جورجيا ميلوني سيدة روما.. هل تصبح سيدة أوروبا؟ 

مع ترسيخ أحزاب اليمين المتطرف أقدامها أكثر في البرلمان الأوروبي، بدأت الأنظار ترنو إلى رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني التي تقود حكومة يمينية متشددة منذ عام 2022، بوصفها الزعيمة الأوروبية، التي أثبتت قدرة على إمساك العصا من المنتصف والتعاطي ببراغماتية مدهشة مع المؤسسات القارية مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.      

في العام 2019، هتفت ميلوني زعيمة حزب “إخوة إيطاليا” ذي الجذور الفاشية، خلال مشاركتها في مؤتمر للأحزاب المحافظة في الولايات المتحدة: “أسقطوا الاتحاد الأوروبي”، الذي اعتبرته مسؤولاً عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها إيطاليا.

وعندما تصدر حزب ميلوني الانتخابات التشريعية في 2022، حبست أوروبا أنفاسها وصار في حكم المؤكد أن المرأة التي قالت ذات مرة إن سياسات الديكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني لم تكن كلها خاطئة، ستتولى رئاسة الوزراء في ثالث أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي. وتوقع كثيرون أن تكون إيطاليا، بعد بريطانيا، هي الدولة المرشحة للخروج من الاتحاد.

خالفت سيدة روما الجديدة التوقعات، وإذ بها تقصد مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسيل في أول زيارة خارجية لها بعد تقلدها منصبها رسمياً. كثيرون فسّروا ذلك، بأنه من قبيل إدراكها الحاجة الماسة لبلادها، التي انهكها وباء كورونا وأثقلت عليها الديون، إلى المليارات من اليورو التي خصّصها الاتحاد كخطة لإنعاش اقتصادات الدول الأعضاء بعد مرحلة الإغلاقات في زمن كوفيد-19.

من سيمسك بالكتلة اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي الجديد، وذلك في ظل توقعات بحصول التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا بزعامة مارين لوبن على المركز الأول وضعفي ما سيحصل عليه حزب النهضة بزعامة ماكرون، ومع توقع حلول “البديل من أجل ألمانيا” على المركز الثاني في ألمانيا، ناهيك عن أداء قوي لأحزاب اليمين المتطرف في دول أخرى

وبمرور الأيام، أظهرت ميلوني انسجاماً غير متوقع مع سياسات الاتحاد الأوروبي، ولم تنضم إلى رئيس الوزراء المجري الشعبوي فيكتور أوربان في التصدي لقرارات بروكسيل والخروج على الاجماع والتهديد بالفيتوات. بل كُلفت أكثر من مرة باقناع الزعيم المجري المشاكس بتليين موقفه، وتحديداً في السياسات المتعلقة بتشديد العقوبات على روسيا وتعزيز حزمات المساعدات العسكرية والاقتصادية لكييف.

فون دير لاين وميلوني

كل ذلك، يعكس نقلة في مواقف ميلوني من اليمين المتشدد نحو اليمين بمعناه التقليدي، وغابت عن خطاباتها السياسية النبرة القومية والدولة-الأمة، ليحل محلها الانخراط في بناء المشروع الأوروبي. وهذا ما أفسح في المجال أمام قيام تعاون مجدٍ بين رئيس الوزراء الإيطالية ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين المغرقة في أوروبيتها. وإذ بها تجد نفسها في تلاقٍ عن بعد مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يتزعم التيار الوسطي في أوروبا.

وازدادت الحاجة إلى ميلوني، مع صعود اليمين المتطرف في فرنسا وفي ألمانيا وهولندا والنمسا وغيرها من الدول الأعضاء في التكتل الأوروبي، وصار السؤال الملح من سيمسك بالكتلة اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي الجديد، وذلك في ظل توقعات بحصول التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا بزعامة مارين لوبن على المركز الأول وضعفي ما سيحصل عليه حزب النهضة بزعامة ماكرون، ومع توقع حلول “البديل من أجل ألمانيا” على المركز الثاني في ألمانيا، ناهيك عن أداء قوي لأحزاب اليمين المتطرف في دول أخرى.

لكن قوى اليمين المتطرف منقسمة إلى كتلتين في البرلمان الأوروبي. هناك كتلة “المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين” التي تنتمي إليها ميلوني، وهناك كتلة “الهوية والديموقراطية” التي تضم لوبن، والتي طردت “البديل من أجل ألمانيا” عقب اتهامات لهذا الحزب بالمشاركة في اجتماعات مع شخصيات نازية واعداد برنامج لترحيل الأجانب في حال الوصول إلى السلطة.

وتتبنى الكتلة الأولى موقفاً مؤيداً لدعم أوكرانيا، بينما تبدو الكتلة الثانية أكثر مرونة بإزاء روسيا.

وترى ميلوني أن الانتخابات الأوروبية التي بدأت في 6 حزيران/يونيو وتنتهي اليوم (الأحد) “تُمثّل نقطة تحول وبمثابة استفتاء على رؤيتين متعارضتين لأوروبا”.

