسياسة

عرف العالم ديانات كثيرة، بدعوى الخلاص. كلها تنتمي الى عالم ماورائي. جسدَت وجودها الدائم، دون برهان او دليل، على اسلوب "تبلغوا وبلغوا". قول يقال وينفذ، والقول فيض من العصمة، امتحان القول يقع على عاتق المؤمنين بالدين.

الماورائي لا زمني، أبدي وإملائي. الممارسة الدينية، مفترض ان تكون الامتحان. النتائج كانت كارثية. وباء الاجتهاد والتفسير والمصالح. وظف النص الديني، لمصالح وغايات ارضية وزمانية ومكانية. بدا من التجارب المتناسلة، الفشل الانساني في ترجمة الإلهي. النص بريء، الترجمة كانت فادحة. ما جاء من “فوق”، سماوي، وما تمت ترجمته من تحت، كان كارثياً: دمار، حرائق، مقاتِل، تمثيل بالجثث، استغلال، عبودية، تسلط، فتن، مذابح.. تحولت الرسالة السماوية الى تجنيد “المؤمنين” مقابل صكوك ملكية سماوية. نوع من الرشوة كما تحولت في جغرافيتنا العربية، الى سياقات إفتائية، حوَلت الآية الى سيف، والسيف “مصداق” كاذب للآيات.

هل تولد ديموقراطية من هذا الإرث؟ هل تمارس مساءلة ومحاسبة من قبل الناس، الذين يصيرون شعوباً في مساحات وفضاءات؟ هل هناك قيمة للحرية؟ إذا كان الإنسان عبداً للدين، فلا حرية، بل تقليد الخلف للسلف، برغم افتراق الازمنة وتعدد المشكلات والخيارات؟

هل يُحاسب الإنسان على عمله ام على تنفيذه لـ”الأمر الإلهي” المبلغ له من كنيسة او مراجع متعددة، تعدد الاديان والطوائف والاجتهادات. أخيرا هل الدين صالح في السياسة؟ هل يسيء الى مجتمعه او يُساء اليه من قبل سلطات مجتمعاته؟ أليس من الضروري، والبديهي، انقاذ الدين مما يساء اليه في السياسة؟ السياسة يفسدها الدين، والدين ورجالاته، يفسدون السياسة.

***

مذ وجد الدين، اعطي العصمة. الاختلاف بين الديانات مزمن وأصيل، برغم اعتبار كل دين، انه الصح. علماً ان مرجعهم واحد أحد، ولا أحد سواه. الدين ملازم للبشرية، أكانت وثنية أم سماوية. هناك حاجة للإيمان، ولغز الانسان بحاجة الى جهد كبير، ليفسر اسراره. الانسان كونٌ تام، لا تختصره النصوص، ولو كانت مطوية لاهوتيا، ومبصومة اجتهادياً. الإنسان، كونه كائن شره للحرية، لا تلجمه الأوامر. فهو ليس قلباً، وايماناً، وعقلاً، وحاجة. انه كائن كوني تام، بدءاً من بدايات الهمجية، بلوغاً الى رخامته في القرن الراهن. الإنسان كائن صغير جداً، واجتياحي بشرياً. العالم تغير بيديه وجهوده ونضاله وعقله ودمه. الله لا يتدخل عملياً. قد يُقال، ان الله اراده كذلك. ليس هذا الكلام صحيحاً. الله يحاسب الانسان لأنه حر في خياراته. وحريته هذه يدفع اثمانها هنا اولاً، قبل هناك، ان كان هناك محاكمة.

