البعدُ “الصّوفي- العِرفاني” للدّين: مستقبلُ الإسلام.. والإنسان (3)

نُكمل في هذا الجزءِ (الثالث) حديثَنا حول السّعادة من وجهة نظر أهل التّصوّف والعِرفان (أو حول ما سمّيناه "بالفرَح الصّوفيّ المقدّس").

نتناول في هذا الجزء إشكاليّة تماسكِ وثباتِ هكذا نظرة – لسعادة داخليّة ومتينة وغير مشروطة بشرط ولا محدودة بحدّ ـ أمام واقع تواجد الشّرّ والمعاناة في هذا البُعد أو العالَم الذي نعيش فيه. والادّعاء الذي ندافعُ عنهُ هنا هو أنّ هذه النّظرة إلى السّعادة، تستوعبُ تواجد الشّرّ والمعاناة، بل وتنسجمُ معهُ بشكلٍ طبيعيّ وبديهيّ، وذلك على مستويات عديدة تختصرُ الموضوع من أغلب زواياهُ برأيِنا.

على المستوى الوُجودي، يعتبر الصّوفيّ أنّ ظهور الشّرِّ والألمِ هو نتيجة طبيعيّة وبديهيّة لهبوط الوجود من بُعده الأحَدِيّ (وهو بُعدُ الوحدة التي لا تقبلُ الكثرة إطلاقاً) إلى الأبعاد الواحِديّة (وهي أبعاد الوحدة التي تقبلُ الكثرةَ ولو اعتباريّا أو ضمن إطارِ التّوهّم). وهذا الهبوط الوجوديّ الذي يحدث، “الآن” أي في كلّ “وقتٍ إلهيّ[1]، ويليهِ صعودٌ معاكسٌ في كلّ وقتٍ إلهيٍّ أيضا – بما يُشبهُ عمليّة التّنفّسِ عند البشر: يولّدُ معهُ مظاهر “الإثنينيّة” التي هي عامودُ الكَثرة، والتي تقوم في جوهرها، أي الإثنينيّة، على: ظهور الأضداد. ومن هنا، فإنّ ظهور “الشّرّ” خلال هذا الهبوط الأعظم، هو ظهورٌ طبيعيٌّ وبديهيٌّ مقابلَ ظهور “الخيرِ” والعكس صحيح – فبظهورِ هذا يظهرُ ذاك والعكس صحيح. وكذلك بالنّسبة إلى ظهور الألم في مقابل ظهور اللّذة وما إلى ذلك.

أمّا على المستوى المعرِفي، فهم كذلك يعتبرون أنّ ظهور الضّدّ يعرّف بالضّدّ، أي أنّ الأشياء تُعرف، في الأبعاد المذكورة: بأضدّادِها. وأمّا على المستويات العمليّة، فهم يرون أنّ تواجد الشّرّ والبلاء يقعُ ضمنَ عمليّة الاختبار والابتلاء، فليس هناك من شرّ حقيقيّ بالمعنى الوجودي كما رأينا، ولا من بلاء لمجرّد البلاء. وهم يعيشون تواجد الشّرّ والمعاناة معهم على أنّه من مصدرٍ لا مصدرَ سواهُ أصلاً (وهو: منهُ وبِهِ وإليهِ سبحانَه): أي على أنّه نعمةٌ من الحقّ سبحانهُ، يُساعدُ بها عبدَه على تطهير نفسهِ وتنقيتِها وتزكيَتها، والصّعود بها (La transcendence) نحو الأبعاد أو العوالِم الأقرب إلى الواحديّة والأحَديّة.

أدِرْ ذِكرَ من أهوى.. ولو بمَلامِ!

