الوحدة 8200: إقصفوا المدنيين في غزة.. (106)

في هذا الفصل من كتابه "انهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية"، يحاول الكاتب رونين بيرغمان إبراز ما يسميه "البعد الإنساني" لدى بعض جنود الإحتلال من خلال رفضهم تنفيذ أوامر قادتهم عند إستشعارهم عدم قانونية المهام من جهة واستهداف المدنيين من جهة ثانية!.

“تمرد في الوحدة 8200″، هو عنوان هذا الفصل، وفيه يروي بيرغمان قصة أول عملية تمرد في هذه الوحدة الإستخبارية في الجيش “الإسرائيلي”، وبين مهماتها التنصت على أجهزة الإتصالات والهواتف وشبكات التواصل الإجتماعي من أجل تحضير الأهداف تمهيداً لضربها ومن أجل تنفيذ عمليات القتل المتعمد (الإغتيال).

يستهل بيرغمان روايته بنكتة كانت متداولة بين أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” تفيد بأنه عندما يموت أي إنسان وينتقل إلى السماء للمثول أمام الله، يسأل الله القادم الجديد ما إذا كان يريد البقاء في الجنة أو الإنتقال إلى النار، وبعد الإجابة يُصدر الله حكمه. وتفيد النكتة بأنه عادة ما يكون آخر من يمثل أمام الله هو ضابط شبكة الإستخبارات، ووفقاً للمؤسسة العسكرية والاستخبارية فان هؤلاء الضباط هم الذين يلتقطون معلومة صغيرة من بين طوفان هائل من المعلومات اليومية لاعتبارهم أن هذه المعلومة مهمة وتستحق المتابعة، فهم من يحدد ما هو مهم وما هو غير مهم. وبمعنى آخر؛ هم هم يقررون مَن مِن الناس سيمثل أمام عرش الله. وهنا تتابع النكتة، وصل أحد هؤلاء الضباط أمام الله فسأله “أين ينبغي أن تذهب”؟ فأجابه الضابط بانزعاج “لا أريد الذهاب إلى أي مكان. فأنت تجلس على كرسييِّ”!

يعود بيرغمان الى قصة التمرد، فيقول “كان أمير (وهو حسب الكاتب، مجرد اسم وهمي) أحد هؤلاء الضباط. أمير شاب لامع تم تعيينه في الوحدة 8200، وهي إحدى أكثر الوحدات مهابة في الجيش “الإسرائيلي”، وقد عمل كغيره من ضباط شبكة الاستخبارات في قاعدة محمية جيداً ومدعمة بالاسمنت المسلح لمراقبة المعلومات. وكان من ضمن عمل الضابط أن يقرر أي قناة اتصال عليه أن يُصغي إليها وأي بث يجب أن يعترضه، وكان على الضباط مثل أمير أن يقرروا أي معلومة ينتقيها مساعدوهم ينبغي أن تُترجم وتُنشر، وكان هو آخر المحررين الذين يرفعون التقرير الذي يسمى في لغة “الوحدة 8200″ بـ”المقالة”. كان أمير هو من يقرر عنوان “المقالة” ومن ينبغي أن يقرأها. وعلى سبيل المثال، كان عليه أن يُقرّر ما إذا كان المتحدث في محادثة جرى اعتراضها هو صاحب دكان يطلب طلبية معينة أو هو جهادي يرسل تعليمات مشفرة لتحضير عبوة ناسفة، وإذا ما ارتكب خطأ ما، فان أناساً أبرياء ـ “إسرائيليين” على جانب وصاحب دكان تعيس على الجانب الآخر ـ يمكن ان يموتوا. وعليه أن يفعل ذلك بسرعة كبيرة”.

إعتقد أمير أن الهدف الرقم 7068 كان مجرد ضربة رمزية أخرى فأخبر مقر قيادة “أمان” أنه لا يوجد أحد في المبنى وأنه من الآمن البدء بقصفه. فأخبره ممثل قسم الأهداف في “أمان” أن العملية “مُعلّقة بانتظار أن يفتح المكتب أبوابه”. فأجابه “ماذا؟ من يتوقعون (أن يأتي إلى المكتب)؟” فرد عليه “لا أحد محدداً، أي أحد، فقط أخبرنا عندما يدخل أحد ما إلى المبنى”

ويتابع بيرغمان، “من الناحية الرسمية فان أمير ورفاقه في “الوحدة 8200” في قاعدة “توربان” كانوا مسؤولين عن وقف الهجمات “الإرهابية”. وكانوا هم من يقرر من ينبغي على “إسرائيل” أن تقتل. وإذا كان صحيحاً أن أرييل شارون هو من يعطي القرار بعمليات القتل المتعمد وأنه كانت هناك سلسلة أمرة طويلة بينهم وبين مكتب رئيس الوزراء، لكن السياسيين كانوا بكل بساطة يوافقون على توصيات جماعة الاستخبارات التي كان ضباط شبكة الاستخبارات إلى حد كبير يضعونها”. وينقل بيرغمان عن أحد هؤلاء الضباط قوله “كان دورنا دراماتيكياً في اختيار الأهداف التي ينبغي تصفيتها، فقد كان باستطاعتي أن أُقرّر، وفق تقديري، أن شخصاً ما هو منسق لخلية فأُقرر التركيز عليه بدقة وجمع المعلومات الضرورية عنه وصولاً إلى جعله هدفاً للتصفية، وإذا كان الرجل متورطاً بالإرهاب فان العملية ضده تحتاج لبضعة أسابيع لا أكثر”.

