بعد الخسارة التي مُني بها الاسطول البحري الإيراني في حرب الناقلات عام 1987 بين الولايات المتحدة وإيران في مياه الخليج العربي، قررت إيران تغيير استراتيجيتها البحرية فانتقلت من صناعة السفن الحربية الكبيرة إلى الزوارق الصغيرة التي فعلت فعلها في السنوات الأخيرة. وبعد أن قرأت الجمهورية الإسلامية بواقعية تواضع قدراتها الجوية مقارنة بقدرات الولايات المتحدة الجوية، لجأت إلى صناعة الصواريخ الباليستية التي تشكل درة تاج الصناعة الإيرانية والعامود الفقري لقوة الردع الإيرانية.
لكن هذه التعديلات في استراتيجية تسليح الجيش الإيراني لم تكن كافية لإحداث التوازن المطلوب، وربما لم تكن لتؤتي ثمارها في “حرب الظلال” التي نشهد فصولها في السنوات الأخيرة، فكان لا بدّ من دخول سلاح جديد، ذلك أن مجال استخدام الصاروخ الباليستي ضيق جدا ويطال أهدافاً محددة. وجدت إيران ضالتها في المُسيرات على أنواعها، والتي تمتاز عن الصاروخ الباليستي بمزايا أبرزها:
1-ثمة قدرة للمُسيّرة أن تطير ببطء شديد وعلى ارتفاعات منخفضة جداً ما يجعل الرادارات تواجه صعوبة في رصدها.
2-من الصعوبة بمكان على منظومة الدفاعات الجوية تحديد المكان التي تنطلق منه المُسيّرة أو تحديد الجهة التي تأتي منها نحو الهدف، وهذا ما يستدعي حماية محيط الهدف من جميع الجهات وليس مجرد حماية “قطاعية” أو “مناطقية”، مما يُصعب مهمة الدفاعات لناحية تحديد موقع المُسيرة والقضاء عليها (نموذج مُسيرات كاريش مؤخراً).
3-المُسيّرة سلاح يستخدم تحت عتبة الحرب، بحيث يمكن أن يصيب هدفه بدقة متناهية وحصر الأضرار، فيما الصاروخ الباليستي سلاح خطير ومدمر.
4-المُسيرة يمكن التحكم بها حتى اللحظات الأخيرة قبل انفجارها او رمي مقذوفاتها أو “إلقاء القبض عليها”. يمكن العدول عن تنفيذ المهام وإعادتها إلى قاعدتها مع ذخائرها سالمة. فيما الصاروخ بعد إطلاقه، صحيح أنك تتحكم في مساره نحو الهدف، ولكن لا بدّ أن ينفجر في آخر المطاف.
5-المُسيّرات ركن أساسي في “حرب الظلال” القائمة بين إيران وإسرائيل.
6-ثمة قدرة على ارسال سرب أو أسراب من المُسيّرات نحو هدف واحد.
7-ثمة فارق في الكلفة وسهولة في التصنيع، بحيث تبدأ كلفة المُسيّرة من ألف دولار وما فوق، فيما نحتاج إلى مئات آلاف الدولارات لتصنيع صاروخ باليستي، ويمكن جمع المُسيرة أو تصنيعها بسهولة لا تقارن مع الصاروخ الباليستي. وهذا أمر يعني إيران أكثر من أي دولة أخرى، حيث كان سهلاً عليها تزويد أذرعتها في العديد من دول المنطقة بالمُسيّرات: في سوريا ولبنان واليمن والعراق وفلسطين.
المسيّرات “سلاح رخيص وسهل الاستخدام، وستُشكّل العمود الأساسي في أي صراع”، كما تقول وزيرة الدفاع الألمانية السابقة أنيغريت كرامب ـ كارينباور، فيما يلخّص المحلل في المعهد الأسترالي الاستراتيجي، مالكوم ديفيز نتائج حرب ناغورنو كاراباخ بأنها أسّست لقواعد متغيّرة في أي حربٍ بريّة مستقبلاً
وعليه، طوّرت إيران صناعة المُسيّرات في مطلع الألفية الجديدة مع ظهور عصر حروب الطائرات بدون طيار في الشرق الأوسط، علماً أن إيران كانت تُصنّع المُسيّرات في زمن الشاه محمد رضا بهلوي واستمرت بعد إنتصار ثورتها في العام 1979. حالياً، بات لديها أنواع مختلفة، سواء من الطراز الهجومي أو الاستطلاعي: أبابيل، أبابيل 2، مرصاد 1، قاصف 1، قاصف 2، صماد1، حيدر 1، حيدر 2، الصاعقة، غزة وغيرها، والأهم أنه بات بحوزة إيران مُسيّرات تحلق لساعات طويلة وتقطع مديات تتخطى 2000 كلم، حيث استفادت من تقنيات المُسيّرة الأميركية أركيو 170، التي تمكنت القوات الجوية الإيرانية من التشويش عليها وإنزالها سالمة على الأرض الإيرانية عام 2012. وبالتالي باتت إسرائيل بالكامل تحت مرمى المسيرات الإيرانية، حيث أن أقرب مسافة بينهما لا تتعدى الـ1200 كلم.