بعد ما تحدّثنا به في الجزء السّابق عن السّعادة الصّوفيّة أو عمّا سميّناه “بالفرحِ الصّوفيّ”، فمن المرجَّح أن ينبريَ لنا من يقول إنّ هذه النّظرة طوباويّة وبعيدة عن الواقع بامتياز، وهي ضربٌ من الأفيون المخدِّر للشّعوب (على حدّ تعبير الشيخ الشّيوعيّ الأكبر: كارل ماركس). فأيّ فرحٍ دائمٍ وثابتٍ وغير مشروطٍ وغير محدودٍ: مع “وجود” كلّ هذه الشّرور وكل هذه المصائب في الدّنيا؟ بتعبير أدقّ: كيف تكون نظرة كهذه، إلى السّعادة، واقعيّةً ومُمكنةً مع تواجد الشّرّ في العالم، ومع استمرار المعاناة الإنسانيّة التي لا تنتهي؟ هل التّصوّفُ، بهذا المعنى، هو طريقٌ للهروبِ من واقع تواجد الشّرّ وواقع استمرار معاناة الإنسان؟

يُلاحظُ عزيزُنا القارئُ أنّ الأسئلة السّابقة ليست بالأسئلة السّهلة بتاتاً، بل إنّها لأسئلةُ الأسئلةِ بالنّسبة إلى بعض الملاحِدة والمشكّكين في “وجود الله” أصلاً (“ومتى غابَ حتّى نستدلَّ على وجودِهِ”، كما قالت، ذاتَ يوم، السّيّدةُ العارفةُ الأندلسيّةُ التي سنحكي قصّتها في ما يلي). كيف يكون هكذا “إلهٌ”، لا-متناهِ الخيرِ والكمالِ والجمالِ موجوداً: ويسمحُ بوجود هذا الشّرّ العظيم (إنّه سؤال التيوديسيا الشّهير ومعضلة أغلب الفلاسفة: La Théodicée)؟ كيف يكون هكذا إلهٌ، أي إلهٌ بهذه الصّفات، موجوداً ويسمحُ بوجود الظّلمِ والمعاناة، خصوصاً لدى الأبرياء والأطفال؟ بحسب هؤلاء: إنّ الفرح الصّوفيّ كما عرّفناه فيما سبق، هو نوعٌ من أنواع الخيال الوهمي، وهدفه الحقيقي هو الهروب من تناقضات وشرور ومعاناة الحياةِ الدّنيا.

لا يفهمُ “العقلُ” الصّوفيُّ عموماً هكذا شعور بالتناقض، وهو يعتبرُ أنّ إخوانَه من الملاحِدة والمشكّكين وبعض المؤمنين، محجوبون بوهم الإثنَينيّة: أنا “أو” هو[2]، نحن “أو” هُم، الخير “أو” الشّر، الأبيض “أو” الأسوَد، الحلو “أو” المرّ، الكبير “أو” الصّغير، الواحدُ “أو” الكثير إلخ. لذلك، عندما التقى الشّيخُ الأكبرُ محيي الدّين ابن عربي، وهو في عمر الشّباب فيما يرويهِ هو عن حياتهِ، بعظيمِ الفلاسفة الأرسطيّين المغاربة والأندلسيّين، وفقيهِ المالكيّة المعروف، القاضي الطّبيب أبي الوليدِ محمّد بن أحمد “ابن رشد” الأندلسي (ت. ١١٩٨ م)، فسأله هذا الأخير ما معناه: “هل وصلتُم، مولانا، بالمكاشفة والمشاهدة الصّوفيّتَينِ إلى ما وصَلنا إليه بالتّفكُّر والنّظَر الفلسفيَّيْن؟”. فأجابه الشّيخُ الأكبر: “نعم (وَ) لا!”. إذ يعيش العقل الفلسفيّ عادةً في عالم “نعم أو لا”، أمّا “العقلُ” الصّوفيّ-العرفانيّ فهو في عالمٍ أعلى، عالم ما-فوق العدّ والضِّدّ: عالم “نعم ولا”! إنّه عالم وحدة الوجود، ومقام “الواحديّة” كما ذكرنا فيما سبق[3].

فبدايةً، لا ينفي الصّوفيّ واقعَ تواجد[4] الشرّ في هذا العالم، ولا واقعَ المعاناة الإنسانيّة. بل هو يعيشُ، حسب رأيه، الصّراعَ الحقيقيَّ مع الشّر “الحقيقي”: وهو شرّ النّفس. وهو، أيضاً، يعيشُ الصّراعَ الحقيقيَّ ضدّ المعاناة الأكثر قرباً من الحقيقة: وهي المعاناة المتولّدة من الغرقِ في سجنِ الحجب النّفسيّة والرّوحيّة، وعدم الارتقاء الوجودي.. أو ما تسمّيهِ الصّوفيّة بالبُعد عن الحقّ، أي عن الله سبحانه. لذلك، فهُم يُنشِدون على الدّوام للوصلِ على أنّه نورٌ، وللنَّوى والهجرِ والجفاءِ على أنّها ليلٌ في ليلٍ وظلماتٌ في ظلمات.

