أراد جو بايدن من جولته أن تكون الطلقة الأخيرة في الجهود الديبلوماسية الرامية إلى إحياء الإتفاق النووي مع إيران. هكذا يوحي “إعلان القدس” الذي يمكن تفسيره بتهديد غير مباشر لإيران وبتطمين لإسرائيل عندما نص على أن الولايات المتحدة ستستخدم “كل قوتها الوطنية” لمنع إيران من إمتلاك سلاح نووي. تكرر الأمر في البيان الأميركي السعودي المشترك بتأكيده “على أهمية منع إيران من الحصول على سلاح نووي”. في كل المقابلات التي أجرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية مع بايدن، كان يُسأل، هل واشنطن مستعدة لإستخدام القوة ضد إيران، وكان الجواب أن اللجوء إلى القوة “هو الخيار الأخير”.
ويبدو أن وضع بايدن خيار القوة على الطاولة، كان بمثابة إستدراك لعدم إشارته في المقال الذي نشرته له صحيفة “الواشنطن بوست” عشية جولته، إلى هذا الخيار وتركيزه على تشديد العقوبات الإقتصادية في حال فشلت مفاوضات فيينا، الأمر الذي أثار إستياء بعض المسؤولين في إسرائيل.
وذهب بايدن في معرض تطمين إسرائيل إلى حد الإعلان صراحة، أنه إذا كان ثمن العودة إلى الإتفاق النووي، شطب الحرس الثوري الإيراني من اللائحة الأميركية للتنظيمات الإرهابية الأجنبية، فإن واشنطن لن تقدم على هذه الخطوة ولو أدت إلى فشل المفاوضات.
الملاحظ أنه برغم النبرة المتشددة في خطاب بايدن، فإنه لم يذهب إلى حد نعي المفاوضات، مما يوحي بأنه لا يزال ثمة أملاً أميركياً ولو واهياً بإحتمال التوصل إلى إتفاق مع إيران على وقع أجواء السخونة السائدة وفي ظل تصاعد التهديدات المتبادلة. والقنوات الخلفية لا تزال ناشطة بين الجانبين وتشمل قطر وسلطنة عمان والممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل والوسيط الأوروبي انريكي مورا. هذا ما صرح به الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني قبل يومين. وعلى رغم أن باريس حذرت من إنغلاق نافذة الفرص “خلال أسابيع” أمام إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، فإنها لم تتحدث عن وقف التفاوض.
من مصلحة أميركا التهدئة في المنطقة وإقناع إسرائيل بعدم الذهاب إلى عمل عسكري ضد إيران، بينما لا تزال ثمة إمكانية للعودة إلى المفاوضات. وربما كان هذا الهدف من وراء رسائل التطمين الأميركية لإسرائيل ولمغريات “دمجها” في المنطقة
ومن أوراق الضغط الأميركية على إيران، العمل الأميركي على ما سماه بايدن “دمج” إسرائيل في الشرق الأوسط وتعزيز إتفاقات إبراهام. وفي وقت يبدو أن أميركا صرفت النظر عن “ناتو عربي” لعدم واقعيته، فإن رحلة الرئيس الأميركي المباشرة من تل أبيب إلى جدة، وإعلان السعودية فتح مجالها الجوي أمام كل الرحلات الجوية المدنية والترحيب الإسرائيلي بسيادة المملكة على جزيرتي صنافير وتيران في البحر الأحمر، يعتبرها البيت الأبيض إنجازات في مجال الدفع نحو قيام نوع من العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وإن كانت لا تصل إلى حد التطبيع الكامل.
من مصلحة أميركا التهدئة في المنطقة وإقناع إسرائيل بعدم الذهاب إلى عمل عسكري ضد إيران، بينما لا تزال ثمة إمكانية للعودة إلى المفاوضات. وربما كان هذا الهدف من وراء رسائل التطمين الأميركية لإسرائيل ولمغريات “دمجها” في المنطقة. ومن اللافت للإنتباه حديث “النيويورك تايمز” خلال الزيارة، عن تجدد الخلافات داخل إسرائيل بين المستوى العسكري الذي يؤيد العودة إلى إتفاق 2015 وبين المستوى السياسي الذي يرفض الإتفاق من أساسه.
ملف النفط
وإلى الملف النووي وتشابكاته، تبقى المسألة الأساسية الأخرى التي تشكل جوهر جولة بايدن، ألا وهي إقناع الخليجيين بزيادة إنتاج النفط للتخفيف من أعباء الشتاء المقبل على حلفائه الأوروبيين، لأن “الوحدة” عبر الأطلسي التي يفاخر بها الرئيس الأميركي، مهددة بالتجمد في الصقيع الأوروبي القادم، من دون غاز روسي!
