ما خيارات الصين لو وقعت الحرب بين روسيا والغرب؟

خلا البيان الختامي الذي أعقب لقاء القمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ في الرابع من الشهر الجاري، من الإشارة إلى الأزمة الأوكرانية، وهو أمر يدفع إلى طرح العديد من التساؤلات حول موقف الصين أو خيارها تجاه تفاقم حدة الصراع بين روسيا وحلف "الناتو" حول مستقبل أوكرانيا ومصيرها.

في البيانات الثلاث التي نشرتها صحيفة “الشعب” الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الحاكم عقب القمة الصينية الروسية، كان ثمة تركيز على تعميق التعاون الإقتصادي ورفض تسييس وباء “كورونا”، بالإضافة إلى “دعم المصالح الأساسية لكل منهما، ومعارضة التدخل الخارجي في شؤونهما الداخلية، ومعارضة توسيع حلف شمالي الأطلسي وحثّه على التخلي عن عقلية الحرب الباردة واحترام سيادة وأمن ومصالح الدول الأخرى”.

الفقرة الأخيرة التي ينطبق عليها القول المأثور بأنها “حمّالة أوجه”، بعضها يوحي بإنحياز الصين إلى الجانب الروسي المتوثب نحو أوكرانيا، إلا أن هذا التفسير تواجهه ثلاث وقائع هي:

ـ أ: ما نشرته صحيفة “الشعب” الصينية عن المتحدث باسم وزارة الخارجية تشاو لي جيان (10 ـ 2 ـ 2022) حول عزم “الصين والولايات المتحدة إقامة سلسلة من الأنشطة لإحياء الذكرى الـ50 لزيارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون إلى الصين”.

ـ ب: بيان الخارجية الصينية (14 ـ 2 ـ 2022) الذي دعا “جميع الأطراف المعنية إلى الحفاظ على العقلانية وتجنب الأفعال التي قد تؤدي إلى تصعيد التوترات وتؤثر بالسلب على الأزمة في أوكرانيا والعودة إلى نقطة البداية في اتفاق مينسك2، الذي أقره مجلس الأمن الدولي”.

ـ ج: إن موقف الصين المعارض لتوسيع حلف “الناتو”، له مريدوه وأنصاره في أوروبا الغربية، ففي قمة “الناتو” عام 2008 في العاصمة الرومانية بوخارست، سقط المشروع الأميركي القاضي بتوسعة الحلف بإتجاه أوكرانيا جرّاء اعتراض ألمانيا وفرنسا، وفي الذكرى السبعين لمعركة “النورماندي” عام 2014، أفلحت برلين وباريس بجمع بوتين ونظيره الأوكراني بيترو بوروشينكو، في مسعى منهما لتبديد الهواجس المتبادلة.

في مقالة كتبها بوتين لصحيفة “الشعب” الصينية قبل وصوله إلى بكين في الثالث من الشهر الحالي ورد “أن التبادل التجاري بين روسيا والصين ازداد بأكثر من الثلث في 2021، ووصل إلى 140 مليار دولار، وأن البلدين يتجهان إلى زيادته ليبلغ 200 مليار دولار في السنة”

في هذه الوقائع ما يفضي إلى قراءة ما بين سطورها، فالإحتفاء بزيارة نيكسون إلى الصين (1972) لها دلالتها الرمزية القائمة بالأصل على تعاون صيني ـ أميركي لمواجهة الإتحاد السوفياتي آنذاك، فضلا عن أن إقامة أنشطة من وحي المناسبة يؤشر إلى قناعة صينية بضرورة  استمرار العلاقات مع الولايات المتحدة، وأما دعوة “الأطراف المعنية إلى الحفاظ على العقلانية” لحل القضايا العالقة حول أوكرانيا، كما ورد في بيان الخارجية الصينية، فتقوم على رؤية متوازنة غير منحازة لطرف محدد، ومن هنا بالتحديد جاءت الدعوة الصينية إلى الإلتزام بإتفاق “مينسك 2” الذي رعته ألمانيا وفرنسا في الثاني عشر من شباط/ فبراير 2015، وعلى هذه الحال، لا يختلف الموقف الصيني عن نظيريه الألماني والفرنسي اللذين عارضا مبكرا إدخال أوكرانيا إلى حلف “الناتو”، وذهبا إلى وساطات عدة بين موسكو وكييف.

