إنّ الإحباط لا يخصّ فقط البلدان العربيّة المتوسطيّة (مجازاً وإن شملت العراق والأردن واليمن والسودان وموريتانيا)، بل مناطق كثيرة أخرى من “العالم الثالث”، انطلاقاً من إفريقيا، التي يُقال إنّها القارّة الواعدة، وحتّى أمريكا اللاتينيّة وآسيا. تتوالى الأزمات الطبيعيّة، كجائحة الكوفيد 19 والزلزال، أو أزمات من فعل البشر أنفسهم، كأزمة الغذاء العالميّة من جرّاء الحرب في أوكرانيا وعليها، وتلوح في الأفق أزمات أخرى، كالأزمة المناخيّة.
بالتأكيد يقع اللوم على مسؤولي سلطات وحكومات الشعوب المعنيّة في عدم بناء قدرات بلادهم خلال عقودٍ طويلة على قاعدة النموّ وعلى تعزيز المناعة وقدرة التكيّف مع الأزمات الداخليّة والخارجيّة. ولكن يحقّ أيضاً التساؤل عن دور “النظام العالميّ” وعمّا إذا كان قد فقد رشده وعمّق الأزمات إلى درجةٍ لا يُمكِن التكيّف معها؟
لقد نشأ نوعٌ من “النظام العالميّ” على مآسي ضحايا الحرب العالميّة الثانية وما جلبته من دمار. ضحايا ودمار حلّاً في أوروبا وفي الشرق الأقصى، أكثر من غيرهما. وتأسّس مع قيام منظّمة الأمم المتحدة على بناء السلام، أو بالأحرى على أساس توازن رعبٍ نوويّ بين قوى “عظمى” بحيث يتمّ تجنّب الحرب المفتوحة، وعلى إنهاء الاستعمار المباشر ودرء الفاشيّة، عبر إعلان حقوق الإنسان وحقوق الشعوب.
لم يكبح هذا النظام الحروب، كحرب كوريا التي نشبت سريعاً، ولكنّه ضبط آثارها على بقيّة البلدان. ثمّ تحوّلت الصراعات تدريجياً إلى صراعات إقتصاديّة وماليّة، أدَّت في النهاية إلى صعود الصين وانهيار الإتحاد السوفياتي. لكنّ “النظام العالميّ” انهار أيضاً مع هذا الأخير وغاب معه الحدّ الأدنى من الاستقرار الذي يُمكِن أن يتيح بعض هامش المناورة لدول العالم الثالث.
***
إنتهى الإستقرار كليّاً منذ الغزو الأمريكي للعراق، الذي تبع أحداث 11 أيلول/سبتمبر والتي لا دخل للعراق بها، ثمّ مع انفجار الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا والصين بشكلٍ مفتوح في أوكرانيا وبشكلٍ كامنٍ في بحر الصين، مما يهدّد بتخطّي عتبة الحرب النوويّة. هكذا لم يعُد اليوم هناك “نظام عالميّ”، لا متعدّد الأقطاب ولا ذي قطبٍ واحد.. بل صراعٌ مفتوح يبحث عن توافق ما بعد الخراب.
واللافت للإنتباه في هذه المرحلة أنّ شعوب الدول العظمى المتصارعة، خاصّةً في الولايات المتحدة وأوروبا الغربيّة، منخرِطة في منطق الصراع، في حين كانت في الماضي تتجمهر صاخبةً ضدّ الحرب، بل شكّلت أيضاً سنداً أساسياً لنضالات الشعوب للتخلّص من الاستعمار. ولوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي و”مراكز الأبحاث” التي تهيمن عليها مصالح معيّنة أثرٌ في ذلك، برغم الزيادة الملحوظة في حريّة التعبير. هكذا تسود متلازمة “نحن ديموقراطيّات والآخرون ديكتاتوريّات”، وكذلك “نحن شعوب مواطنة والآخرون قبائل ومكوّنات”، كما سادت يوماً ما ثنائيّة (متلازمة) “نحن متحضّرون والآخرون همج يجب تحضيرهم عبر استعمارهم، ولو لفترة” (!).
صندوق النقد والبنك الدوليين، هما وإن تحرّرا قليلاً من “إجماع واشنطن”، يبقيان مصرفين يعملان على إقراض المال. فهما لم يحذّرا من الانهيار المالي اللبناني الكبير في تداعياته.. إلاّ بعد حدوثه، برغم أنّهما كانا يعرفان أنّه حاصل
واللافت للإنتباه أيضاً هو أنّ الصراعات الاقتصاديّة والماليّة أثبتت نجاعةً مذهلة. هكذا استطاعت الولايات المتحدة وأوروبا الغربيّة درء الآثار الكبيرة لأزمة جائحة الكوفيد 19 عبر طبع عملاتها بشكلٍ كبير، دون تغطية ودون أن تشكّل “ديونها السياديّة” خطراً كبيراً لأنّ عملاتها هي التي يقوم عليها النظام الاقتصادي العالمي المعولَم. هذا ما لا تقدر عليه الدول الأخرى، خاصّةً في “العالم الثالث” حيث تفتقد إلى موارد رئيسيّة كالنفط وترزح تحت ثقل ديونٍ بالعملة الصعبة لتأمين وارداتها وأمنها الغذائي ونهوضها من الجائحة. وها هي الولايات المتحدة وأوروبا الغربيّة تموّل اليوم الحرب الأوكرانيّة بالطريقة ذاتها دون سقوفٍ أو حدود.