وغالباً ما كانت “الوحدة 8200” تختار المباني التي ينبغي قصفها، وحسب بيرغمان “كان شارون ومعه رئيس هيئة الأركان في الجيش “الإسرائيلي” موشي يعالون يحملون السلطة الفلسطينية كامل المسؤولية عن أي هجوم حتى لو كان المهاجم من تنظيمات معارضة للسلطة الفلسطينية (مثل حماس والجهاد الاسلامي)، ونتيجة لذلك فإن “إسرائيل” كانت تتخذ تدابير عقابية ضد السلطة الفلسطينية بعد كل هجوم، بقصف مبان تابعة لها، وكانت معظم هذه المباني عبارة عن مكاتب حكومية مدنية، وغالباً كانت عبارة عن مبانٍ سبق أن تعرضت للقصف، فتُقصف من جديد مراراً وتكراراً، حتى بعد أن تكون قد دُمّرت وأخليت من قاطنيها. فقد كانت عمليات القصف عبارة عن رسالة إلى الفلسطينيين بالإضافة إلى أنها طريقة للقادة والجنود “الإسرائيليين” للتعبير عن سخطهم واحباطهم”. وينقل بيرغمان عن الضابط أمير قوله “لم يكن اختيار الأهداف للرد بالقصف بهدف تحقيق هدف عسكري بحد ذاته بل رسالة سياسية يُمكن تلخيصها ببساطة “سنريكم” (بدنا نفرجيكم).

ويواصل بيرغمان: “في البداية كانت “إسرائيل” تخبر القيادة الفلسطينية مسبقاً عن المبنى الذي سيُستهدف بغارة جوية من أجل تدميره وذلك من أجل إعطاء فرصة لاخلائه، ولكن مع الوقت تلاشت هذه الممارسة إلى حد ما. ولاحقاً في أواخر العام 2002 غالباً ما كان سلاح الجو يشن غاراته ليلاً من دون إنذار مسبق، مُعتبراً أن المباني ستكون خالية في مثل ذلك الوقت، ما يعني أن هذا القصف كان عبارة عن حملة رمزية”.

إقرأ على موقع 180  مخيبر يخسر الإنتخابات والحلفاء والطعون.. ولا ينهزم (8)

في الخامس من يناير/كانون الثاني عام 2003، يقول بيرغمان، “تسلل مفجران انتحاريان من “ألوية شهداء الاقصى” التابعة لحركة فتح الى تل أبيب وشقا طريقهما إلى محطة الحافلات المركزية القديمة، وفي الساعة 6:26 مساءً فجرا نفسيهما قرب قلب مدينة تل أبيب، فوصل العدد النهائي للقتلى إلى 23 فيما وصل عدد الجرحى إلى أكثر من مئة، بينهم أطفال ورضع. أدانت السلطة الفلسطينية الهجوم ووعدت بالقيام بكل ما بوسعها لالقاء القبض على المخططين. لكن “الإسرائيليين” لم يكونوا مقتنعين بصدق الإدانة، ففي النهاية كان المهاجمون من تنظيم يتبع لحركة فتح بأمرة ياسر عرفات، كما كان معظم كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية من حركة فتح أيضاً. على الفور (3 ساعات بعد الهجوم)، استدعى شارون كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين إلى مكتبه وقرروا تصعيد الموقف بوجه السلطة الفلسطينية”.

ينقل بيرغمان عن البروفسور أيال زيسر، الأستاذ في جامعة تل أبيب قوله في ضوء ذلك الفشل (التحذير من حرب أكتوبر) “اخترنا عن قصد أشخاصاً من أصحاب الرأي ليكونوا ضباطاً في الشبكة الاستخبارية.. أشخاصاً يُفكرون من خارج الصندوق ولا يخافون من التعبير عما يُفكرون به”