ثمّ إنّ الصّوفيّ يعيش، برأيه أيضاً، وفي بُعده الظّاهري (النّفسي والجسدي معاً)، في معاناة دائمة. فطريق الارتقاء لا بدّ معه من عناء: لا غُنْمَ بغير غُرْمٍ؛ “يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ”، (القرآن الكريم، سورة الانشقاق، آية ٦). وهذا ما يرويه في التّراث الصّوفي التّركي مثلاً، الشّاعر يونس إِمرِه (ت. صوب ١٣٢١ م)، عن شيخه تَبتوك إمرِه[5]: إنّها سُنّة من سُنن الحياة، فانظر إلى القمحة ما يصيبها من أهوال[6] قبل أن تُصبح خُبزاً مولانا!

لا يُنكرُ الصّوفيّ واقعَ المعاناة (ضرورة التّعايش مع الشّرّ هو بابٌ من أبواب المعاناة طبعاً). بل يدّعي أنّه يعيش المعاناة الأكبر إذن، والمتولّدة من جهاد النّفس. كيف يُنكر المعاناة أو يهرب منها من يقول، على غِرار سلطان العاشقين[7]، ونشيد العارفين، ونغمةِ السّالكين، أبي حفصٍ وأبي القاسم عمر بن علي، شرف الدّين ابن الفارض (ت. ١٢٣٥ م) الحَمَوي المَصري:

هوَ الحُبُّ: فاسلمْ بالحشا، ما الهَوى سهلُ

فما اختارَهُ مُضْنى بهِ.. ولهُ عقْلُ!

وعِشْ خالياً، فالحُبُّ راحتُهُ: عَناً

وأَوّلُهُ سُقْمٌ.. وآخرُهُ قَتْلُ! (…)

فمن لم يمُتْ في حُبّه لم يَعِشْ بهِ

ودون اجتناءِ النّحلِ.. ما جنتِ النّحلُ!

أو على غرارِ قول الحلّاج المصلوب، الحسين بن منصور، وكلمات هذا الرّجل تخرق القلب بشكلٍ عجيب، وكأنّ ما يعبّر عنه يحصلُ الآن، في هذه اللّحظات.. حتّى اليوم، يبقى شعر الحلّاج هو الأكثر تأثيراً على وجداني الشّخصي بالمناسبة[8]:

يا لائِمي لا تَلُمني في هَواهُ، فَلَو

عايَنتَ مِنهُ الَّذي عايَنتُ لَم تَلُمِ (…)

لِلناسِ حَجٌّ، وَلي حَجٌّ إلى سَكَنيْ

تُهدى الأَضاحي، وَأُهدي مُهجَتي وَدَمي!

أو حتّى في كلماتِ الشّيخِ الأكبر والكبريتِ الأحمر، في مطلع القصيدة التي تحتوي على بيت “أدينُ بدينِ الحبّ” مثلاً:

أَلا يا حَماماتِ الأَراكَةِ وَالبانِ

تَرَفَّقْنَ، لا تُضعِفنَ بِالشَجوِ أَشجانيْ

تَرَفَّقْنَ، لا تُظهِرنَ بِالنوحِ وَالبُكا

خَفِيَّ صَباباتي وَمَكنونَ أَحزانيْ.

