

تغّلب الانفعال على الديبلوماسية، فانهار الاجتماع الذي كان يُفترض أن يتم التوقيع فيه على ما بات يعرف بـ”اتفاق المعادن”، الذي تسترد فيه أميركا ثمن المساعدات التسليحية والاقتصادية التي قدّمتها لأوكرانيا طوال ثلاثة أعوام من الحرب ضد روسيا.
الشرارة التي أفاضت كأس الاشتباك الكلامي أمام عدسات التلفزة، كانت عرض زيلينسكي صوراً لأسرى أوكرانيين أفرجت عنهم روسيا مؤخراً وبدوا هزيلين، ليُدلّل على وجهة نظره بأن بوتين شخص لا يمكن الوثوق به، رداً على قول ترامب إن الرئيس الروسي مستعدٌ للسلام.
اعتبر ترامب عندها أن زيلينسكي غير مستعد للسلام، واندلع الصدام، الذي شارك فيه نائب الرئيس الأميركي جي. دي. فانس، متهماً الرئيس الأوكراني بعدم احترام الولايات المتحدة وبأنه لم يقل كلمة شكر عن كل المساعدات الأميركية. وهكذا ضاق الخناق أكثر على الرئيس الأوكراني، ووجد نفسه أمام خيارات صعبة جداً.
اتفاق المعادن أولاً
كان القادة الأوروبيون الذين سيجتمعون في لندن اليوم بدعوة من رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، يُعوّلون على أن زيارة زيلينسكي إلى الولايات المتحدة وتوقيعه على “اتفاق المعادن”، سيُقنع ترامب بتليين موقفه أكثر من مسألة منح ضمانات أمنية أميركية للقوة الأوروبية المقترح إرسالها إلى أوكرانيا في حال التوصل إلى اتفاق سلام بين موسكو وكييف. وقد زار رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وستارمر البيت الأبيض تباعاً في الأيام الأخيرة، للتهميد لزيارة زيلينسكي ولاقناع البيت الأبيض بالضمانات الأمنية.
وخلال اللقاء مع ستارمر، يوم الخميس الماضي، بدا أن ترامب قد تراجع عن وصف زيلينسكي بالديكتاتور على أثر التوتر الذي نشب في الفترة الأخيرة بين الرجلين، على خلفية الانتقادات التي وجهها الرئيس الأوكراني لاستثناء كييف من المحادثات الأميركية-الروسية في الرياض الشهر الماضي، واعتبر أن بلاده غير معنية بهذه المحادثات.
ما كان يريده ترامب من زيلينسكي هو التوقيع على “اتفاق المعادن” مقابل استمرار المساعدة العسكرية الأميركية، والقبول بوقف للنار مع روسيا، والشروع في مفاوضات حول تسوية سياسية للنزاع.
الضمانات الأمنية أولاً
وفي المقابل، أراد زيلينسكي من ترامب ضمانات أمنية أميركية بالدرجة الأولى لأي اتفاق سلام، لأن هذا، من وجهة نظره، ما يمكن أن يردع روسيا عن محاولة تكرار الهجوم مجدداً على أوكرانيا. في البداية لم يكن ترامب مقتنعاً بالضمانات الأمنية، لكنه تحت الإلحاح الأوروبي، قبل بتقديم “بعض” الضمانات، بينما أبدى معارضة شديدة لانضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو).
الآن، وبعد الصدام الذي شهده البيت الأبيض، تثور التساؤلات عن الخطوة التالية التي قد يتخذها ترامب حيال زيلينسكي، علماً أنه لم يجزم بالقطيعة النهائية معه، وقال إن في امكانه العودة إلى البيت الأبيض عندما يكون مستعداً للتوقيع على “اتفاق المعادن”.
ولن يتوانى ترامب عن ممارسة المزيد من الضغوط على زيلينسكي، إما لدفعه للرضوخ للمطالب الأميركية، أو لإرغامه على الاستقالة، على رغم الدعم الأوروبي للأخير. لكن التحدي الأكبر الذي يواجه أوكرانيا هو في حال قرّر ترامب حجب المساعدات العسكرية عنها.
ونقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين غربيين حاليين وسابقين، أنه من دون المساعدة العسكرية الأميركية، فإن أوكرانيا سيكون لديها ما يكفي من الأسلحة التي تُمكّنها من القتال بالوتيرة الحالية حتى الصيف المقبل. وبعد ذلك، ستجد كييف نفسها مفتقرة إلى الذخائر، وتالياً غير قادرة على استخدام أكثر أسلحتها تطوراً.
وقال المسؤول الكبير السابق في البنتاغون سيليستي فالاندر، إن الشحنات الضخمة التي أرسلتها إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، تكفي لمساعدة الأوكرانيين على القتال بالوتيرة الحالية على الأقل حتى منتصف العام. ويقول بعض المُحللين الأوكرانيين إن بلادهم من الممكن أن تكون قادرة على استخدام هذه الأسلحة لفترة أطول.