بعد الاجتماع، يقول بيرغمان، “قرر رئيس هيئة الاركان يعالون قصف الهدف الرقم 7068 وهو الإسم السري لمكتب حركة فتح في مدينة خان يونس في قطاع غزة. هذه المرة لم يكن هناك أي إنذار، بل على العكس، إنتظر الجيش “الإسرائيلي” مُتعمداً وبصبر بالغ حتى يكون هناك اناس في المبنى لقصفه. وفي الساعة 11:45 ليلاً أرسل قسم الأهداف في مقر قيادة جهاز “أمان” (اناف ماتاروت) إلى “الوحدة 8200” في قاعدة توربان طلباً بجمع المعلومات عن مبنى حركة فتح في خان يونس. وفي الساعة 12:31 بعد منتصف الليل أرسلت قاعدة توربان تقريراً عن الهدف المختار. ووفقاً لهذا التقرير فإن الهدف 7068 لا علاقة له بأي نشاطات “إرهابية”، بحسب ما كتب الرقيب الذي أجرى التحقيق في المبنى المذكور وكتب ببساطة وبصورة مباشرة “لا تقصفوهم.. لم يفعلوا شيئاً سيئاً”.

وينقل الكاتب عن أمير قوله “جرى تغيير النص إلى شيء أكثر مهنية قبل إرسال التقرير، ولكن عنوان التقرير عكس مضمونه، اذ اصبح لا يوجد نشاط مرتبط بالإرهاب في هذا المكان بل أعمال روتينية تتعلق بالنشاطات المحلية ودفع الرواتب والمساعدات الاجتماعية. لقد كان بمثابة مقر للاتحاد العمالي في قطاع غزة”.

في صبيحة اليوم التالي، إعتقد أمير أن الهدف الرقم 7068 كان مجرد ضربة رمزية أخرى فأخبر مقر قيادة “أمان” أنه لا يوجد أحد في المبنى وأنه من الآمن البدء بقصفه. فأخبره ممثل قسم الأهداف في “أمان” أن العملية “مُعلّقة بانتظار أن يفتح المكتب أبوابه”. فأجابه “ماذا؟ من يتوقعون (أن يأتي إلى المكتب)؟” فرد عليه “لا أحد محدداً، أي أحد، فقط أخبرنا عندما يدخل أحد ما إلى المبنى”. بدا الأمر غريباً للضابط أمير، فاعتقد أن هناك سوء تفاهم، فوجود مدنيين في المبنى كان ليكون سبباً لوقف الغارة لا لتنفيذها. فانتظار الناس من موظفين وعمال نظافة وسكرتاريا كان ضد المذكرة القانونية الصادرة عام 2001. فاستهداف المدنيين كان في الحقيقة جريمة حرب واضحة”.

يتابع بيرغمان، “لم يكن هناك سوء تفاهم، فقد أصدر قسم الأهداف أمراً خطياً بارسال تقرير عن أي اشارة دالة على انشغال المبنى، بمعزل عمن يكون المتحدث أو مضمون المحادثة. بكلمات أخرى كانت النية هي قتل أحد ما ـ أي أحد”.

أزعج هذا الأمر ضباط الشبكة الاستخبارية، حسب بيرغمان، فتجرأوا في الحديث عنه علناً في قاعة الطعام، وقال أمير مستذكراً “جلسنا هناك ثلاثة ضباط نتناول العشاء، فقال أحدهم بلغة نصفها مزاح ولكنها جدية “أليس ذلك الأمر غير قانوني”؟ قالها بطريقة بريئة وليس بالجدية التي تستحق، ولكنها جعلتنا نبدأ التفكير هل بدأنا بتجاوز الخطوط الحمر؟ كيف لنا أن نعرف من نقتل؟ فربما يكون طفلاً ما من مدرسة مجاورة تم إرساله لإجراء اتصال هاتفي، أو ربما يكون مجرد موظف أتى لتسليم مساعدة من أموال الأمم المتحدة أو عامل تنظيفات وصل إلى العمل باكراً قبل بدء ساعات العمل”؟

لقد كان إجراء مثل هذه المحادثة بين أعضاء في “الوحدة 8200” متلائماً مع التدريبات التي خضعوا لها. هذه الوحدة هي التي أنذرت جهاز “أمان” قبل أيام من الهجوم المفاجىء على “إسرائيل” في اكتوبر/تشرين الأول عام 1973 محذرة من أن مصر وسوريا تتجهان لشن الحرب. وينقل بيرغمان عن البروفسور أيال زيسر، الأستاذ في جامعة تل أبيب والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط (خدم كضابط احتياط في الجيش “الإسرائيلي” بصفة رئيس لجنة اختيار ضباط الشبكة الاستخبارية)، قوله في ضوء ذلك الفشل (التحذير من حرب أكتوبر) “اخترنا عن قصد أشخاصاً من أصحاب الرأي ليكونوا ضباطاً في الشبكة الاستخبارية.. أشخاصاً يُفكرون من خارج الصندوق ولا يخافون من التعبير عما يُفكرون به”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل تُفجّر عيّاش هاتفياً.. "لقد فُتحت أبواب الجحيم" (85)