ويُنظَر إلى ميلوني بعد الآن على أنها “صانعة الملوك” في أوروبا، نظراً إلى الدور الذي ستلعبه في دعم فون دير لاين في البرلمان الأوروبي للفوز بولاية ثانية على رأس المفوضية الأوروبية. وهذا ما سيمنحها تأثيراً أكبر على القرارات التي ستتخذ في بروكسيل مستقبلاً.

وميلوني وفون دير لاين هما في الموقع نفسه المؤيد لمواصلة الدعم الأوروبي لأوكرانيا، الأمر الذي يُوفّر مساحة أكبر للتعاون في هذا المجال بين ماكرون وميلوني، أكثر مما هو متوافر بين الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني أولاف شولتس.

مارين لوبن وميلوني

وفي وقت يُحذّر ماكرون من أن أوروبا، المتخلفة كثيراً عن الولايات المتحدة والصين، اقتصادياً وتكنولوجياً، “يمكن أن تذبل وتموت” في حال لم تحدث تحولاً في سياساتها، فإن ثمة فرصة لتوحيد الجهود مع ميلوني “لإنقاذ القارة”، وفق ما يرى الكاتب لورنزو مارسيلي في صحيفة “الغارديان” البريطانية، ويضيف أن لوبن وزعيم حزب “الحرية” الهولندي غيرت فيلدرز يعتبران “أن مشكلة أوروبا تكمن في الإفراط في المساجد وتوربينات الرياح، وليس في الافتقار إلى السياسات الاقتصادية والخارجية الطموحة”.

إقرأ على موقع 180  عندما تفضح فلسطين عجزنا.. وبلادتنا!

وفي استطلاع رأي أجرته صحيفة “سكومودو” الإيطالية تبين أن نسبة 65 في المئة من الإيطاليين تحت سن الـ35 يؤيدون توثيق العلاقات مع أوروبا. وقد تُفسّر هذه النتائج الانقلاب في مواقف ميلوني، شرط أن “يكون الاتحاد الأوروبي شريكاً للدول القومية، وليس بنية فوقية تخنق الدول القومية”.

أياً تكن نتائج الانتخابات الأوروبية، فإن مجلة “الإيكونوميست” البريطانية توقعت أن يتوقف مستقبل أوروبا على ثلاث نساء هنّ جورجيا ميلوني وفون دير لاين ومارين لوبن

السؤال الآن، إلى أي مدى يمكن أن تُؤثر ميلوني على لوبن التي ستعزز كتلتها في البرلمان الأوروبي وتتوقع استطلاعات الرأي أن تحرز ما فوق الـ50 في المئة في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2027؟

أصلاً، تبنت لوبن في الأعوام الأخيرة لهجة أقل عدائية ضد الاتحاد الأوروبي، وهي تقترب من التخلي عن فكرة طرح استفتاء على عضوية فرنسا في الاتحاد أو على البقاء في منطقة اليورو، مع احتفاظها بالحذر إزاء حلف شمال الأطلسي، وهو موقف يُميّز إجمالاً مواقف الكثير من السياسيين الفرنسيين، الذين يبدون أكثر طموحاً إلى الاستقلال عن الحماية الأميركية.

ويبقى أن اليمين المتطرف بكافة أطيافه وفروعه، قد يُمعن في تغيير وجه أوروبا، كنتيجة لإخفاقات الحكومات المنتمية إلى تيارات اليمين ووسط اليمين ووسط اليسار على مدار عقود. وإذا بالقارة التي تقرع أبوابها أخطر حرب منذ الحرب العالمية الثانية، يقودها الاستياء من الحكومات الحالية إلى سياسات كان يُظَنُّ أنها دفنت مع أدولف هتلر وموسوليني وفرانشيسكو فرانكو، على ما رأى تحقيق مطول في موقع “بوليتيكو” الإخباري الأميركي، الذي ينظر إلى تحولات أوروبا على أنها مقدمة لملاقاة “لحظة” دونالد ترامب في الولايات المتحدة في حال عاد الرئيس السابق إلى البيت الأبيض في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.

أكثر ما شغل اهتمام الرئيس الأميركي جو بايدن في احتفالات الذكرى الـ80 لإنزال النورماندي في فرنسا قبل أيام قليلة، هو التحذير من خطر عودة تيار “العزلة” في الولايات المتحدة. وهذه رسالة تحذير لأوروبا التي صارت على اقتناع بأن عليها الاتكال أكثر فأكثر على حماية نفسها.

وأياً تكن نتائج الانتخابات الأوروبية، فإن مجلة “الإيكونوميست” البريطانية توقعت أن يتوقف مستقبل أوروبا على ثلاث نساء هنّ جورجيا ميلوني وفون دير لاين ومارين لوبن.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  حرب غزة تُغيِّر أولويات بايدن؛ الصين تتجرأ.. وأوكرانيا مُحرجة!