شظايا “خبطة بوتين” في وسط أوروبا

الحرب في أوكرانيا لها انعكاسات عديدة، حتى ان بعض العلماء والباحثين في مجالات متعددة يرون في الحرب الروسية الأوكرانية التي أطلقها فلاديمير بوتين تحولاً تاريخياً له إنعكاساته على كافة مرافق حياة الكرة الأرضية ولعقود من الزمن.
احدثت “خبطة” بوتين العشوائية هزات إرتدادية في القرية المعولمة الساكنة. في السياسة، يبدو ظاهراً اليوم أن الأحادية القطبية الأميركية قد انكسرت وحل محلها قطب غربي يجابهه قطب صيني متمكن ولكنه متردد في إرساء تحالف مع قطب روسي يتخبط في معارك وسط أوروبا. في الوقت نفسه، أظهرت مجريات التصويت في الأمم المتحدة، أكان في الجمعية العامة أم في مجلس الأمن، بداية تبلور «قطب محايد» قوامه مجموعة دول تريد حماية مصالحها بعيداً عن ملاعب الصراع الغربي-الروسي. كذلك وجب انتظار خروج القطب الهندي من قمقم الصراعات الداخلية الإتنية والدينية، حتى يلاقي الأقرب إلى خياراته إقليمياً ودولياً.
في مجال الطاقة، نرى أن الحرب الروسية الأوكرانية عجلت عملية التحول الصناعية الكبرى، أي إنهاء الاعتماد الكلي على الطاقة الاحفورية (غاز ونفط وفحم حجري) أكان ذلك بسبب الصراع على موارد باتت مرتبطة بأهداف جيوسياسية مثل وقف تصدير الغاز والنفط الروسي إلى السوق الأوروبية أو وقف استيراده من قبل هذه السوق. كذلك استعمال الطاقة لنقل التموضع الجيوستراتيجي مثل التحولات في تحالفات «أوبك بلاس» وانتقال السعودية من حليف إستراتيجي ملتصق بالسياسة الأميركية إلى حليف مرحلي لروسيا.
ولهذا التحول شق آخر هو إدخال نوع من التباين بين الدول المنتمية للحلف الأطلسي (الناتو) فالولايات المتحدة المصدر الأول للغاز المُسَيَّل (NGL) باتت تمسك بتلابيب أوروبا أكان في المجال الصناعي أو بميزان حرارة الدفء في مدنها وأريافها. أميركا تبيع هذه الطاقة بـ«أسعار السوق» العالمية وبالتالي فإن الصناعات الأوروبية باتت عاجزة عن منافسة الصناعات الأميركية ناهيك عن الصناعات الصينية أو الهندية التي تشتري طاقتها من روسيا باسعار تفضيلية (أقل 30% من السعر العالمي).
لا يتردد أحد أساتذة التاريخ في جامعة السوربون من الإشارة إلى أن ما يحدث في القارة العجوز قد بدأ بتوسع رقعة الناتو وثم البريكست وهو شبيه بـ«حروب القرن التاسع عشر» وأن إعادة رسم التحالفات ليست مستبعدة ولكنه لا يجزم إذا كان ذلك سيحصل «قبل أو بعد حرب شاملة»
في المجالات الصناعية، دفعت هذه الحرب الدول الصناعية إلى تنافس متعدد الاتجاهات: ففي حين يرى بعض منتقدي «الدعم غير المحدود» لأوكرانيا أن هذا الدعم يفيد بدرجة أولى الصناعات الحربية الأميركية التي «أفرغت مستودعاتها» من الأسلحة القديمة وتستعد لتلبية طلبات دول أوروبا الشرقية التي تخلصت أيضاً من بقايا الاسلحة السوفياتية بدفعها نحو الساحة الأوكرانية.. لا تتردد واشنطن في إفراغ «السياسة الدفاعية الأوروبية» من مضمونها: فقد تشكلت مجموعة داخل الاتحاد الأوربي تبتعد عن كل سياسات التعاون الصناعي الأوروبية، وتخصص مواردها لشراء صناعات عسكرية أميركية فرضها الخوف من روسيا، لا بل أن بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي خصوصاً دول أوروبا الوسطى بقيادة ألمانيا وبشكل غير مباشر بولندا قد فسخت عقودا للتعاون مع فرنسا وإيطاليا واسبانيا لانتاج مقاتلات وعربات مصفحة أوروبية في سياق ميثاق «الإستقلالية الأوروبية».
