عالم جديد بين الإنحدار الأمريكي.. والصعود الصيني

على امتداد علاقتي بمسائل الصراع، لم أقابل من المجتمع الدولي إهتماماً، أو قل مبالاة، بعدد القتلى والخسائر المادية المباشرة، في صراع كبير أو صغير، مثلما قابلت وأقابل في الحالة الراهنة، أي حالة الحرب الأوكرانية.

تكاد لا توجد دولة واحدة لم تجأر بالشكوى لإصابة اقتصادها بخسائر هائلة نتيجة حرب لم تسع إليها أو تشترك فيها. اللافت للإنتباه أن هذه الدول التي تواجه بسبب هذه الحرب ولأسباب أخرى مشكلات عويصة في الجانب الاقتصادي أو في الجوانب الاجتماعية والسياسية والسكانية أو في كلها معاً، تجد نفسها الآن، أي بعد مرور أكثر من سنة على نشوبها، مشدودة إلى قضايا أخرى.

تابعت عن بعد النقاشات الدائرة في بعض مراكز البحث والعصف الفكري وصنع الرأي في أوروبا وبعض آخر في الولايات المتحدة، راعني سرعة تبدل القناعات حول مسيرة هذه الحرب.

أفهم، أو أتفهم، بطبيعة الحال انبهار بعض الباحثين من دول مثل السويد وفنلندا بالفرصة التي أتاحتها لهم هذه الحرب ليتوقفوا عن ترددهم في المشاركة في أنشطة حلف الأطلسي أو في الانضمام له. أفهم أيضاً حماسة البولنديين الذين تنبهوا إلى أن لا أحد في أوروبا على استعداد لأن يدخل حرباً للدفاع عنهم. يدركون أن حمايتهم من غزو خارجي تقع على عاتق الولايات المتحدة، الدولة الوحيدة القادرة على تعبئة إمكانات حوالي ثلاثين دولة عضو في الحلف من أجل تقديم هذه الحماية.

يُقلق واشنطن الصعود الرتيب والمرتب للصين. يُقلقها أكثر الإقتراب أو التقرب الروسي من بكين. أظن أن المخططين الأمريكيين لاستراتيجية العودة بأمريكا إلى مكانة القطب الأوحد تزعجهم حقيقة أن الحرب ضد روسيا طالت أكثر مما خَطّط لها أن تطول رجال الحرب في أمريكا

الآن يتضح لنا أن الأمور المتعلقة بالحرب الأوكرانية وتطوراتها ليست كما تبدو للبعض سلسة وواضحة، وبالتأكيد لم تعد تحتكر الاهتمام. هناك رأي متزايد التردد بين باحثين أوروبيين يعتقد أنه لا يوجد ما يبرر الانشراح الأمريكي بالتوحد الأوروبي الداعم لأمريكا وحلف الأطلسي، فهذا التوحد، إن وُجِد، فلفترة قصيرة. وُجِدَ في السنة الأولى للحرب حينما كان الأوكرانيون يحققون انتصارات أذهلت الكثيرين؛ انتصارات تضخمت بالمبالغة الإعلامية التي قادتها أمريكا أو بتراخي القوات الروسية أو بالتدريب المكثف لأوكرانيين خلال السنوات السابقة مباشرة على الحرب. وُجِدَ التوحد قبل أن ترتفع تكلفة الحرب وقبل أن توشك خزائن السلاح تنفد في دول أوروبية استجابت لضغوط قيادة الحلف مد أوكرانيا ببعض أو معظم المخزون من الذخائر. صار لزاماً على هذه الدول زيادة ميزانيات التسلح وتخصيص اعتمادات غزيرة لتمويل إدارة الأوكرانيين للحرب ولتشغيل مصانع السلاح في دولهم وفي الولايات المتحدة. وُجِدَ أيضاً قبل أن يتضح أن منع استخدام الغاز الروسي أجبر حكومات أوروبا وبخاصة ألمانيا على دفع قيمة أعلى نظير استيراده من أمريكا ودول أخرى.

