اندفاعة اليابان نحو العسكرة.. ماذا عن العواقب؟

ليس إعلان اليابان مؤخراً عن إستراتيجية دفاعية جديدة، تنهي مسارها السلمي، بمثابة رد فعل على الحروب والنزاعات الجديدة دولياً، كما في محيطها الإقليمي، بل هي ثمرة محاولات استمرت سنوات، طرح خلالها مسؤولون يابانيون اقتراح تغيير إحدى مواد دستور بلادهم التي تنبذ الحرب وتُحرِّم التدخل في النزاعات الخارجية أو تستخدم القوة في تسويتها.

هذا الأمر يعود إلى وقتٍ مبكرٍ من العام 2016، حين دعا رئيس وزراء البلاد الراحل، شينزو آبي، المجلس التشريعي لتعديل المادة 9 من الدستور بحجة أن محتواها لا ينسجم مع الواضع الراهن. وقتذاك، لم يكن التوتر في شرق وجنوب شرق آسيا قد بلغ الدرجة التي هو عليها الآن بسبب النزاع حول تايوان، ولم تكن الصين تمارس استعراض القوة الذي تمارسه في هذه الأيام في المنطقة، عبر إحاطة هذه الجزيرة بأساطيلها العسكرية وطيرانها الحربي، بما يشبه التحضير لعمل عسكري للسيطرة عليها.

لم تتوقف الدعوات لتعديل المادة المذكورة منذ ذلك الوقت، إذ أعلن رئيس الوزراء الحالي، فوميو كيشيدا، أواخر سنة 2021، أن الحكومة تدرس خيارات تطوير قدرات “الهجوم المضاد”، من أجل الرد على الهجمات المحتملة على أراضيها وضرب قواعد العدو التي تنطلق منها الصواريخ والطائرات الحربية التي تستهدفها. ويتماشى هذا مع الدعوة إلى رفع ميزانية الدفاع من نسبة 1% إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي. غير أن غزو روسيا للأراضي الأوكرانية، في 24 فبراير/شباط 2022، والتطورات العسكرية والجيوسياسية التي فرضتها تلك الحرب، كان مسوِّغاً ودافعاً لأصحاب هذه الدعوات لكي يرفعوا وتيرتها، خصوصاً أن اليابان تشترك مع روسيا بحدود بحرية مفتوحة، ما أوجد لديهم المخاوف من إمكان تكرار روسيا تجربة أوكرانيا على حدودهم.

يتقاطع هذا الأمر مع تنازع اليابان وروسيا على أرخبيل جزر الكوريل، ولا سيما في ظل تعديل الدستور الروسي مؤخراً، بحيث نصَّ على منع أي تنازلات إقليمية، أي أنه بتَّ في أمر عائدية الجزر لروسيا وأوقفَ أي نقاشات بشأنها. ولم يمر وقتٌ طويل حتى ظهر التوتر بين الصين وتايوان، فوجدت طوكيو في تصاعد النشاط العسكري الصيني حول تايوان، والمناورات البحرية الصينية الروسية قبالة بحر اليابان وفي أجوائه، مسوغاً جديداً من أجل زيادة إنفاقها العسكري، والبحث عن أحلاف عسكرية مع أميركا وأستراليا وغيرهما، لضمان أمنها، وهو الأمر الذي يثير مخاوف لدى الجيران في كوريا الجنوبية والصين وكوريا الشمالية، من إمكان انعكاس التغييرات الدستورية في اليابان مزيداً من الإستعداد لضرب محرمات استمرت راسخة عقوداً من الزمن.

هكذا تطور تسليحي من المحتمل أن يجعل لعاب اليابان يسيل فتعود إلى نزعة العسكريتاريا التي كانت عليها قبل الحرب العالمية الثانية، فتشن حروباً على جيرانها، شبيهة بالحروب التدميرية التي اعتادت شنها طوال تاريخها العدواني الذي ارتكبت خلاله جرائم حرب، واستعبدت شعوب الدول التي احتلتها

غير أن استراتيجية الدفاع الجديدة التي أعلنتها طوكيو، في 16 ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتي صنّفت الصين تحدياً استراتيجياً، وروسيا مصدر قلقٍ لأمنها، لاقت في اليابان وخارجها، معارضة دائمة ترفض مبرراتها. أما أسباب رفض المعارضة اليابانية للخطوة فعزته إلى أن هنالك استحقاقات أهم، وعلى الحكومة التنطح لحلها بدلاً من تبذير الأموال على الأسلحة، خصوصاً بعد تسجيل الاقتصاد الياباني تراجعاً في النمو، ما انعكس على مستوى معيشة اليابانيين، وزاد لديهم المخاوف من تراجع أكثر في هذا المستوى مع تخصيص قسم من الميزانية لأغراض الدفاع، إضافة إلى إمكانية تسببه بأزمات مجتمعية وأمنية غير محسوبة (إرتفع معدل التضخم في اليابان من 4% إلى 4.3%، وهو أعلى مستوى منذ 41 عاماً).