ولكن هذه الحرب لها انعكاسات أيضاً على الصناعة الحربية الروسية. فقد «اكتشف» بوتين أن جيشه «دب من ورق» وبعيد عما كان يصنف كقوة عظمى، وأنه مرتبط عضوياً بالصناعات الغربية من ناحية التكنولوجيا كشرائح الحواسيب وعدد غير قليل من مركبات «نانو» المتقدمة. وفي غياب «تعاون صيني» صريح وكثيف لتوريد التكنولوجيا المتقدمة، تطبق روسيا نفس الاستراتيجية التي قامت عليها صناعة الأسلحة خلال العالمية الثانية: استيعاب مسألة التخلف التقني وبث الروح في صناعات التكنولوجية المتقدمة للاعتماد على الذات تماماً كما فعل ستالين حين ترددت بريطانيا واميركا بتزويده بأسلحة متقدمة في ذاك الزمن.  وروسيا قادرة علمياً على هذا التطور ولديها قدرات بشرية ولكن يلزمها وقت. وقد يفسر هذا تحول المعارك في الجبهة إلى «قتال خنادق» وتحصين خيرسون لجعلها «ستالينغراد المُقاوِمة» وانتظار «جنرال الشتاء» حليف روسيا الأبدي.
وكما أشرنا فإن هذه الحرب في وسط أوروبا أعادت خلط الأوراق الجيوسياسية بشكل كامل وخصوصاً في هيكلية اقتصاد الاتحاد الأوروبي وانعكاساته على السياسات الوطنية التي باتت «انعزالية» خصوصاً وسط تعاظم قوة اليمين الشوفيني في كافة دول الاتحاد. حتى لو وضعنا جانبا تفرد هنغاريا بعدم تطبيق العقوبات الاقتصادية على روسيا لأسباب تاريخية وجغرافية، ثمة تحول في العلاقات بين أفراد الاتحاد الأوروبي:
– في حين تنكب المفوضية الأوروبية على تنسيق ميزانية الاتحاد ككل لتتوافق مع ميزانيات الدول الأعضاء ضمن إطار القواعد المنظمة لها، خصوصاً بعد الجهود العملاقة لمساعدة أوكرانيا مالياً، انفردت ألمانيا بإقرار 100 مليار يورو لدعم اقتصادها من خارج ميزانية الاتحاد، ما يشكل خرقاً للتعهدات السابقة وانعدام توازن بين اقتصاديات الدول الأعضاء. وقد شكل هذا التصرف «الأناني» حسب تعليق أحد الوزراء الفرنسيين تململاً بين الدول الصناعية الكبرى ويفسر هذا إلغاء لقاء كان مفترضاً بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز.
– لم تكتف ألمانيا بذلك ولكنها في حين تدعو المفوضية الأوروبية لإعادة توطين الصناعات التي انتقلت إلى الخارج خصوصاً الصين، اتخذت ألمانيا عدة خطوات انفتاح على الصين تحت عنوان «business as usual» فالشركات الألمانية زادت انتاجها في الصين (بي إم في وفولكسفاغن) وسهلت وزارة الاقتصاد احتواذ شركة صينية على 40% من مرفأ هامبورغ بخلاف القوانين الأوروبية التي حددت أن الحد الأعلى للاستثمارات الصينية يجب ألا يتجاوز الـ 10 في المئة!.
هذه العلامات الفارقة في مجالات عدة تنبثق من شظايا الخبطة الروسية في وسط أوروبا وتعيد خلط الأوراق ولا يتردد أحد أساتذة التاريخ في جامعة السوربون من الإشارة إلى أن ما يحدث في القارة العجوز قد بدأ بتوسع رقعة الناتو وثم البريكست وهو شبيه بـ«حروب القرن التاسع عشر» وأن إعادة رسم التحالفات ليست مستبعدة ولكنه لا يجزم إذا كان ذلك سيحصل «قبل أو بعد حرب شاملة».
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "الغاز" و"عُقَد" العَقد المصري.. استجرار "التطبيع"!
بسّام خالد الطيّارة

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في فرنسا

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  عودة الحرائق الإقليمية أو.. إخمادها؟