وأماطت إيران اللثام عن قاعدة متخصصة للطائرات المُسيّرة متنوعة الاستخدام، أواخر أيار/مايو الماضي، موجودة على عمق مئات الأمتار تحت الأرض وتقع في سلسلة جبال زاغروس غربي البلاد، وتوجد فيها أكثر من 100 طائرة مُسيّرة قتالية، وطائرات استطلاع ومراقبة. وصرّح حينها قائد الجيش الإيراني اللواء عبد الرحيم موسوي للتلفزيون الإيراني أنه تمت زيادة قوة التدمير لدى هذه الطائرات المُسيّرة، مضيفاً أن بلاده أصبحت “القوة الأولى في الطائرات المُسيّرة في المنطقة، لأنها تمتلك مجموعة متنوعة من الطائرات المُسيّرة التي يمكن استخدامها في عمليات مختلفة”.
واكتسب سلاح المُسيّرات أهمية كبيرة، وصار حالياً محور رصد ودراسة من قبل مراكز الدراسات العسكرية الإستراتيجية في العالم، ليس بسبب إقتناء حلفاء إيران أساطيل من هذه الطائرات في المنطقة، بل لأن العديد من الدول مثل تركيا صارت تملك مثل هذه المُسيّرات القادرة على قلب معادلات إستراتيجية، فضلاً عن أن العديد من التنظيمات الإرهابية وحتى عصابات تبييض الأموال وتهريب المخدرات باتت تملك مثل هذه الطائرات.
ماذا عن حزب الله وترسانة مُسيّراته؟
لقد مرّ صباح السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2004 ثقيلاً على الدولة العبرية، عندما رصد جيشها للمرة الأولى، طائرة بدون طيار تُحلّق في شمال فلسطين المحتلة تبين أن حزب الله أطلقها من الأراضي اللبنانية، وكرّت سبحة إطلاق المسيرات في الأعوام 2005، 2006، 2012 وصولاً إلى العام الحالي، وكان آخرها المُسيّرات الثلاث غير المسلحة، التي حلّقت في محيط منصة استخراج الغاز الطبيعي في حقل كاريش مطلع الشهر الحالي، وما زالت إسرائيل منشغلة في تحليل وتقدير الموقف برغم أنها تمكنت من اسقاطها، إلا أنها باتت تتحسب للجولة الثانية، إذا قرر حزب الله إرسال أسراب مسلحة لاستهداف المنصة إذا تعثرت في المستقبل مفاوضات ترسيم الحدود البحرية التي يقودها الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين.
ولا يجب أن ننسى واقعة إقدام الحوثيين في اليمن على ضرب منشآت شركة “أرامكو” السعودية في خريف العام 2019، وهي الضربة التي ما زالت مفاعيلها قائمة حتى يومنا هذا. بعد عامين، استهدفت مُسيّرة إيرانية سفينة “ميرسر ستريت” الإسرائيلية في بحر عُمان في تموز/يوليو 2021، ومنذ ذلك الحين راحت إسرائيل تولي هذا السلاح الكثير من الاهتمام، وبات من الأمور التي تؤرق الجيش الإسرائيلي إلى جانب الملف النووي والصواريخ الباليستية، لما له من أثر في “تغيير التوازن العسكري في المنطقة”، على حد تعبير أحد مراكز الدراسات الإسرائيلية.
أصبح سلاح المُسيّرات من أكثر الأسلحة رواجاً في السوق العالمية، وتعتبره تركيا درة انتاجها الحربي بعد نجاح مُسيّرتها “بيرقدار، TB2” في أكثر من ساحة صراع، في شمال سوريا وليبيا وناغورنو كاراباخ، وأخيراً حطت “بيرقدار” في الحرب الأوكرانية.
وتمثل الولايات المتحدة سوقاً من أبرز الأسواق بدليل أن الذين يخضعون للتدريب فيها على تسيير الطائرات بدون طيار يفوق عدد الذين يتدربون على قيادة المقاتلات الحربية. صارت أميركا تجني من بيع هذه الطائرات أرقاماً خيالية وكذلك الصين وإسرائيل هما من بين أكثر الدول المُصدرة للمُسيّرات.
ويمكن القول إن هذا السلاح يتطور سواء بتنويع الأهداف بفضل الذكاء الإصطناعي، أو من خلال السعي إلى إيجاد أسلحة مضادة للمسيرات، وهذه مهمة وضعتها العديد من الدول ضمن أولوياتها وخاصة بتحريك أسراب من المسيرات (مئات) في لحظة واحدة للقيام بأهداف المراقبة والإعتراض والمطاردة.
المسيّرات “سلاح رخيص وسهل الاستخدام، وستُشكّل العمود الأساسي في أي صراع”، كما تقول وزيرة الدفاع الألمانية السابقة أنيغريت كرامب ـ كارينباور، فيما يلخّص المحلل في المعهد الأسترالي الاستراتيجي، مالكوم ديفيز نتائج حرب ناغورنو كاراباخ بأنها أسّست لقواعد متغيّرة في أي حربٍ بريّة مستقبلاً.