هل تُفضي المواجهة البرية في غزة إلى.. طوفان جديد؟

أعادت عملية "طوفان الأقصى" خلط الأوراق لدى الأميركيين والإسرائيليين، ووضعت المنطقة - وليس فقط قطاع غزة - على حافة مواجهة مفتوحة على إحتمالات مختلفة.

من الواضح أن عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 ضربت عميقاً في هيكل الردع الإسرائيلي وصدّعت توازن المجتمع الإسرائيلي. ولولا الإستنفار الأميركي العاجل، سياسياً وعسكرياً، لبانَ الإنزياح في المعسكر العربي المُطبّع مع إسرائيل بعدما رأى من ضعفها وتشتُّت قواها بفعل تلك الضربة النوعية في عقر “دارها”.

الحضور الأميركي

منحت أميركا حليفتها الإستراتيجية إسرائيل رخصة القتل الجماعي والتدمير الشامل في قطاع غزة للتعويض عن فشل تل أبيب العسكري والإستخباراتي ولتمكينها من استعادة توازنها الذي اختلّ على شكل فقدان ثقة بالقادة السياسيين والعسكريين والأمنيين. وصار الظهور اليومي للمسؤولين الأميركيين لتأكيد المساندة لإسرائيل ضرورةً لا بد منها، مع إرفاقها بتأكيد الدعم التسليحي لها، بل وإعلان حضور أميركا بنفسها عسكرياً إلى جانب اسرائيل كتفاً إلى كتف لردع أي طرف إقليمي ولا سيما إيران وحزب الله إذا تحركا للقتال إلى جانب المقاومة الفلسطينية.

إذا اقتحم الجيش الإسرائيلي غزة ولم يتمكن من تحقيق نصر واضح ولا سيما إذا بقيت “حماس” على قيد الحياة، فسيصبح 7 تشرين الأول/أكتوبر تاريخاً لبداية إنتهاء أسطورة القوة الإسرائيلية الجبّارة

وتشي الكثير من المعطيات بأن الولايات المتحدة فوجئت من تداعيات الزلزال الإسرائيلي الناتج عن “طوفان الأقصى”، فقرّرت تغطية الرد الإسرائيلي العاجل، بالغاً ما بلغ من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ما دام أن اسرائيل لا تملك جواباً عسكرياً فورياً على هذه النكبة الأولى من نوعها أمام المقاومة الفلسطينية. وتُزمع واشنطن العمل بكل جهد ممكن من أجل ضمان استعادة جيش الاحتلال المبادرة العسكرية لاحقاً على شكل عملية برية تعقب تدمير أجزاء من القطاع (شماله في مرحلة أولى) وجعلها أرضاً محروقة، بهدف استثمارها في ترتيبات أمنية مريحة لإسرائيل وترتيبات سياسية تتوافق مع الجهود التي سبقت “طوفان الأقصى” والقائمة على تطبيع العلاقات بين اسرائيل والسعودية، ولو ان هذه الترتيبات اهتزّت بفعل تداعي الوضع الإسرائيلي وظهور نقاط ضعف خطيرة لا تحفّز أي طرف عربي على إقامة تحالف مع “حصان خاسر”. من هنا، فإن الإدارة الأميركية لن توفر فرصة لإعادة تقوية إسرائيل ولو حصل ذلك على جماجم الفلسطينيين.

على أن واشنطن حقّقت نقطة على هامش ما يجري في غزة، إذ تمكنت من فرض خيار إقامة “حكومة وحدة” بين بنيامين نتنياهو ومعسكر بيني غانتس بدلاً من حكومة تجمع كل أقطاب اليمين المتطرف. وهذا كان مطلباً أميركياً قبل العملية الفلسطينية وذلك من أجل تشجيع ما تبقى من أنظمة عربية على إقامة علاقات مع اسرائيل ومنح السلطة الفلسطينية بعض المكاسب في شكل يُهدّئ المقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية. ويمكن القول إن نتنياهو لم يكن في وضع يستطيع فيه هذه المرّة رفض الطلب الأميركي لسببين: الأول؛ يتمثل بالحاجة الماسّة إلى المساندة العسكرية والسياسية والقانونية في الساحة الإقليمية والدولية، وهذا ما تعهدت أميركا بتوفيره. الثاني؛ الحاجة إلى تحصين نفسه من المساءلة الداخلية بعد هذه الهزيمة المدوية، حيث يأمل أن يتيح له انتصارٌ ما بدعم أميركي أن يخرج بأقل الأضرار ويعيد إنتاج صورة “إسرائيل قوية” بقيادته!