وفي سبيل ذلك، شكّلت المصالحة (والمصافحة) مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ممراً إلزامياً لإستقرار أسواق الطاقة. كان بايدن أمام خيارين: إما المخاطرة بإنقسام الأوروبيين أو سلوك الواقعية السياسية بمصالحة السعودية والتذكير بـ”الشراكة التاريخية” بين البلدين منذ عهدي الرئيس فرنكلين روزفلت والملك عبد العزيز.
وها هو بايدن وبرغم معارضة شريحة واسعة من الحزب الديموقراطي، يعود إلى الشراكة الإستراتيجية مع السعودية ويطوي صفحة “إعادة ضبط العلاقات” التي أطلقتها الإدارة الأميركية الحالية بسبب حرب اليمن وقضية مقتل الصحافي السعودي جمال الخاشقجي. وهناك تفكير جدي في أروقة البيت الأبيض بمعاودة تزويد الرياض بأسلحة هجومية، في مقابل زيادة إنتاج النفط بكميات تؤدي إلى تأمين حاجة السوق الأوروبية وإنخفاض الأسعار لكبح موجات غير مسبوقة من التضخم في الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن بصرف النظر عن العبارات العمومية التي تضمنها البيان الأميركي السعودي مثل إلتزامهما “باستقرار أسواق الطاقة العالمية” وترحيب الولايات المتحدة “بالتزام المملكة العربية السعودية بدعم توازن أسواق النفط العالمية”، هناك سؤال ملح: هل النفط الخليجي كافٍ لتعويض الطاقة الروسية لأوروبا؟ هذا أمر لو كان جائزاً من الناحية النظرية، فإنه يحتاج إلى سنوات. فأين تذهب أوروبا في هذه الأثناء؟
قمة طهران.. لماذا الآن؟
وفي عالم يُعاد تشكيله على وقع الحرب الروسية-الأوكرانية، لم يعد الملف النووي بعيداً عن الحرب الباردة الجديدة الأميركية-الروسية. كذلك يُفهم من القمة الثلاثية التي تستضيفها طهران الثلثاء بين الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
صحيح أن عنوان القمة البحث في تطورات الوضع في سوريا في ضوء التهديد التركي بعملية عسكرية جديدة في منبج وتل رفعت بريف حلب، لكن توقيت القمة، أرادت منه إيران إقامة توازن مع جولة بايدن، وأن تبعث برسالة مفادها أن طهران باتت جزءاً من عالم إهتزت فيه الأحادية القطبية التي تمتعت بها الولايات المتحدة منذ ما يربو على 30 عاماً.
سخونة الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، مؤشر واضح على العقبات التي يمكن أن تعترض الخطط الاميركية في الأسابيع المقبلة. وأي حريق في المنطقة لن يصب في مصلحة الولايات المتحدة، لأنه سيُشتّت الإنتباه عن الجبهة الأوكرانية، ويهدد فرص تعويض مصادر الطاقة الروسية
وليس مصادفة أن تأتي قمة طهران، مع إعلان البيت الأبيض عن عزم طهران بيع روسيا مسيرات إيرانية. خبر لم تنفه إيران ولم تؤكده، بينما ساد الغموض من الجانب الروسي. ومهما يكن من أمر، فهذا دليل على تشابك جديد في المصالح بين روسيا وإيران في عالم ما بعد الحرب الروسية-الأوكرانية.
وعلى الجانب التركي، ليس مصادفة أن تحرز المفاوضات الرباعية التي رعتها أنقرة لضمان طريق آمن لصادرات الحبوب الروسية والاوكرانية، تقدماً ملحوظاً قبل القمة. ورقة الأمن الغذائي في العالم يبدو أن بوتين قرر منحها إلى تركيا والأمم المتحدة وليس لطرف يتخذ موقفاً منحازاً في الحرب.
على أن هذا ليس كل شيء بالنسبة لتركيا، فالهدية الروسية لأردوغان، قد يقابلها صرف نظر عن العملية العسكرية في ريف حلب، على أن تمتد الصفقة لتشمل إنتشاراً للجيش السوري والقوات الروسية في المنطقة. ولن تقف واشنطن متفرجة، وهي في إمكانها إفساد الصفقة الروسية-التركية، إذا أوعزت لحلفائها من الأكراد السوريين بعدم التعاون مع دمشق وموسكو، وتالياً يبقى الخيار العسكري التركي قائماً.
وبديهي أن تصطدم جولة بايدن بقمة طهران، سواء في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني، أو بنقل نفط الشرق الأوسط إلى أوروبا. وسخونة الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، مؤشر واضح على العقبات التي يمكن أن تعترض الخطط الاميركية في الأسابيع المقبلة. وأي حريق في المنطقة لن يصب في مصلحة الولايات المتحدة، لأنه سيُشتّت الإنتباه عن الجبهة الأوكرانية، ويهدد فرص تعويض مصادر الطاقة الروسية.