كان لبنان، ضحية انتماءات طوائفية الى دول سنية ودول شيعية وغرب مسيحي. ولبنان، منذ ولادته، يتورم وينفجر. وها هو الآن، لا ينفجر، لأن شعبه لم يعد قادراً على الوقوف على قدميه، فهو مشغول بلقمة العيش. بالبحث عن دواء، ويتوقف عن التفاؤل نهائياً

إن الدين رسالة مفروضة من فوق، وهو تام، لا يأتيه نقص من أي جهة، وهو تناول “كل شيء” تقريباً. صحيح أن ما جاءه املاءً لا رأي للإنسان فيه. تبلغه كلاماً وسيرة، املاء مقدس. مطَوب. نموذجي. املاء يملي حقائق دائمة وثابتة. وعلى من ولد من بطن ديني ان يتفانى في تأييد وانتهاج ما جاء نصاً أو وحياً. ودرج الانسان ان يأخذ ذلك بالواسطة. المؤسسة الدينية، او الادق، السلطة الدينية احتكرت القول والتفسير والاجتهاد. وأضافت وأصَلت و… كل هذا من ابتداع العقل الانساني الذي تم توظيفه في تعليم النص والتشريع، والسهر عليه، وفي المعاقبة الزمنية، لما يقترفه الانسان المخالف للشرع والنص والاجتهاد.

قلة نادرة، نادرة، نادرة، اختارت دينها. والجماعات، في كل الاصقاع الايمانية أخذت دينها من نسلها فور ولادتها. يُرهن الطفل او الطفلة للدين. قبل ان يعي ويتعلم بالحروف و… الدين ولاّدة شعوب. الانجاب وحده، اقوى من كل الحجج ومحاولات الاقناع. من “ولد من نص ديني شب وشاب عليه”. الدين يرضع مع الحليب. ولم يكن بحاجة الى علم وتفكير ليختار. هكذا كان التاريخ وما زال، ولن يزول.

لذلك أيها “المؤمنون”. لا فضل لكم في تدينكم. كلكم سواسية. الانفتاح نادر. التقليد دائم. الوراثة لم تتوقف بعد، وأظن انها لن تتوقف. المسيحي يلد مسيحيين والاسلام يلد محمديين، والتوراة تلد يهوداً، الى آخر الزمان. فيا أيها المتدينون تواضعوا. دينكم اختاركم ولم تختاروه. انكم متشابهون اصلاً ومتناقضون فعلاً. سماؤكم جميلة وأرضكم جحيم.

***

لِمَ هذا الكلام اليوم؟

إن أتباع الديانات، باستثناء قلة من النسَاك والقديسين والروحانيين، حوّلوا النصوص الدينية، الى اسلحة فتاكة. كل دين، ترجمه ابناؤه، دماً وسفكاً وقتلاً. ولا نستثني ديناً. الكرة الارضية الصغيرة في عالم الكواكب، مضرجة بالدم والقتل. لم تنفع الصلوات. لم تنفع التفسيرات. الدين جاء عقاباً. والله المعبود، صار دكتاتوراً، والقديسون والاولياء، يفتون بالعنف ان شاءوا. وبالعداء، ان شاءوا وبالسلام إن رغبوا. الدين يصلح لكل الحالات من فوق لتحت، وفي كل الاتجاهات.

أحد الوجوه البشعة للديانات المتجسدة بشراً، هو الحروب الدينية التي كفلت بإبادات وإحراق وتعذيب وقتل وسجن وتشويه وتفظيع ونفي. لا شرعية لمن يخالف بالرأي والتفسير. الصراع المسيحي – المسيحي، عاش الفا وسبعمائة سنة تقريباً. تحولت فيه المسيحية الى معسكرات ومعارك وسلوك همجي بربري، يستحسن عدم ذكرها، لبشاعتها. أما في منطقة الحضور الإسلامي، وعلى الرغم من تزامن الوحي بالعمل، فإن المعارك بين ابناء الدين ورواده الأوائل، اندلع بعيد وفاة الرسول، وحتى قبل دفنه. ابو بكر اخذها عنوة ـ اورثها لعمر، وكان عثمان فلتة، دفع ثمن انحيازه قبلاً، من قبل مسلمين ثائرين. وانتهى علي بن ابي طالب ضحية، بعد حروب وصراعات، حول خلافته، التي اغتصبها غصباً وحيلة معاوية، ابن ابي سفيان، قائد التمرد على الرسول في مكة، قبل استسلامه واسلامه، في الزمن ذاته. وتاريخ الصراعات بين المذاهب والفرق وال… الخ. لا يمكن اغفاله، ونبضه ما زال حياً، يعاد الاحتفاء به، كل عام. عاشوراء والطف ومقتلة الحسين، حية ترزق في النفوس والعقول والقلوب. والحسينيون ورثة ذلك التاريخ ابا عن جد. السنة في موقع آخر وصامت.