شيئاً فشيئاً يتغير وشهراً بعد شهر يمر حتى بدأ بعض الأوروبيين وبعض الآسيويين، ومن هؤلاء القيادة الحاكمة في بكين، يكتشفون أن روسيا لم تعد، ومن الصعب جداً أن تعود في الأجل المنظور، قوة عظمى. روسيا التي تردّدت كثيراً قبل أن تتقرب إلى الصين هي الآن تعتمد عليها كسند، ولكن مجرد سند.. لا أكثر، فالصين لا تريد أكثر من أن تكون سنداً. راحوا يكتشفون أيضاً، وهو الأهم والأخطر، أن الولايات المتحدة بدورها يصدر عنها من الإشارات والسلوكيات، في سياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء، ما يشير إلى أنها ربما تكون قد قطعت شوطاً غير قصير على طريق الانحدار.

***

يُقلق واشنطن الصعود الرتيب والمرتب للصين. يُقلقها أكثر الإقتراب أو التقرب الروسي من بكين. أظن أن المخططين الأمريكيين لاستراتيجية العودة بأمريكا إلى مكانة القطب الأوحد تزعجهم حقيقة أن الحرب ضد روسيا طالت أكثر مما خَطّط لها أن تطول رجال الحرب في أمريكا. أعتقد أيضاً أنها بدأت تنتج ما لم يدخل في أذهان المخططين الأوائل. كان الظن أو التوقع أنها، أي روسيا، كما حدث لها في نهاية الحقبة السوفييتية، لن تتحمل الضغوط الاقتصادية، فينتهي بها الحال معتزلة المنافسة وخارجة عن السباق وربما دولة فاشلة كما بدت للأمريكيين في عهد بوريس يلتسين. هنا يجدر بأن يتساءل المراقبون عن جدوى إطالة الحرب بعد أن ثبت أن روسيا تُجدّد قواها مع تمدد الحرب واستمرار المقاطعة، وأن التذمر في صفوف بعض شعوب الحلف الغربي يزداد.

***

في فرنسا، يوجد تذمر متصاعد لأسباب داخلية ولكن أيضاً بسبب الحرب. وفي ألمانيا، لم يهدأ التذمر بسبب الضرائب وارتفاع الأسعار وكلاهما من نتائج الحرب. هنا أيضاً أسمع عن خوف من أن تؤدي زيادة ميزانية التسلح والسماح بعسكرة السياسة الألمانية إلى زيادة قوة وسرعة انتشار التيارات اليمينية. هذا الخوف يمتد إلى دول شرق أوروبا وهو خوف ملموس في دول جنوب أوروبا. نقرأ أن الزائر إلى فرنسا وإيطاليا والمجر وبولندا وغيرها صار يلاحظ في خطاب مواطني هذه الدول وسياسييها تعدد مفردات ونغمات قوميات محلية منتعشة.

إقرأ على موقع 180  بايدن يتجنب بن سلمان.. "ولي عهد نموذجي" وليس رئيساً!

***

يتساءل المراقبون عن جدوى إطالة الحرب بعد أن ثبت أن روسيا تُجدّد قواها مع تمدد الحرب واستمرار المقاطعة، وأن التذمر في صفوف بعض شعوب الحلف الغربي يزداد

خارج أوروبا، وبعبارة أدق خارج ساحات ما يعرف بالغرب، يبدو واضحاً الميل السياسي المتزايد نحو الحياد بين الأقطاب بوضعهم الراهن وفي المستقبل. هذا الميل أراه، ويراه مراقبون غيري، تجديداً إيجابياً في توجهات ومبادئ حركة عدم الانحياز. أراه نقلة نوعية في فنون الإنقاذ أو الخلاص من مساوئ وضع تبعية بدأ يفقد مناعته أو انتهت فترة صلاحيته.

أفريقيا في معظم نواحيها تغلي بالغضب ضد الدول الغربية وبخاصة فرنسا الموصومة بالنموذج الاستعماري غير القابل للتجديد أو حتى التطور. تغلي بالغضب أيضاً ضد الولايات المتحدة التي تعالت على أفريقيا والأفريقيين بقسوة وإهانات بالغة وبالإهمال الصارخ في عهد الرئيس دونالد ترامب وبسياسات تهرب أو بخطوات غير جادة في عهد الديموقراطيين.

للحق، لم يخلُ الأمر من جهد أمريكي حقيقي وجاد ولكن بهدف أوحد هو الوقيعة بين المسئولين في أفريقيا من ناحية وبين مبادرة الطريق والحرير التي أطلقها الرئيس الصيني الحالي شي جين بينج لمد شبكات بنية تحتية في كل أنحاء القارة من ناحية أخرى، وهو ما لم تحاول دولة غربية عمله لشعوب أفريقيا برغم الثروات الهائلة التي جرى نهبها من القارة السمراء على امتداد قرنين أو أكثر.

