“مفردات لغوية” تتطاير بين بيروت وتل أبيب!

الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل أمر واقع لا محالة، فرضته معادلة "رابح/ رابح" لكل أطراف المعادلة، وهم أميركا وأوروبا ولبنان وإسرائيل.

حتماً ثمة توقيت قاتل للترسيم. يريده الأميركي قبل نهاية هذا الشهر لإعتبارين، أولهما لبناني، وذلك مخافة نشوء واقع دستوري يحول دون توقيع إتفاق الترسيم في الأشهر المقبلة من الفراغ الرئاسي المُحتم، إذ سينبري من يُشكّك في أحقية هذا أو ذاك بالتوقيع، كما في شرعية الحكومة أو عدمها، بينما تكفي صورة الرؤساء الثلاثة مجتمعين لتضفي مشروعية أكبر من شرعية مؤسسة مجلس الوزراء مجتمعاً.

أما ثاني الإعتبارات فهو إسرائيلي ويتصل بالإنتخابات المبكرة المقررة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وما يمكن أن تفرزه من معطيات قد تجعل زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، يسعى إلى تثبيت ما طرحه من شعارات إنتخابية بوجه حكومة يائير لابيد، وبينها رفض الترسيم البحري مع لبنان.

ولا يجب إهمال التوقيت الطاقوي الأميركي، وهو بات أكثر إلحاحاً في ضوء القرار الذي إتخذته دول “اوبك +” بخفض إنتاجها النفطي، وهو قرار إعتبره الأميركيون موجهاً ضد إدارة جو بايدن على مسافة أقل من شهر من موعد الإنتخابات النصفية الأميركية، وجعلهم أكثر تحفُزاً لإنجاز الإتفاق بين لبنان وإسرائيل قبل نهاية هذا الشهر، بدليل الدينامية التي شهدها مسار المفاوضات في الساعات الثماني والأربعين الماضية، ولعب فيها الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين دورا بارزاً، بين بيروت وتل أبيب من جهة وبين باريس وتل أبيب من جهة ثانية، من أجل حسم الإشكاليتين الأساسيتين المتعلقتين بخط الطفافات والشق الإستثماري المتعدد الأبعاد في جنوب حقل قانا.

إذا ما عُدنا إلى أصل المشكلة أو الخطيئة التي ارتكبتها الدولة اللبنانية باعتمادها الخط 23 بدل الخط 29 يكون لبنان هو الخاسر الأكبر ولا انجاز ولا انتصار ولا من يحزنون

وكان لافتاً للإنتباه تفاهم جميع الأطراف على إحاطة المفاوضات بالكتمان الشديد، وإكتفى أحد المعنيين بالقول لـ”180 بوست” إن هذه المرحلة هي للعمل ومصلحة لبنان تقتضي عدم الكلام، وأضاف “الأمر لا يتعلق بتبادل مسودات خطية بين الجانبين، بل بالتدقيق بمفردات لغوية لا أحد يُقلّل من أهميتها، ولكن الفرصة ما زالت متاحة لإنجاز الإتفاق”.

وحين تقرأ الصحافة الإسرائيلية تخرج بإنطباع أن الإسرائيلي يقول الشيء وعكسه، لكن ما يُجمع عليه أغلب المعلقين أن لبنان حقق إنجازاً كبيراً، وإن العدو رضخ لتهديدات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وتنازل عن مساحات بحرية مهمة في مياهه الاقتصادية لمصلحة الدولة اللبنانية،

وفي حقيقة الأمر، إذا كان معيار التقييم هو الخط 23، فإن العدو الإسرائيلي رضخ لمعادلة نصرالله، وتنازل، وقَبِل بالخط 23، وأعطى لبنان الجزء الجنوبي من حقل قانا المذكور مع الاحتفاظ بحق التعويض عليه من أرباح الشركة الفرنسية المنقبة (توتال).. إلى هنا كلام سليم، ولكن إذا ما عُدنا إلى أصل المشكلة أو الخطيئة التي ارتكبتها الدولة اللبنانية باعتمادها الخط 23 بدل الخط 29 يكون لبنان هو الخاسر الأكبر ولا انجاز ولا انتصار ولا من يحزنون.

صحيح ان حزب الله إستغل لحظة دولية مؤاتية، لكن كان بالإمكان استغلالها للآخر، ولا ينقصه من القوة والإرادة شيء، فيما لو كانت الدولة اللبنانية عدّلت المرسوم 6433 واعتمدت الخط 29 الذي أصرّ عليه الوفد اللبناني المفاوض برئاسة العميد المتقاعد بسام ياسين، والذي توصل إلى نتيجة مفادها؛ أن حدود لبنان تبدأ من خط 29 وليس من خط 23، مُدعّمة بخرائط ووثائق تاريخية ومُستندة إلى قانون البحار وإتفاقية بوليه نيوكمب وخط الهدنة والخط الأزرق، حيث استفاد الوفد من دراسة بهذا الخصوص كان قد أعدّها سابقاً أحد أعضائه، العقيد مازن بصبوص.

وأما ذريعة القيّمين على ملف الترسيم من الجانب اللبناني بأنهم ساروا على قاعدة “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، ولذلك استبعدوا الوفد المفاوض الذي لا يمكنه أن يلبي مطالبهم، والذي يمكن تسميته بوفد الخط 29، واستبدلوه بفريق محيط بالترويكا الرئاسية يؤمن ويدافع بكل ما أوتي من قوة عن الخط 23، وهذا ما يقودنا إلى سؤال: هل فعلاً انتزعنا حقنا من هذا الجزء؟ وهل ثمة من يقتنع أن شركة “توتال” الفرنسية سوف تخصم من أرباحها بمقدار الثلث للتعويض على إسرائيل من حقل قانا، أم ستخصم من حصة لبنان؟

وعلى قاعدة “الشيء بالشيء يذكر”، ولطالما دخلنا بالتنازلات والمقايضة (المباشرة أو غير المباشرة) في مساحة الـ 1430 كلم2 بين الخطين 23 و29 من جنوب البلوك الرقم 10 حتى جنوب البلوك الرقم 8، كان بإمكان لبنان أن يُطالب بالتعويض أسوة بإسرائيل عن الجزء/الشطر الشمالي من حقل كاريش من شركة انرجيان الإنكليزية ـ اليونانية المنقبة لو تم إعتماد الخط 29 ووضع  بعهدة الأمم المتحدة؟

هذه الخسارة التي مني بها لبنان جرّاء تقاعس قيادته وتنازلها عن جزء يسير من ثروته الغازية في مياهه الاقتصادية، سوف تُنغّص على العهد وحلفائه الاحتفال بالاتفاق، إن حصل، والذي يراد له ان يحفظ ما تبقى من ماء وجه العهد الآيل للرحيل.

إقرأ على موقع 180  "تيار المستقبل": ارتجال التأسيس واختبار المِحن (3/1)

Print Friendly, PDF & Email
مهدي عقيل

أستاذ جامعي، كاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الجائزة الكبرى لقاح كورونا.. كلّ شيء مباح