خيارات العدو    

صعدت إسرائيل إلى أعلى الشجرة في تحديد أهدافها العسكرية، وتتمثل بالقضاء على القدرة العسكرية للفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة “حماس” وتعطيل قدرات الحكم لدى الحركة التي تسيطر على القطاع. وهذا الهدف المركزي، إضافة إلى استعادة الأسرى، يضع الإحتلال الاسرائيلي أمام احتمال تكرار مأزق مشابه لما جرى في حرب 2006 على لبنان. يومها، وضعت إسرائيل – بدافع من الشعور بالخزي بعد أسر إثنين من جنودها وقتل عدد آخر وبشراكة كاملة مع الأميركيين – هدفاً مركزياً يتمثل بتفكيك قدرات حزب الله العسكرية وإقامة منطقة خالية من السلاح بعمق 40 كلم داخل لبنان، إضافة إلى استعادة الأسيرين. ولمّا لم يتحقق أيٌ من هذه الأهداف، اضطر جيش الإحتلال إلى القبول بوقف العمليات الحربية، على الرغم من تلقيه مساندة أميركية تسليحية وسياسية.

ومن غريب المشابهات أن اسرائيل تعِدُ اليوم بـ”تغيير وجه الشرق الأوسط” بعد المواجهة في غزة، تماماً كما كانت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليسا رايس تُبشّر خلال حرب 2006 بولادة “شرق أوسط جديد” بعد هذه الحرب.

ولا بد من القول إن كل ما تفعله إسرائيل في غزة من تدمير وحشي منذ أيام ليس بديلاً عن عمل عسكري بري يؤدي – وفق ما تأمل – إلى إعادة إحتلال جزء من أراضي القطاع:

أولاً؛ إذا لم يقتحم جيشها غزة، فسيبقى يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر وصمة عار في جبين كل إسرائيلي، من نتنياهو إلى آخر مستوطن.

ثانياً؛ إذا اقتحم جيشها غزة ولم يتمكن من تحقيق نصر واضح ولا سيما إذا بقيت “حماس” على قيد الحياة، فسيصبح 7 تشرين الأول/أكتوبر تاريخاً لبداية إنتهاء أسطورة القوة الإسرائيلية الجبّارة.

ثالثاً؛ إذا اقتحم جيشها غزة وسيطر على مجمل القطاع، فسيكون هذا الإحتلال عبئاً إضافياً على إسرائيل التي كانت تتمنى ذات يوم ان تستفيق وتجد القطاع وقد غرق في البحر. ذلك أن التعامل مع عشرات آلاف المقاتلين المستعدين للتضحية والمدرَّبين والمجهَّزين بأسلحة فتاكة هو بمثابة سيناريو مخيف لطالما حاول جيش الإحتلال تحاشي مقاربته أو بلوغه في السنوات الماضية.

ويتضح من تطورات الساعات الماضية أن جيش العدو قرّر تحويل منطقة شمال القطاع حتى وادي غزة في الوسط إلى أرض محروقة وتهجير أهلها إلى الجنوب قرب الحدود مع مصر. وهنا يُصبح الوضع العسكري المرتقب مفتوحاً على إحتمالين:

أولاً؛ إقامة منطقة عازلة بين ما تبقى من أراضي القطاع والمستوطنات الإسرائيلية في محيط غزة، وهذا ما سيتسبب – وفق وجهة النظر الاسرائيلية – بضغط هائل على سكان القطاع فوق ما يعانونه من أعباء حياتية صعبة منذ فترة طويلة، وإلى خلق تعقيدات ميدانية على حركة المقاومة. وهنا قد يكتفي العدو بهذا “الإنجاز” في حال لم يتمكن من تحقيق الهدف الأكبر وهو القضاء على المقاومة عسكرياً.