إقرأ على موقع 180  الموسكوفي «المجنون»

الاديان رسالات سلام. هذا كلام. الاديان منصات حروب وفتن وكوارث وقتلى وعداوات.

نعبر القرون، ونحط رحالنا في دنيا العرب ومن حولها. انها محكومة بمذاهب متعادية، وطوائف متقاتلة ومنازلات متسلسلة، وعلى ضفافها دم وحروف كل فئة تشهر سيفها وآيتها. دين واحد يصلح عندهم لكل المعارك. “الله” كما يدعون هو فوقهم جميعاً. كأنه هو المحرض والمرتكب، فيما الاعمال السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تمليها قوى، تستقوي بالثروة والسلطة والارث والتاريخ. وتطوب نفسها بأنها “الفئة الوحيدة الناجية” وما تقوم به، وما يرتكبونه جميعاً، هو من ارادة الله. وهذا افتراء وافتئات وظلم. الدين في الواقع والوقائع، مضاد للنصوص، وان لم يكن كذلك فكارثة.

***

نصل الى خريطة العالم العربي ومحيطه، ولبنان منه وفيه، بكل عذاباته وانهياراته. ولا يختلف في صراعاته الحميمة الدامية، عن الصراع الحاصل في سوريا بين سلطة من لون واحد، وجموع بألوان السيوف والقنابل والمجازر. ولا يختلف ايضاً عن عراق، دمره الغرب (المسيحي) وتركه اشلاء تتكالب عليها المذاهب الدينية والعشائر والعائلات. ولا يختلف ذلك عن السودان المشطور، وعن ليبيا المفتونة بالدم، على مدار عشر سنوات ونيف. ومن قبل الجزائر التي عاشت سنواتها الدينية العاصفة مخلفة مئات آلاف القتلى، وهم على دين واحد. أما مصر، فتحاول ان تجد حلاً توافقيا… وقربنا قبرص، التي فازت بالتقسيم، بعد مذابح واجلاء.

شكّل الاسلام الديني، منصة للإسلام السياسي. حلَت الاوامر الفظة. مورس التعذيب. اعتقل المفكرون. دخل العالم العربي نفق العسكر، وكانت الكارثة. ان هذه القوى العسكرية، فتحت الطريق لمن قمعوا. استعاد العرب حروبهم بعودتهم الى سلفية، كانت في زمنها مصيبة

هذا عالم ديني أم عالم جحيمي؟

نصل الى لبنان. قيل فيه انه نبع النبوغ، وموئل الابجدية، وباني الثقافة والحضارات.. الخ. قد يكون هذا مبالغ فيه، ولكنه يدل فعلاً على دور قام فيه، منذ ابتداع الابجديات والشعر والفنون، وممارسة التجارة. ولبنان هذا، لم يكن مستقلاً عن محيطه، حيث ساهم ببناء حضارة تركت أثرها، قبل المسيحية والاسلام وبعدهما وظلت تركيبة التجربة اللبنانية رائجة، الى ان بلغ القرن التاسع عشر، حيث عرف لبنان مخاضاً دموياً، بين الطوائف والمذاهب الاسلامية والطوائف المسيحية.