إذن، فالصّوفي لا يُنكر المعاناة ولا يهرب منها، بل هو يتقبّلها ويعيشها ويتذوّقها تذوُّقاً حسب ادّعائه، بل ويعيش أصعب أنواعها (الظّاهريّة والباطنيّة). ويردّد أكثرهم الحديثَ النّبويَّ المنقولَ عن الرّسول الأكرم والنّبيّ الأعظم، محمّد بن عبد الله الهاشمي القُرشي (ص): “إنّ اللّهَ إذا أحبّ عبداً ابتلاه”. لماذا يبتليه مولانا؟ أوّلا، ليُنقّي نفسه ويزكّيها ويرتقي بها كما رأينا. وثانيا، ليُبعدَه عن حبّ الدّنيا الخدّاعة، أمّ الوهمِ والتّغريرِ والحُجُبِ والأدران. وأهلُ التّصوّف، على غرار باقي المسلمين مبدئيّا، يعتبرون أنّ تواجد الشّرّ والمعاناة معنا في هذا العالم له حكمة واضحة: الابتلاء والاختبار والتّمحيص والامتحان. “ولنبلونّكمْ بشيءٍ من الخَوف والجوعِ ونقصٍ ‏من الأموالِ والأنفسِ والثّمراتِ، وبشّرِ الصّابرين”، (القرآن الكريم، البقرة، آية ١٥٥). “الذي خلقَ الموتَ والحياةَ[9] ليبلوَكمْ أيّكم أحسنُ عملاً وهو العزيزُ الغَفور”، (القرآن الكريم، سورة المُلك، آية ٢).

إقرأ على موقع 180  بلادنا المُستباحة

فلا تتعارضُ عندهم صفاتُ اللّه التي تعبّر عن الخير والكمال والجمال مع تواجد الشّر ووقوع الابتلاء. بل إنّ تواجدهما نعمةٌ في الحقيقة، كما سبق وشرحنا. والبعضُ من المؤمنين الظّاهرِيّين، بالمناسبة، يريدُ أن يعيشَ الامتحانَ ولا يُريد أن يُمتحَن فيه! أو يريد الامتحان، لكن يريده سهلاً. إنّه امتحان وجوديّ مولانا: يتحدّد من خلاله مصيرُك الأبديّ، لا مصير ألفِ سنة من حياتك المستمرّة[10] ولا حتّى مصيرُ مليون مليونِ سنة! فكيف تريده أن يكونَ سهلاً، وكيف تُريدُ ألّا ترى الأهوالَ والعظائم فيه! ولأنّ البلاء له حكمة (ليس هنالك شرّ أو بلاء مُطلَقين في هكذا نظرة، بل شرّ وبلاء لمقصد أعلى كما رأينا)، يقول محيي الدّين ابن عربي في تعبير ساخر ورائع معاً: “كلُّ بلاءٍ لا يكون ابتلاءً، لا يُعوَّلُ عليه!”. إذ ليس عندهم بلاء حقيقي وبالمطلق كما رأينا، ولذلك فإنّ الجلوس والتّفكّر في البلاء، دون تأمّلٍ لكونه في حقيقته ابتلاء: مضيعة للوقت وللجهد، ولا يعوّلُ عليه السّالكون.

وهذا ما يوصلنا إلى نقاش البُعد الوجودي للشّرّ وللبلاء، والحمد لله الذي لا يُحمدُ على شرٍّ وبلاءٍ سواه (أي: الذي لا يُحمدُ على الاختبار والامتحان الحقيقيَّين سواه):

نعوذُ باللّهِ من عالمِ الضّدِّ والعَدّ، والجزرِ والمدّ، والهزلِ والجدّ[11]!

 لا يخفى على العرفاء أنّ ظهورَنا في هذا العالم هو نتيجةٌ لعمليّة هبوطٍ وجوديّة كبرى ومؤلمة، قد ترمزُ إليها الآية الكريمة: “فأزلّهما الشيطانُ عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه، وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ، ولكم في الارض مستقرّ ومتاع الى حين”، (القرآن الكريم، البقرة، آية ٣٦). هبوطٌ هو في باطنه: هبوطٌ من بُعدِ الواحديّة الألوهيّة إلى بُعد الكثرة الظّاهرة (وظهور الكثرة في بُعدِنا الحالي هذا، هو الذي جاء بالحُجُب التي تحدّثنا عنها). وفي باطن باطنه: هو هبوط من بُعدِ الأحَديّة إلى بُعد الواحديّة، أي من بعد الوحدة المُطلقة إلى بُعد الوحدة التي تقبلُ الكثرة (ولو اعتباريّاً أو “وهميّاً”، لا حقيقةً). والهبوط من عالم “هُوْ” (أي عالم الذّات الأحديّة، عالم “الهاهُوت”) إلى العوالم التي تقبل الكثرة، لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال ظهور الإثنينيّة (ولو اعتباريّا أو وهميّا كما أشرنا)، والإثنينيّة (La dualité عند عرفاء الهندوس والطّاويّين والبوذيّين) هي أمُّ الكَثرة.