ومع كل ما سبق ذكره، يطل السؤال الشائع برأسه: ماذا لو وقعت الحرب؟ هذا السؤال يمكن الإطلالة عليه من زاويتين:

ـ الأولى؛ عنوانها موازنة المصالح الصينية بين روسيا والغرب، وفي أرقامها الإقتصادية ما يلي:

 نقل موقع قناة “روسيا اليوم” في السابع من كانون الأول/ ديسمبر2021 عن دائرة الجمارك الصينية “أن حجم التبادل التجاري مع روسيا خلال الأشهر الـ 11 الأولى من عام 2021 وصل إلى 130 مليار دولار”، وبحسب وكالة “سبوتنيك” الروسية (14 ـ 1ـ 2022) أن نسبة التبادل التجاري بين روسيا والصين بلغت 146 مليار دولار، وفي مقالة كتبها بوتين لصحيفة “الشعب” الصينية قبل وصوله إلى بكين في الثالث من الشهر الحالي ورد “أن التبادل التجاري بين روسيا والصين ازداد بأكثر من الثلث في 2021، ووصل إلى 140 مليار دولار، وأن البلدين يتجهان إلى زيادته ليبلغ 200 مليار دولار في السنة”، وقال بوتين “أعد مسؤولو النفط لدينا حلولا جديدة لتوريد موارد الطاقة إلى الصين، بحجم 10 مليارات متر مكعب سنويا”.

تلك هي الأرقام الروسية مع الصين، ماذا عن الأرقام الصينية مع الغرب؟

في الثامن من كانون الثاني/ يناير 2022، أكدت صحيفة “الشعب” الصينية أن الواردات والصادرات الصينية حقّقت حجماً بلغ 6 تريليون دولار أميركي في عام 2021، وتُعتبر هذه المرة الأولى التي تحقق فيها التجارة الخارجية الصينية هذا الرقم بعد ثماني سنوات من وصولها لأول مرة إلى 4 تريليونات دولار، ولتصل إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق، وأكبر خمسة شركاء تجاريين للصين في عام 2021، هم منظمة آسيان والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية”.

في ما يتعلق حصرا بالولايات المتحدة، كانت وكالة “تاس” الروسية قد نقلت عن دائرة الجمارك الصينية (14ـ 1ـ 2021)، أن حجم التجارة بين الصين والولايات المتحدة في نهاية عام 2020 وصل إلى 586 مليار دولار، بينما كان تخطى عام 2019 عتبة الـ 540 مليار دولار وفقا لقناة “الحرة” الأميركية.

ومع الإتحاد الأوروبي الذي غدا الشريك التجاري الأول مع الصين منذ عامين، فإن أرقام وكالة الإحصاء الإوروبية “يوروستات”، تشير إلى أن حجم التبادل الأوروبي ـ الصيني وصل في عام 2020 إلى 532 مليار يورو.

وحيال ذلك ينصرف الحديث إلى المقارنة بين لغة الحرب ولغة الأرقام، وأين مصلحة الصين في ذلك، فحين يتعدى حجم التجارة الصينية مع الغرب الأميركي والأوروبي تريليون دولار، فيما تقيم الآمال الموعودة في السنوات المقبلة على حجم تجاري بين روسيا والصين على 200 مليار دولار، فلا شك أن ثمة من سيسأل في داخل القيادة الصينية: أين مصلحة العملاق الأصفر بالوقوف مع روسيا بوجه الغرب؟

إقرأ على موقع 180  العبور التاريخي إلى.. فلسطين

ـ الثانية؛ عنوانها: هواجس النخبة الروسية من الصين، وبدايتها مما يدور في عقل ألمع المفكرين الروس الحاليين، ألكسندر دوغين، والذي يُقال إن كتابه “أسس الجيوبولتيكا” كان من أكثر الكتب التي شكلت أساس الفكر الإستراتيجي لبوتين، وفي هذا الكتاب، يقول دوغين عن الصين:

“الصين هي الجار الجيوبولتيكي الأكثر خطورة على روسيا من الجنوب، ودورها يتشابه في بعض وجوهه مع دور تركيا، ولكن إذا كانت تركيا عضوا في الناتو بصورة علنية، فالأمر اكثر تعقيدا بالنسبة للصين”.

هذا التصنيف للصين يستجر سؤالا: لماذا الصين على هذه الخطورة؟ والإجابة يقدمها دوغين كالآتي:

“ثمة تقليد سياسي ثابت يسمي الصين بالإمبراطورية المتوسطة، وخلال مسيرة استعمار الغرب للشرق، تحولت الصين إلى شبه مستعمرة ذات حكومة عميلة موالية للإنكليز، ومن بداية القرن التاسع عشر حتى عام 1949، كانت جيوبولتيكية الصين تتبع التقاليد الأطلسية، وبإنتصار الحزب الشيوعي استبدلت الصين توجهها بسياسة موالية لروسيا، غير أن الخط الأوراسي وبفعل التقاليد التاريخية، لم يلبث أن استُبعد وفضلت الصين الإكتفاء الذاتي، ومع التسليم بأن تعود الصين في ظروف معينة إلى طريق التحالف الأوراسي، فلا ينبغي الركون إلى ذلك بصفة خاصة، فالعلاقات مع الغرب أكثر جدوى من الناحية النفعية البحتة على الصين من العلاقات مع روسيا التي لن تستطيع المساعدة على التطوير التقني لهذه البلاد”.