المفكرون العرب، وبينهم لبنانيون وسوريون، ارهصوا بانتقال بطيء من الاجتماع التقليدي، الديني والعشائري والاقليمي، الى اجتماع يحتكم لقيم كانت رائجة لدى مفكرين غربيين ومفكري عصر النهضة.

كانت التجربة مناطة بالتحرر من قيود الماضي، الذي اجتر معاركه واعاد انتاجها مراراً، من دون انتصار فريق على آخر، كما كانت النهضة العربية، محاولة جريئة وعقلانية، لنقل الانتماء من الدين الى الوطن. أي تكوين ارضية متينة ومادتها الانتماء وخلاصتها ترسيمة حيوية لشعب يتنوع في آرائه وليس بطائفته ولونه وعشيرته واصوله.. التجربة الفكرية كانت صيحة في فراغ لم تعمر طويلاً.

***

القومية كانت عابرة. اساءت تمثيل قيم الحداثة والنهوض والعصر. الحركات القومية النهضوية اغتالت الحرية. تسلم العسكر الحكم. حول الوطن الى سجن ضمن اسوار. تم اعدام العقل والتفكير. شكّل الاسلام الديني، منصة للإسلام السياسي. حلَت الاوامر الفظة. مورس التعذيب. اعتقل المفكرون. دخل العالم العربي نفق العسكر، وكانت الكارثة. ان هذه القوى العسكرية، فتحت الطريق لمن قمعوا. استعاد العرب حروبهم بعودتهم الى سلفية، كانت في زمنها مصيبة… ما دخل الدين شيئاً إلا وأفسده. والدين يفسد وينفجر إذا تسيس.

حاول الفكر ان يجد مخرجاً من هذه الهوة الجحيمية. ساهم لبنانيون وسوريون ومصريون وعراقيون في وضع ترسيمة فكرية، مستقاة من تجارب دول بلغت مرحلة الديمقراطية والحرية والاستقلال. اوروبا، لم تحمل هذه الرسالة الينا. عرضت علينا انماطاً تناسب التجزئة وبحاجة الى رعاية دائمة، خوفاً من تغوَل الطوائف والمذاهب ولجوئهم الى العنف، كما حصل في القرن التاسع عشر بين الدروز والنصارى.

دخلت الكيانات العربية في محنة الاستقلال، قبل ان تبلغ الديمقراطية. والديمقراطية، نقيضها التام، هو المذهبية والطائفية، او اكثرية في مواجهة اقليات. وكانت حصة لبنان “التنظيم”، ان تبنى نظاماً، تم فيه تطعيم الديمقراطية بالمذهبية والطائفية. وهذه التوأمة مستحيلة. والتجربة أكبر برهان، اذ لا ديمقراطية البتة مع الطائفية. فلبنان، يسجل في نصوصه انه بلد ديمقراطي – ونظامه جمهوري، وحكمه عادل الخ.. لكن الممارسة تستمد شرعيتها من أحقر مرجع، وهو الطائفية التي تم تجريدها من كل روح دينية، وألبست ثياب ابالسة السياسة وقطَاع الطرق ونصابي المناسبات، والتي لم ترعوِ ابداً، فاختارت كل فئة او طائفة، ان تعيش في احضان الاجنبي او العربي القريب. ولهذا كان لبنان، ضحية انتماءات طوائفية الى دول سنية ودول شيعية وغرب مسيحي. ولبنان، منذ ولادته، يتورم وينفجر. وها هو الآن، لا ينفجر، لأن شعبه لم يعد قادراً على الوقوف على قدميه، فهو مشغول بلقمة العيش. بالبحث عن دواء، ويتوقف عن التفاؤل نهائياً. نهائياً انه زمن المسحولين.

لبنان، قتلته الطوائف. والطوائف دكتاتورية متخلفة ولصوصية. ويقال ذلك عن سوريا والعراق..

وللمقالة تتمة..

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  السودان.. من تحدي الوجود إلى إنجاز النهوض