إذا ما جرى التورط فى الخيار النووى فإنها نهاية الحضارة الإنسانية.
وإذا ما اتسع النطاق الجغرافى للمواجهات العسكرية فإنها الحرب العالمية الثالثة، التى قد تستدعى بدورها الخيار النووى.
التفلت المحتمل يطرح سؤال قواعد الاشتباك.
فى لحظة خيّم التفلت النووى فى رسائل متبادلة بين طرفى الصراع.
الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» لوّح بالخيار النووى عندما تراجعت قواته بفداحة فى ميادين القتال، أراد أن يقول: «لا تنسوا أن روسيا دولة نووية».
والرئيس الأمريكى «جو بايدن» أجرى على الفور مع الحلفاء الغربيين مناورة عسكرية بالأسلحة النووية، أراد بالمقابل أن يقول: «لا تنسوا الثمن الرهيب الذى سوف تدفعونه».
التلويح غير الفعل لكنه قد يفلت من عقاله.
بقوة المخاوف، التى شملت العالم بأسره، جرى استبعاد الخيار النووى فى خطاب الدولتين الكبيرتين.
روسيا نفت أن يكون من الوارد استخدامه.
وأمريكا بدورها نفت أن يكون قصدها من المناورة العسكرية الرد على تصريحات «بوتين»، حيث كانت مقررة قبلها.
هدأت المخاوف نسبياً، لكنها أطلت مجدداً بالتحريض على دخول حلف «الناتو» بصورة مباشرة فى القتال الميدانى بذريعة أن روسيا أطلقت صاروخاً على الأراضى البولندية العضو فى الحلف.
كان ذلك تحريضاً دون تدقيق أو تحر للحقائق، قاده الرئيس الأوكرانى «فولوديمير زيلينسكى» لجر «الناتو» إلى الحرب وتوسيع نطاقها الجغرافى.
بخشية الانجرار إلى حرب عالمية ثالثة سارعت الولايات المتحدة وروسيا معا بنفى أن يكون الفعل مقصودا.
«بايدن» رجح أن يكون صاروخا مضادا أوكرانيا سقط داخل الحدود البولندية.
اتصل بالقادة الأوروبيين ليبلغهم الحقيقة بينما حمّل وزير خارجيته «أنتونى بلينكن» روسيا المسئولية التاريخية عما حدث.
لم يكن ذلك تناقضا، أراد «بايدن» أن يضع حدا لاحتمال التورط المباشر فى الحرب بنفى الاتهام عن موسكو فيما «بلينكن» يطلب الحفاظ على التعبئة العامة ضد موسكو باعتبار أنها تتحمل مسئولية غزو أوكرانيا.
اللافت للإنتباه أكثر هو الموقف البولندى، الذى نفى بصورة قاطعة أن تكون هناك أى معطيات تشير إلى أن سقوط الصاروخ كان هجوما متعمدا حسب تعبير رئيسها «أندريه دودا».
بحكم إرث التاريخ فهناك تعقيدات ورواسب فى العلاقات البولندية الروسية تعود إلى أيام الاتحاد السوفييتى السابق.
وبحكم الدور فإن بولندا الجسر الرئيسى الذى تمر عليه إمدادات السلاح المتقدم إلى أوكرانيا وعلاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة تطلبت تبادل المعلومات وتنسيق المواقف قبل إصدار التصريحات.
إنها الدولة الأوروبية الأكثر تشددا فى الحرب الأوكرانية، لكن مصلحتها اقتضت أن تبعد النيران عن أراضيها على عكس ما كان يأمل «زيلينسكى».
فى أحوال الاستنزاف المتبادل بدأت تتبدى رغبات شبه مكتومة للتوصل إلى تسوية سياسية ما، ورغبات شبه معلنة ألا تفلت قواعد الاشتباك إلى فوضى دولية ضاربة تأخذ العالم كله إلى المجهول
كانت أزمة الصاروخ الأوكرانى كاشفة للحسابات المتضاربة داخل المعسكر الواحد.