***

المثال السوداني يجمع في حد ذاته عناوين معظم القضايا الإقليمية والدولية التي تعكس بكل الصراحة والصدق الحال الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي في طريقه للرحيل.

من هذه العناوين عنوان أفريقيا التي تطالب بإعادة النظر في ميثاق الأمم المتحدة بما يضمن التمثيل المناسب لها في مواقع القرار الدولي، وبما يضمن أيضاً حقوق دول العالم النامي في منظومة جديدة لمؤسسات التمويل والتجارة الدولية بما يتناسب وحال الاقتصاد العالمي في مرحلة ما بعد فورة عولمة لم تحظ الدول الفقيرة من ثمارها إلا بالقليل النادر، وربما لم تحصل في الحقيقة إلا على سلبيات نظام رأسمالي خرج عن طاعة القواعد البناءة في الرأسمالية وانحاز إلى أسوأها. الصين وروسيا لهما مصلحة أكيدة في تطوير ميثاق الأمم المتحدة ولكن ليس إلى الحد الذي تطمح إليه أفريقيا وبقية أقاليم العالم النامي.

يضيف السودان عنواناً آخر ليس أقل شأناً وأهمية من تطوير أو تعديل ميثاق الأمم المتحدة. لم يكن خافياً العجز الفاضح للتنظيم الإقليمي بالصورة التي أطل منها على الأزمة وغيرها من أزمات تتعلق بالأمن والسلم الإقليميين. أتصور أننا سوف نشهد قريباً حوارات إقليمية ودولية بطبيعة الحال، تناقش اقتراحات بدائل للتنظيم الإقليمي بشكله الراهن. أتنبأ من موقعي، غير المسئول، بأن الدول الأفريقية والعربية سوف تلجأ إلى تشكيل منظمات فرعية أو ثانوية عابرة للإقليم يكون لها من الصلاحيات والشرعية ما لا يجعلها تبدو متناقضة مع أهداف المنظمة الإقليمية الأم أو أهداف المنظمة الدولية الأرحب، بعد تطويرهما.

الصين وروسيا لهما مصلحة أكيدة في تطوير ميثاق الأمم المتحدة ولكن ليس إلى الحد الذي تطمح إليه أفريقيا وبقية أقاليم العالم النامي

عنوان آخر أتخيله متصدراً عناوين كثيرة. ألمح على البعد نوايا سياسات تهدف إلى كبت الصراعات الإقليمية أو تجميدها. أرى الصين تتقدم على العكس بنوايا مختلفة تهدف بها إلى تسوية النزاعات. أخشى مع ذلك أن تعقيدات ورسوخ نزاعات بعينها قد يدفع الصين إلى مسايرة الميل المتزايد في دول كبرى إلى كتم النزاعات أو عزلها. دول كثيرة قد تفضل العمل على إبقاء النزاع الناشب في السودان داخل دائرة صراع رجلين على السلطة في الخرطوم وبذل كل الضغوط الممكنة لمنع أطراف إقليمية أو دولية من التدخل في الشأن السوداني. النزاع السوداني، من وجهة النظر هذه، أكبر وأخطر وأكثر تعددية قبلية وعرقية يتصاعد لخدمة مصالح خارجية متنافسة.

***

أرى، على القرب، عناوين عن أوكرانيا تتوارى حتى تكاد تختفي وعناوين عن عالم نام ناهض يسعى بطرق شتى باحثاً عن موطئ قدم له في قمة عالم خضع طويلاً لإرادة دولة عظمى واحدة، ويتمنى أن يشارك هذه المرة في وضع قواعد يخضع لها كل الأقطاب دون تمييز. أنتهز الفرصة لأذكر أن أسماء لامعة في حقل القانون الدولي أقدم أصحابها قبل عقدين أو أكثر على التفكير في مشروع بهذا المعنى وإن أعمق وتوقفوا أو تريثوا. من هذه الأسماء إسمان لعالمين مصريين هما جورج أبي صعب وعلي الغتيت.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  السعودية في لبنان.. هذا ما تُريدُه وما لا تُريده!