إقرأ على موقع 180  فلسطين بين نكبتين.. كيف يفهم العرب الحدث وتداعياته؟

ثانياً؛ دفع دول عربية، ولا سيما مصر إلى تحمّل المسؤولية المباشرة عن القطاع، وبالتالي العودة إلى ما قبل حرب العام 1967 حين كانت غزة تحت الحكم المصري. غير أن موقف القيادة المصرية حتى الآن يشير إلى رفض فتح الأبواب أمام أي عملية “ترانسفير” للفلسطينيين من القطاع نحو سيناء.

ويبدو أن الخيار العسكري سيستغرق وقتاً ليس بقصير، وفق تقديرات مسؤولين عسكريين إسرائيليين، مما يجعل الإحتمالات مفتوحة وغير يقينية بالمآلات المستقبلية. وقد استدعى جيش العدو ما يصل إلى 300 ألف جندي من قوات الإحتياط، وهو أكبر عدد يتم استدعاؤه منذ عقود. ويعود ذلك إلى تقديرات بطول أمد الحرب وقرار نشر قسم من القوات على طول الحدود مع لبنان والجولان تحسباً لاندلاع مواجهة على هذه الجبهة أيضاً.

ليس واضحاً ما اذا كانت القيادات العليا في محور المقاومة على علم مسبق بعملية “طوفان الأقصى”، لكن عُلم من مصادر فلسطينية أن بعض القيادات السياسية في حركة “حماس” في الخارج لم تكن في صورة العملية مسبقاً، فضلاً عن فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى

خيارات المقاومة  

بالطبع، تتجه الأنظار إلى ما سيفعله حلفاء “حماس” في محور المقاومة في مواجهة هذا التحدي المصيري للجبهة الأمامية الأولى في المحور، وهي جبهة غزة. من الواضح على هذا الصعيد أن “المحور” سيعمل لكي تخرج غزة من هذه الحرب مرفوعة الرأس من خلال إحباط أهداف العدوان والحفاظ على وجود المقاومة التي تُعتبر الأمل الأخير للشعب الفلسطيني بعدما تم شطبه من جانب الخطط السلمية الدولية وأولويات الحكومات العربية التي تهرول تباعاً نحو التطبيع مع العدو. ولا يمكن معرفة الخطوات التي سيُقدم عليها أطراف المحور لمساندة المقاومة الفلسطينية، غير أنه يَنظر إلى ما يجري باعتباره معركة أساسية سترسم بنتائجها خريطة سياسية جديدة للمنطقة، وليس لقطاع غزة أو للقضية الفلسطينية فحسب. ومن هنا، يتحتم عليه السعي بكل الجهد الممكن لكسر شوكة العدوان ومنع إسرائيل من تحقيق أهدافها.

غير أن الوجود الاميركي المباشر في المنطقة وصعوبة التواصل الجغرافي مع القطاع يُمثلان تحدياً للمعونة المباشرة. ويبقى احتمال فتح جبهات أخرى خياراً مطروحاً.

ومن الطبيعي أن أنظار الكثيرين تتجه إلى حزب الله كونه يقف على الجبهة الأقرب إلى فلسطين. وفي هذا المجال، يلتزم حزب الله سياسة غموض مقصودة لإرباك الحسابات الإسرائيلية والأميركية. وفي الواقع، يُوفّر حزب الله الغطاء لفصائل المقاومة الفلسطينية لتنفيذ عمليات ضد العدو على الجبهة الشمالية إنطلاقاً من الأراضي اللبنانية، وهو من جهة أخرى يترك جيش الإحتلال في حال استنفار ويُجبره على دفع قسم كبير من قواته إلى هذه الجبهة لتخفيف العبء عن قطاع غزة. ومن جهة ثالثة، يُسخّن حزب الله الجبهة عبر عمليات موضعية من خلال استهداف مواقع في مزارع شبعا المحتلة والرد على إعتداءات إسرائيلية كتلك التي أدت إلى استشهاد ثلاثة من مقاتليه في الأيام الأخيرة.