أوكرانيا قد تخسر الكثير في حال ذهب ترامب إلى قرار بقطع المساعدات العسكرية. ولذلك، يرى مؤيدو الرئيس الأميركي أنه يتعين على زيلينسكي اتخاذ خطوة لإصلاح العلاقات. ويقول السناتور ليندسي غراهام إنه يتعين عليه “إما الاستقالة وإيفاد شخص يُمكننا التعامل معه، أو يتعين عليه أن يتغير”
أوروبا بديل أميركا عسكرياً!
وتسعى أوروبا جاهدة لتعويض النقص العسكري المحتمل. وفي عام 2024، زوّد الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والنروج مجتمعين، أوكرانيا بنحو 25 مليار دولار من المساعدات العسكرية، أي أكثر مما أرسلته الولايات المتحدة عامذاك. وزادت القارة الأوروبية بشكل ملموس من انتاجها للقذائف المدفعية، وتدور نقاشات حول زيادة الاتحاد الأوروبي هذه المساعدة إلى 30 مليار دولار في العام الجاري.
وفي العام 2024، انتجت أوكرانيا محلياً 1.5 مليون مُسيّرة، التي باتت سلاحها الدفاعي الرئيسي على طول الجبهة، مما أعانها على صد الهجمات الروسية بأقل الخسائر الممكنة. وتُخطّط أوكرانيا لانتاج 3000 صاروخ و30 ألف مُسيّرة بعيدة المدى هذه السنة.
لكن بعض الإمدادات الأميركية – بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة، والصواريخ الباليستية أرض-أرض، وأنظمة الملاحة، والمدفعية الصاروخية بعيدة المدى – سيكون من المستحيل فعلياً استبدالها على المدى القصير. فأوروبا ببساطة لا تنتج ما يكفي ــ أو لا تنتج أي شيء في بعض الحالات.
ويقول محللون، إنه بمجرد نفاد هذه الإمدادات، فإن قدرة أوكرانيا على شن ضربات صاروخية بعيدة المدى، وكذلك حماية مواقعها الخلفية، ستكون مُعرّضة للخطر.
البديل الأوروبي
وتتركز الأنظار بشكل خاص حول ما إذا كانت أوكرانيا ستستمر في الحصول على خدمة الإنترنت “ستارلينك” التابعة لشركة “سبايس إكس”، وهي ميزة رئيسية في ساحة المعركة، والتي تُموّل جزئياً من البنتاغون. والرئيس التنفيذي لشركة “سابيس إكس” هو إيلون ماسك، الحليف المقرب من ترامب. والأهم من كل هذا هو المعلومات الاستخباراتية التي يحصل عليها الجيش الأوكراني من الولايات المتحدة.
يدل هذا على أن أوكرانيا قد تخسر الكثير في حال ذهب ترامب إلى قرار بقطع المساعدات العسكرية. ولذلك، يرى مؤيدو الرئيس الأميركي أنه يتعين على زيلينسكي اتخاذ خطوة لإصلاح العلاقات. ويقول السناتور ليندسي غراهام إنه يتعين عليه “إما الاستقالة وإيفاد شخص يُمكننا التعامل معه، أو يتعين عليه أن يتغير”.
ويتردد صدى التدهور المتمادي في العلاقات مع زيلينسكي وكذلك بين الولايات المتحدة وأوروبا منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، في دول القارة. وتعبيراً عن الخوف من المستقبل، قال زعيم حزب الاتحاد المسيحي الديموقراطي الألماني فريدريتش ميرتس، الذي يستعد لتولي منصب المستشار بعد حلول حزبه في المرتبة الأولى في الانتخابات التي أجريت في 23 شباط/فبراير الماضي، إن ترامب “لا يكترث لمصير أوروبا”. ويقترح في الوقت نفسه اعطاء الأولوية “لتحقيق الاستقلال عن الولايات المتحدة خطوة خطوة”.
والاستقلالية الأمنية عن الولايات المتحدة، تفترض بالدول الأوروبية رفع موازناتها العسكرية إلى أكثر من 5 في المئة، ويحتاج ذلك إلى سنوات لوضعه موضع التطبيق. كما أن المظلة النووية الفرنسية-البريطانية المكونة من 400 رأس نووي لا تُقارن بما تمتلكه روسيا من 1700 رأس.
إيجاد البديل الأوروبي للحماية الأميركية، ليس جاهزاً في الوقت الحاضر. وحتى القوة الفرنسية-البريطانية المقترح إرسالها إلى أوكرانيا لن يكون في الامكان توفيرها بسرعة، مما يفسر إصرار زيلينسكي وماكرون وستارمر على الحصول على ضمانات أمنية أميركية لهذه القوة، كي تكون في مأمن من التعرض لهجوم روسي.
جعلت المواجهة في البيت الأبيض خيار السلام في أوكرانيا بعيداً أكثر فأكثر، إلا إذا عدّل زيلينسكي موقفه أو قرّر الخروج من المشهد كلياً.
ترى مجلة “الإيكونوميست” البريطانية أن ترامب يُمارس السياسة الخارجية على “طريقة دون كورليوني” في فيلم “العراب” الشهير (The Godfather)، بحيث يتعمد إهانة الضيوف الأجانب ووضعهم في مواقف حرجة، والتحدث إليهم بلغة الإملاء.