وفي هذه العوالم أو الأبعاد، الواحدة حقيقةً والكثيرة (أو المتكثّرة) اعتباريّاً، تُدرَك الأشياء بأضدّادها: الواحد يُدرَك بتميّزه عن الكثير، والنّور بتميّزه عن الظلام، والخير بتميّزه عن الشّرّ، والحلو بتميّزه عن المرّ، والجميل بتميّزه عن القبيح إلخ. وبالمناسبة، ولأنّ الله سبحانه، وبالتّحديد من زاوية الذّات الأقدَسيّة الأحَديّة، هو الوجود الحقّ عندهم، ولا وجودَ حقيقيّا لسواه، ولأنّ الوجود الحقّ ضدّه “العدم”، ومن المستحيل إدراك العدم لأنّه “العدم”: فمن المستحيل، إذن، إدراك الذات الإلهيّة (خصوصاً من زاوية ذهننا Notre Mental القائم على الإثنينيّة والضّدّيّة).

لذلك، فأسئلة من قبيل “أين الله؟” أو “من خلق الله؟” لا يعوَّلُ عليها عندهم. لأنّ اللّه سبحانه، كما قلنا، هو الوجود الحقّ وضدّه العدم. المهم: إنّ عمليّة الهبوط الوجودي هذه، مرّت (أو هي تمرّ الآن) عبر ظهور عوالم الكثرة وقوامها ما يمكن تسميته بالإثنينيّة الضِّدِّيّة. ومن هنا، فإنّ “وجود” الشّرّ عندهم أمرٌ بديهي – في هذه الأبعاد الدّونيّة المذكورة – لوجود الخير، و”وجود” المكروه عندهم أمرٌ بديهي لوجود المحبوب (ما دون المحبوب الأعلى سبحانه وهو الوجود المُطلق ولا ثانيَ معهُ)، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى النّقمة والبلاء وما إلى ذلك.

وبمجرّد ادراكهم – الذّهني.. والتّذوّقي قبلَه – لما سبق، وخصوصا لحقيقة أنّ الوجود أَحَدِيٌّ في باطن باطنه، وواحِدِيٌّ في باطنه، وليس كثيراً إلّا في ظاهره وظاهرِ ظاهرِه – بل إنّ أكثرهم قد ذهب إلى الادعاء بأنّ الكثرة هي وهمٌ في وهم، وسرابٌ في سراب: بمجرّد هذا الادراك والوعي، يُصبح تواجد الشّرّ والبلاء (الذي ما هو إلّا ابتلاء كما رأينا) إلى جانبهم في هذه الدّنيا مسألة بديهيّة وطبيعيّة. بل إنّ ما نراه ظاهريّا على أنّه شرّ وبلاء، ما هو – حسب هذه النّظرة – إلّا خيرٌ في خير، ونعمة فوق نعمة، ونور على نور. كيف لا وما هو إلّا مِن-هُ، وبِ-هِ، وإلي-هِ.. وليس مع الله غيرٌ، وما ثمّ شيء إلّا-هُ! ومن هنا، نفهم أهميّة مقام “الرّضا” عندهم: وهو أن ترضى بغير قيدٍ ولا شرط بكلّ ما يحدث لك في هذه الدّنيا، لأنّه منهُ وبهِ وإليه.

إذن، فالمسألة تتخطّى جوانب عذابات العشقَين الرّومنسي والميسطيقي (Mystique) التّقليديّين، وجانب الاختبار، وجانب تنقية النّفس، إلى بُعدٍ وجودي قويّ ومتين: ظهور الشّر والبلاء هو مظهرٌ من مظاهِرِ ظهور الإثنينيّة كنتيجة للهبوط من الأحديّة نحو الواحديّة. وهكذا يعيش الصّوفيّ العارفُ بهذه الحقائق النّظريّة والعمليّة في فرحه المقدّس الدّائم، غير المحدود بحدّ ولا المشروط بشرط، متقبّلا لوجود الشّر والبلاء، والمعاناة المتولّدة منهما وعنهما، ولكنّه يرمي إلى الترفّع عنها جميعها، روحيّا، نحو مقامات تُدنيه من عوالم وأبعاد تقترب من الواحديّة والأحديّة وإن لم تدركهما تماماً.