وأدى هذا الغموض العسكري المقصود إلى توتر إسرائيلي كبير ظهر من خلال إخلاء مستوطنات شمالية وتدخل أميركي علني عبر جهة ثالثة لإيصال رسائل تحذير إلى حزب الله من الإنخراط في القتال إلى جانب المقاومة الفلسطينية. غير أن الحزب قرّر الإستمرار في سياسة الضغط، وفق حسابات دقيقة. ويترتب على الحزب أن يوازن بين واقع انقسام لبناني حول فكرة المبادرة إلى تحرك عسكري على الحدود الجنوبية، والأخذ في الإعتبار احتمال تعرض لبنان لضرر كبير في حال اندلاع الحرب، وإلقاء آمال واسعة عليه بتخفيف الضغط عن المقاومة في فلسطين، ووجود مصلحة للمقاومة ربما في الإنخراط المباشر بالقتال إذا أصبحت المقاومة في غزة في خطر حقيقي.

على هامش هذا الحديث، ليس واضحاً ما اذا كانت القيادات العليا في محور المقاومة على علم مسبق بعملية “طوفان الأقصى”، لكن عُلم من مصادر فلسطينية أن بعض القيادات السياسية في حركة “حماس” في الخارج لم تكن في صورة العملية مسبقاً، فضلاً عن فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى. وتؤكد فصائل المقاومة التي تتمتع باستقلالية ميدانية وقدرات عسكرية تم تطويرها باستمرار أنها أعدّت خطة دفاعية قوية لمجابهة أي عملية عسكرية برية للجيش الإسرائيلي.

إستنزاف قوات العدو لأطول فترة ممكنة ومنعها من الإستقرار على أرض غزة، وهذا سيُوجد مناخاً أصعب مما واجهه العدو في يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهذا عامل أساسي يُعوَّل عليه لإفشال العدوان

الطوفان الجديد

في الحصيلة، هناك عوامل عدة قد تساعد المقاومة على إفشال أهداف العدوان:

أولاً؛ إستنزاف قوات العدو لأطول فترة ممكنة ومنعها من الإستقرار على أرض غزة، وهذا سيُوجد مناخاً أصعب مما واجهه العدو في يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهذا عامل أساسي يُعوَّل عليه لإفشال العدوان.

ثانياً؛ الوقت المحدود المتاح أمام العملية العسكرية الاسرائيلية البرية، فالعدو ليس معتاداً على الحروب الطويلة لأنها تأتي بخسائر كبيرة في الأرواح وتمسّ بمعنويات جيشه.

ثالثاً؛ التلويح بفتح جبهات عدة من الخارج، مما سيُحدث ضغوطاً إضافية على العدو.

رابعاً؛ تحريك الجماهير العربية، لا سيما في مصر والأردن، مما قد يدفع الأميركيين لإعادة النظر في حساباتهم خوفاً على المشهد العام في المنطقة وتعطّل مشاريع التطبيع نهائياً.

خامساً؛ خشية الولايات المتحدة التي تمسك بمفتاح إنهاء العملية من أن يتسبب طول العملية بتداعيات سلبية على انخراطها في الحرب الأوكرانية وعلى استعداداتها العسكرية في مواجهة الصين.

كل ذلك يقودنا إلى التكهن بطوفان جديد سيحدد ملامح المرحلة المقبلة على نحو لم نشهده من قبل.

Print Friendly, PDF & Email
علي عبادي

صحافي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  إقتحام الكابيتول هيل.. بداية معركة تعطيل بايدن