إن ما يحتاجه كوكبنا الذي يزداد ضجيجاً هو تقليل التوتر بين بلدانه وشعوبه، لا زيادة المتاريس والمتمترسين والحروب التي لم تشتعل مرة إلا بسبب نزوع تدميري يُحقّق مصالح القوى الرأسمالية الكبرى، بحسب توصيف لينين. ما يحتاجه الكوكب هو السلام لكي يتفكر أهله بالسبل الناجعة والكفيلة بتخليصه من أمراضه البيئية وجائحاته المرضية وكل ما يُنغِّص عيش أبنائه، من أجل إعادة التوازن إلى عوالمه.
تزامن إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في أواسط مارس/آذار الماضي، بذريعة ارتكاب جيشه جرائم حرب خلال غزو أوكرانيا، مع بث حلقة من برنامج “ما خفي أعظم” الاستقصائي على شاشة قناة “الجزيرة”، تُبيِّن أن سيف الإسلام القذافي، المتهم هو الآخر بارتكاب جرائم حرب، قد تلقى دعماً روسيا للوصول إلى رئاسة ليبيا. وإذ يندرج كلا الأمرين بمسعى روسيا لتنصيب نفسها قطباً دولياً مواجهاً للقطب الأميركي، من خلال غزو أوكرانيا والتمدد في دول أخرى كسباً لحكوماتها إلى صفها، فإن هذا المسار العنفي المتواصل سيترافق مع إراقة دماء كثيرة على جانبيه. ولا يُذُّكر هذا الأمر الشعوب المقهورة بالماضي الاستعماري لدول الغرب الأوروبي، وبحروب القطب الأميركي على الشعوب المستضعفة، بقدر ما يُوضح لها أن لا شيء سيُغيّره إعلان قطب دولي جديد من واقعها سوى زيادة التوحش الذي يزيدها قهراً وتقهقراً.
كل يوم جديد في عمر الحرب الأوكرانية يُعدُّ استنزافاً لروسيا لن يساعدها في إظهار وتكريس قوتها. ولذلك فإن احتمال عدم استسلام الخصم سيزيد من توحش المهاجمين، وعندها سيشهد عالمنا ولادة قطب متوحش في وقت تتزايد فيه حاجة هذا العالم إلى التخلص من وحشية القطب الأميركي الذي لم تسلم دولة من ضرره
بعد أشهرٍ من غزو أوكرانيا، وقف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على منبر الأمم المتحدة خلال أعمال جمعيتها العامة، في أواخر سبتمبر/أيلول 2022، محاولاً تبرير هذا الغزو، عبر تقديم سردية الماضي الاستعماري لأوروبا والولايات المتحدة، متحدثاً عن استبداد القطب الواحد (أميركا)، وكيف كانت نتيجته صياغة نظام عالمي تنتفي فيه قيم العدالة والديموقراطية، موضحاً الحاجة إلى نظام عالمي جديد لا خوف فيه من الاستعمار الجديد. لكن لافروف الذي ربط مرات عدة بين غزو أوكرانيا وبين تنصيب بلاده قطباً دولياً مواجهاً للقطب الأميركي الاستعماري، تناسى أن بلاده استخدمت أدوات الاستعمارين القديم والجديد ذاتها في حربها التي كانت العدالة الدولية أولى ضحاياها، من أجل تمكين نفسها من الظهور بمظهر القوي على الساحة الدولية، تمهيداً لوضع إكليل القطبية على رأسها!
ربما كان كلام رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، الذي وجهه للرئيس بوتين خلال قمة “منظمة شنغهاي” التي عقدت في سمرقند، في 16 سبتمبر/أيلول الماضي، حين انتقد حربه ضد أوكرانيا قائلاً: “العصر الحالي ليس عصر حرب”، هو التشخيص الصحيح لما اقترف بوتين بحق أوكرانيا وبحق السلم الذي كان العالم يحتاجه، وهو في طور التعافي من تبعات جائحة كورونا التي أنهكت اقتصادات دول كثيرة، وغيَّرت عادات وسلوكيات واعتقادات كثيرين حيال المصير المشترك لسكان هذا الكوكب.
احتاج بوتين إلى حججٍ ومبررات لاجتياح أراضي أوكرانيا، ولكنها وكما في كل حرب ظالمة، كانت حججاً واهية وغير مقنعة، حتى لأقرب المقربين إليه. وفي هذه الحرب تكرار للسيناريو التي ساقته الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من دول التحالف التي شاركت في غزو العراق سنة 2003، بحجة نزع أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق، والتي ثبت عدم وجودها. لكن هذه الحرب تمخضت عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وألحقت العار بعرَّابيْها، الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، اللذيْن نجيا من المحاكمة على جرائمهما، على عكس بوتين الذي جرى الادعاء عليه أمام المحكمة الجنائية الدولية!