***
تمّ استخدام العقوبات الاقتصاديّة كسلاحٍ رغم رفض الأمم المتحدة لهذه الوسيلة التي لا تقلّ فتكاً عن الأسلحة الحربيّة والتي ثبت أنّها لم تغيّر يوماً “نظاماً”، بل ثبتّت أركانه مع إفقار المواطنين. عقوبات فرضت على العراق منذ 1990، تخطّت حصيلة ضحاياها تلك للغزو، ولم تتمّ إزالتها كليّاً حتّى اليوم بعد ثلاثين سنة. عقوبات على سوريا منذ الثمانينيات لتدخّلها في لبنان، الذي جرى في حينه بضوءٍ أخضر أمريكيّ. عقوبات على دول “مارقة” حيال “نظامٍ دوليّ” لم يعُد أصلاً موجوداً. وعقوبات انتقائيّة. فلا مجال حتّى للسماح بمقاطعة البضاعة التي ينتجها مستوطنو الضفّة الغربيّة في ظلّ احتلال استيطانيّ موصوف في القانون الدولي. وعقوبات سهلة لا تكلّف صانعي قرارها من إدارات وبرلمانات جهداً كبيراً في حشد الموارد كما للحرب، بل الجهد هو لـ”مجموعات الضغط” (اللوبيات) ولناشطين “مدنيين”، ومن يموّلهم، بحججٍ مختلفة.
وفي النهاية، تتحوّل الدول “المارقة” المعاقَبة إلى “مارقة” أكثر، واقتصاداتها إلى اقتصادات هشّة، وتتحوّل التجارة والإنتاج إلى التهريب والممنوعات، وينفلت التعامل المالي إلى الـ”كاش” بعملات المعاقِبين ذاتهم. وعلى عكس الحرب التي تستنزف الموارد، يُمكِن لمثل هذه الآليّات أن تستمرّ إلى ما لا نهاية.
واليوم تتطوّر أنظمة “العقوبات” لتطال شركات متعدّدة الجنسيّة مركزها الصين، بحجّة أنّها تسمح للصين بالتجسّس على المواطنين.. ولكن ماذا عن الأنظمة التي تنتجها الولايات المتحدة وإسرائيل.. أليست هي أيضاً باباً للتجسّس؟
***
هذا هو وضع “اللانظام العالميّ” اليوم. ربّما تستطيع دول الخليج العربي التأقلم معه، بل والتأثير فيه. لكنّ الدول الأخرى العربيّة المتوسطيّة تعاني منه، وبشدّة. الشعوب فيها تعاني من حكوماتها أو من السلطات القائمة. هذا مع العلم أنّ الإدارة الرشيدة والديموقراطيّة لا يُمكِن فرضها من الخارج، بل عبر آليّة إحياء الدولة كمؤسسة قادرة. فهي التي يُمكِن أن تضمَن المساواة في المواطنة والتحوّل الديموقراطي. وبالتأكيد إنّ مهمّة حكوماتها وأحزابها السياسيّة وقوى مجتمعها، مهما كانت، ليست سهلة، حتّى لو حصل تغيير جذريّ. لأنّ العبث الموروث وسوء إدارة السطات القائمة لهما وقع الكارثة على المجتمع، ولأنّ المجتمع أضحى مستقطباً في صراعات الدول، ولأنّ التداعيات الاقتصادية والمالية لـ”اللانظام العالمي” ضخمة.
لا يُمكِن الاعتماد، حتماً، على منظومة الجامعة العربيّة، التي لا تشبه اليوم الفكرة التي قامت عليها في أربعينيات القرن الماضي. كما لا يُمكِن الاعتماد على الأمم المتحدة، التي وإن كانت منبراً لطرح قضايا حقوق الإنسان كما حقوق الدول، أضحت عاجزة أكثر من الماضي مع انتشار الصراعات، وعجزها أكبر في معالجتها. وكذلك الأمر بالنسبة لصندوق النقد والبنك الدوليين، فهما وإن تحرّرا قليلاً من “إجماع واشنطن”، يبقيان مصرفين يعملان على إقراض المال. فهما لم يحذّرا من الانهيار المالي اللبناني الكبير في تداعياته.. إلاّ بعد حدوثه، برغم أنّهما كانا يعرفان أنّه حاصل.
باختصار يستدعي “اللانظام العالمي” القائم كثيراً من الحكمة والدراية والمحبّة للأوطان والتمسّك بالحريّة.. وذلك فوق كلّ اعتبارٍ آخر.