تقول دائرة الجمارك الصينية أن حجم التجارة بين الصين والولايات المتحدة في نهاية عام 2020 وصل إلى 586 مليار دولار، بينما كان تخطى عام 2019 عتبة الـ 540 مليار دولار

أكثر من ذلك، يقول دوغين إن الصداقة الصينية ـ الروسية لن تؤدي بحسب التفكير الصيني إلا “إلى تقييد المناورات الجيوبولتيكية للصين في الشرق الأقصى ومنغوليا وسيبيريا الجنوبية، يضاف إلى هذا، أن النمو السكاني في الصين، يطرح امام هذه البلاد مشكلة الأراضي الحرة وأراضي كازاخستان وسيبيريا شبه الخالية من السكان، وتبدو هذه الأراضي مغرية حتى أقصى الحدود”.

هل من أخطار صينية أخرى؟ يجيب دوغين “الصين خطر على روسيا لسببين، لكونها قاعدة جيوبولتيكية للأطلسي، وبحد ذاتها كبلد ذي كثافة سكانية يبحث عن اراضي لا يملكها أحد، وكل هذه التصورات، وبغض النظر عن الملموسية السياسية، تجعل من الصين عدوا جيوبولتيكيا محتملا لروسيا من الجنوب والشرق، وهذا ما ينبغي الإعتراف به”.

وكما يلاحظ، أن كازاخستان، تقع في دائرة الطموحات الصينية الخطيرة التي يحذر دوغين منها، وهذا يعيد إلى الأذهان أسباب استخدام بوتين قبضة الحسم في الشهر الماضي، حين أرسل وحدات عسكرية روسية إلى كازاخستان لإحتواء حركة الإحتجاجات الشعبية هناك.

وفي كتاب “أسس الجيوبولتيكا” يقول دوغين “إذا اختارت روسيا طريقا آخر غير طريق تجميع الإمبراطورية، فإما ان تقوم الصين بقفزة يائسة بإتجاه الشمال، أي نحو كازاخستان وسيبيريا الشرقية، أو تتحرك اوروبا الوسطى نحو اوكرانيا وبيلاروسيا”.

وبخصوص سيبيريا التي كانت كانت لفترة تحت السيطرة الصينية، فهاجس دوغين من محاذاتها لثقل سكاني صيني على حدودها يتجاوز 120 مليون نسمة، في حين لا يتجاوز السكان الروس 15 مليونا في سيبيريا، وهذا ما يسميه دوغين الأراضي شبه الخالية من البشر.

على العموم، لا يبدو دوغين وحيدا بين النخب الروسية التي تهجس من الجار الصيني أو تخشاه، ففي الصحافة اليومية التي تصدر في موسكو، تظهر بين الحين والآخر آراء وكتابات نخبوية لا تخفي هواجسها من الصين، ومنها على سبيل المثال ما كتبه نيكيتا إيسايف (صحيفة “غيبوليتيكا”ـ 1ـ 11ـ 2017) تحت عنوان “روسيا قد تدفع غاليا ثمن الصداقة مع الصين” داعيا إلى ضرورة العمل بحذر شديد مع الشريك الأكبر في الشرق، وفي صحيفة “فوينيه أوبزرينيه” كتب ألكسندر خارالوجني بتاريخ 19 ـ 3ـ 2020 معلقا على حرب أسعار النفط بين روسيا والسعودية فقال: “الصين دخلت حرب النفط إلى جانب خصوم روسيا، للأسف، يظهر الرفاق الصينيون مرة أخرى أن من العبث والخطر اعتبارهم حلفاء لروسيا”.

في المحصلة، لا تبدو مصالح الصين متماشية مع مصالح روسيا في عدة منعطفات ومن ضمنها الأزمة الأوكرانية، أو أية ازمة أخرى تعتبرها موسكو مساً بأمنها الإستراتيجي، وإذا كانت الحروب بحاجة إلى حلفاء، لا تبدو الصين “حليفا مضمونا” يقف إلى جانب روسيا، وفي ظل غياب الحلفاء، فهل تذهب روسيا وحيدة إلى الحرب؟

في الختام مقولة من العهد السوفياتي:

يقول وزير الخارجية السوفياتية الأكثر شهرة، اندريه غروميكو “عشر سنوات من التفاوض أفضل بكثير من ساعة حرب واحدة”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  فوز ميلوني.. ثلاثة وجوه في الانتخابات الإيطالية