ولا تكتفي روسيا باتباع أسلوب الاستعمار القديم في احتلال البلدان المجاورة للسيطرة عليها واخضاعها، بل اعتمدت أيضاً أسلوب الاستعمار الحديث في القارة الأفريقية لتنصيب حكومات موالية لها، ودعم الديكتاتوريات القائمة، من أجل السيطرة على مقدرات هذه الدول وثرواتها الباطنية. وقد أورد برنامج “ما خفي أعظم”، في حلقته التي بثت يوم 17 مارس/آذار الماضي، على قناة “الجزيرة”، تحت عنوان “أسرار شوغالي”، قصة تدخل قوات “فاغنر” الخاصة الروسية في ليبيا، في محاولة منها لإعادة تأهيل سيف الإسلام القذافي، نجل الدكتاتور الليبي الراحل، معمر القذافي. وقد كان سيف الإسلام متوارياً عن الأنظار بسبب اتهامه بارتكاب جرائم حرب، حين أمر بقتل متظاهرين مناوئين لحكم والده. وقاد مكسيم شوغالي، وهو الضابط الروسي العامل في “فاغنر”، مهمة تظهير سيف الإسلام في المشهد السياسي الليبي، وتهيئة المناخ لترشيحه للانتخابات الرئاسية ومن ثم إيصاله للحكم وضمان تمتع روسيا بنفوذ في هذا البلد من خلاله. وأظهر التحقيق أن التعاون بين سيف الإسلام و”فاغنر” تطوَّر ووصل إلى المجال العسكري؛ إذ أبلغ سيف الإسلام الروس استعداده، هو والجماعات الموالية له، لاستقبال مقاتلي “فاغنر” القادمين من السودان عبر مطارات بني وليد وترهونة وغدامس، وهو ما حدث، وكان له أثر كبير في المعارك التي جرت في طرابلس بين اللواء خليفة حفتر وقوات حكومة الوفاق الشرعية، وأدى إلى ترجيح كفة حفتر في المعارك.
تناسى لافروف أن بلاده استخدمت أدوات الاستعمارين القديم والجديد ذاتها في حربها التي كانت العدالة الدولية أولى ضحاياها، من أجل تمكين نفسها من الظهور بمظهر القوي على الساحة الدولية، تمهيداً لوضع إكليل القطبية على رأسها!
كما كشفت الوثائق والأجهزة الالكترونية التي كانت بحوزة شوغالي، والتي صادرتها السلطات الليبية حين قبضت عليه، سنة 2019، عن مراسلاته التي كشفت أنه أدار حملات انتخابية في بعض الدول الأفريقية، ومنها مدغشقر، علاوة على أدوار أخرى كشفتها الوثائق. وهذه ليست سوى عينة صغيرة عن التدخلات الروسية في الكثير من دول العالم دعماً لحكومات وسعياً إلى بناء قواعد عسكرية روسية في غير دولة، وهي تدخلات كان أبرزها ما شهدناه في سوريا وأوكرانيا، الأمر الذي يُعيد تذكيرنا بالسياسة الأميركية التي تدخلت في معظم دول العالم من أجل تمتين هيمنتها عليها وتعزيز امبراطوريتها التي تبقيها القطب الأوحد. ولكن، هل تمتلك روسيا القدرات الاقتصادية المتوفرة للولايات المتحدة، والتي تتيح لها كسب هذا الدور؟
من المعروف أن الإقتصاد الروسي الذي يُعد ريعياً لاعتماده الكلي على موارد النفط والغاز وتجارة السلاح، لا يمكنه أن يساعد روسيا في تحقيق هدفها بأن تكون قطباً دولياً، خصوصاً مع الضرر الذي طاله نتيجة العقوبات الدولية والمقاطعة الإقتصادية التي فرضت على موسكو بعد الغزو. أما إذا كانت قد لجأت إلى الحرب لتحقيق ذلك، فإن تجربة الحرب في سوريا، لا يمكن تكرارها في مكان آخر. ظهر هذا في حربها على أوكرانيا التي كان مخططاً لها ألا تتجاوز الأيام العشرة، وها قد تجاوزت السنة، وكل يوم جديد في عمر هذه الحرب يُعدُّ استنزافاً لروسيا لن يساعدها في إظهار وتكريس قوتها. ولذلك فإن احتمال عدم استسلام الخصم سيزيد من توحش المهاجمين، وعندها سيشهد عالمنا ولادة قطب متوحش في وقت تتزايد فيه حاجة هذا العالم إلى التخلص من وحشية القطب الأميركي الذي لم تسلم دولة من ضرره.