الاستخلاص الأهم أن الكلمة الأخيرة فى التحالف الغربى للولايات المتحدة وحدها.
بلا استثناء واحد اتهم الأوروبيون روسيا بالمسئولية وتأهب «الناتو» لإنفاذ ميثاقه الذى يوجب التدخل إذا ما جرى اعتداء على إحدى دوله.. وبلا استثناء واحد تراجعوا عن الاتهام محملين روسيا مسئولية الحرب.
كان ذلك داعيا إلى مدح روسى نادر لـ«حرفية» و«دقة» الاستخلاص الأمريكى والتعريض بالأداء الأوروبى.
تأكدت فى تلك الأزمة أهمية أن تكون هناك قواعد اشتباك تمنع أى انزلاق محتمل لتوسيع نطاق الحرب، أو الانجرار إلى حرب عالمية ثالثة وأخيرة!
ليس بوسع أحد حسم الحرب بالسلاح.
هذه حقيقة نهائية فى الأزمة الأوكرانية.
لا أحد سوف يهزم بالضربة القاضية وتملى عليه شروط الاستسلام.
حرب المنهكين قد تفضى فى سيناريو أو آخر إلى سلام المنهكين.
الحرب باتت عبئا لا يطاق على طرفيها وتكاليفها العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية فوق التحمل.
باليقين فإن روسيا استنزفت اقتصاديا وعسكريا.
لم تكسب رهانها على الحسم السريع عند بداية ما أسمته بـ«العملية العسكرية الخاصة».
اضطرت لتعديل أهدافها أكثر من مرة لتتوافق مع الأوضاع الميدانية لقواتها.
كانت نقطة الذروة ضم أربع مقاطعات أوكرانية باستفتاء لم يحظ بأى اعتراف دولى، لكنها اضطرت تاليا إلى الانسحاب الطوعى من خيرسون دون أن تتضح أهدافها الحقيقية من إعادة التمركز خلف نهر دنيبرو، وما قد يحدث تاليا.
بقدر مماثل لم تكسب الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون رهانهم على إسقاط روسيا باستنزافها عسكريا فى أوكرانيا فيما يشبه إسقاط الاتحاد السوفييتى السابق فى أفغانستان.
لم تسفر العقوبات التى لم يسبق لها مثيل إلى عزلها دوليا أو الانقلاب على «بوتين» من الداخل، واهتزت مكانة الولايات المتحدة فى العالم.
هكذا ضرب الاستنزاف وتوابعه الطرفين معا.
دفع العالم فواتير إضافية فى أزمتى الطاقة والغذاء.
كان العالم العربى والقارة الأفريقية ميدانا للأزمة الأولى، والقارة الأوروبية ميدانا للثانية.
فى الأزمة الأولى، جرت وساطة تركية وأممية فى اسطنبول أفضت إلى ما يعرف باتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، وقد جرى تمديدها لفترة محدودة حتى تحصل موسكو بمقتضاها على حق مماثل فى تصدير أسمدة ومواد غذائية بعيدا عن العقوبات المفروضة عليها.
لم يكن ذلك عملا إنسانيا محضا بقدر ما كان محاولة لتخفيف حدة العقوبات وفتح نافذة ما على الحلول السياسية المستعصية.
وفى الأزمة الثانية، أطلت على أوروبا مخاوف أن يكون فصل الشتاء قاسيا، أو أن يترتب عليها أوضاع اجتماعية يصعب احتمالها بارتفاع أسعار السلع فى الأسواق.
بإقرار وزير المالية البريطانى، وهو يوضح أسبابه فى الموازنة الجديدة، أن أسعار النفط والطاقة قد ارتفعت ثمانية أضعاف مرة واحدة كما لم يحدث فى التاريخ من قبل.
فى أحوال الاستنزاف المتبادل بدأت تتبدى رغبات شبه مكتومة للتوصل إلى تسوية سياسية ما، ورغبات شبه معلنة ألا تفلت قواعد الاشتباك إلى فوضى دولية ضاربة تأخذ العالم كله إلى المجهول.
(*) بالتزامن مع “الشروق“