وتقول المعارضة اليابانية إن طرح الإستراتيجية الدفاعية يُعدُّ تهرُّباً من الحكومة من مهامها لمواجهة الاستحقاقات الإقليمية والدولية، كما توقعت أن تُسِّهل الاستراتيجية العسكرية الجديدة على الحكومة فكرة التدخل في النزاعات الخارجية، وربما شن الحروب بسبب عجزها عن إيجاد الحلول للمشكلات الطارئة.

أما الدول التي كانت تحتلها اليابان؛ مثل كوريا الجنوبية وأندونيسيا وفييتنام والفيلبين وماليزيا وغيرها، فلديها مخاوف تاريخية من أن تقود الاندفاعة العسكرية الجديدة لدى جارتها التي وصلت إلى مرحلة كبيرة من التطور التكنولوجي والقوة الاقتصادية، إلى بناء ترسانة عسكرية فائقة التطور. هكذا تطور تسليحي من المحتمل أن يجعل لعاب اليابان يسيل فتعود إلى نزعة العسكريتاريا التي كانت عليها قبل الحرب العالمية الثانية، فتشن حروباً على جيرانها، شبيهة بالحروب التدميرية التي اعتادت شنها طوال تاريخها العدواني الذي ارتكبت خلاله جرائم حرب، واستعبدت شعوب الدول التي احتلتها.

بارك الأميركيون هذه الاستراتيجية، وتحدثوا عن أحلافٍ لمواجهة التهديدات الصينية والكورية الشمالية، وعن قدرة اليابان الكبيرة على تعزيز الردع في المحيط الهادىء. ولم يتأخر المسؤولون اليابانيون بعد إعلان الاستراتيجية في التحرك لتكريسها، فسارع رئيس الوزراء كيشيدا إلى زيارة الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا لبحث التعاون العسكري المشترك. وأُعلِن عن عقد اتفاقات تعاون عسكري ودفاع مشترك، مع الولايات المتحدة وبريطانيا، مقدمة لتمركز قوات بحرية أميركية في سواحل اليابان، وبحث إمكانية شراء اليابان صواريخ “توماهوك” البالستية الأميركية للرد على أي عدوان من أراضي الصين أو كوريا الشمالية، إضافة إلى التعاون مع بريطانيا وإيطاليا لتصنيع مقاتلة متطورة.

إقرأ على موقع 180  عشرة أسئلة.. عن مؤامرة الباخرة

والجدير ذكره أن تبني طوكيو عقيدة دفاعية جديدة، سبقتها إليه ألمانيا التي حادت عن عقيدتها السلمية وقررت، بسبب الغزو الروسي، بناء جيش يكون الجيش الأكبر في أوروبا، وبالتالي، فإن هذا البلدين يدشنان عصراً جديداً سمته الأولى سباق التسلح. ولن يقتصر سباق التسلح هذا على الأطراف المتصارعة، بل قد تلجأ إليه دولٌ أخرى ترى في تسلح جيرانها خطراً كبيراً عليها. والأمر نفسه ينطبق على تشكيل الأحلاف، إذ قد نرى أحلافاً تتشكل بين دول بعيدة عن النزاعات، مدفوعة بالمخاوف من نبذ دول استعمارية قديمة نهجها السلمي وعودتها إلى ماضيها الاستعماري المؤلم.

في ظل هذا السباق المحموم لاكتساب القوة وتفريغ فائض القوة، ينبري السؤال حول تأثيرات ما يحدث في أوروبا، وما يمكن أن يتمخض عنه التوتر في شرق آسيا، على بقية نواحي العالم، خصوصاً تلك البعيدة عن هاتين البؤرتين. كذلك التساؤل حول التأثيرات على الإنسان العادي، والذي كان أول من دفع فاتورة غزو أوكرانيا، وهي الفاتورة التي يمكن أن ترتفع أكثر في حال أقدمت الصين على غزو تايوان مستقبلاً. ويبقى السؤال الأهم بالنسبة لنا في المنطقة العربية، هل يمكن أن تتغير حالة الجمود التي نعيشها، والتي تعد في حد ذاتها تراجعاً؟ وهل يمكن أن تفكر الدول العربية في إقامة تحالف دفاعي في ما بينها، يختلف عن كل أشكال التحالفات التي سبق أن جُرِّبت، في ظل التوجه العالمي نحو تشكيل الأحلاف؟ سؤال لا يملك الكاتب القدرة على الإجابة عليه، لأن السياسي العربي لم يعد يتخيل سماعه.

Print Friendly, PDF & Email
مالك ونّوس

كاتب ومترجم سوري

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "الروليت البيلاروسية".. لوكاشينكو بين المناورة والمقامرة