ومن عادة المتأخّرين منهم وصفُ هذه الحالة من خلال أبيات أبي فراس الحمداني، والتي نظمها – وللأسف عليه مولانا لا على ابن عمّه! – ليس في الحقّ سبحانه مباشرةً، وإنّما في ابن عمّ أبي فراس وخالهِ: الأمير المغوار، والكرّار غير الفرّار، قائد المقاومة في زمانه، أبي الحسن علي بن عبد الله الحَمَداني التّغلبي (ت. ٩٦٧ م)، أو “سيف الدّولة الحمداني”، ونعوذُ بالله أن تُقال هكذا أبيات – باطنيّاً – في غير اللّه سبحانه:

كَذاكَ الوِدادُ المَحضُ لا يُرتَجى لَهُ

ثَوابٌ وَلا يُخشى عَلَيهِ عِقابُ (…)

فَلَيتَكَ تَحلوْ، وَالحَياةُ مَريرَةٌ

وَلَيتَكَ تَرضى، وَالأَنامُ غِضابُ

وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ

وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ.. خَرابُ!

(*) الجزء الأول: البعدُ “الصّوفي- العِرفاني” للدّين: مستقبلُ الإسلام.. ومستقبلُ الإنسان؟

(**) الجزء الثاني: البعدُ “الصّوفي ـ العِرفاني” للدّين: ثلاثيّة الشريعة-الطريقة-الحقيقة  

مصادر ومراجع:

[1]  وهو زمنٌ لا-متناهِ القِصر أو الصّغر: Dans l’infiniment bref.

[2]  بلغة علم المنطق، تأتي “أو” هنا بمعنى: إمّا “أنا” وإمّا “هو”.

[3] أمّا المقام الأعلى والأقدس فهو بلا شك مقام: لا “نعم” ولا “لا”… وهذا بحثٌ آخر.

[4]  بعد ما عرضناه عن أبعاد ومقامات الوجود، يفهم القارئ العزيز قصدنا من عدم استعمال كلمة “وجود” مع الشّرّ، أو، في باطنِ الباطن، حتّى مع أي “موجودٍ” آخر. ومن لم يقف هنا على إشارتِنا، كيف تُرشِدُهُ عبارتُنا!

[5]  قيل إنّ اسمهما “إمرِه” أو “إيمري” من الكلمة الفرنسيّة المعبّرة عن الحبّ: Amour.

[6]  قَصٌّ، وضربٌ، وطحنٌ، وحرقٌ إلخ..

[7]  إنّه سلطان العاشقين العربي، لتمييزه عن سلطان العاشقين الفارسيّ، جلال الدّين الرّومي.

[8]  ولذلك يتوجّب عليّ ربّما أن أزور طبيبيَ النّفسي سريعاً، أو طبيب الأمراض الظّاهريّة المستعجلة، لأنّ الحلّاج هو “أكفرُ” و”أخطرُ” هؤلاء السّادة والسّيّدات جميعاً عند أهل الظّاهر…

[9]  وقد ترمزُ هذه الآية الكريمة إلى فكرة أنّ ظهور الأضداد (والذي تدلّ عليه عبارة “الموت والحياة”) يؤدّي إلى ظهور الابتلاء، وهو عندي قول سديدٌ وعميق، فنعوذ بالله من عالم الضّدّ والعدّ، والجزر والمدّ، والهزلِ والجدّ.

[10]  لأنّ الحياة التي تنتهي بوقوع الموتِ لا يُعَوَّلُ عليها؛ والموتُ الذي ليس بعدَه حياة، لا يُعوَّلُ عليه.

[11]  طريقة تعبيرٍ أستعيرها طبعا من طريقة تعبير الشيخ ابن عربي، محيي الدّين.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  تهمة الخيانة تُشهر في وجه المعارضين السديريين: تمهيد لتنحي سلمان؟