نشب ما يشبه المجسم لحرب عالمية طرفاه، وبمعنى أدق أطرافه، ثلاث من القوى العظمى ومعهم عديد الحلفاء. بين هؤلاء الحلفاء من انضم إلى الحرب من تلقاء ذاته ولخدمة مصالح بعينها ومنهم من انضم تحت الإقناع بالضغط أو بغيره ومنهم من يخاف العقوبات ويُرهبه التهديد بالمقاطعة الاقتصادية والحملات الإعلامية. دول أخرى أكثر عدداً وقفت على هامش دائرة الحرب رافضة إغراءات وتهديدات عديدة ومتمسكة بموقف اللا-انحياز الخجول بطبعه الجديد، المتوسل حيناً والمتهور حيناً آخر. المؤكد في كل الأحوال، من وجهة نظري على الأقل، هو المدى البعيد الذي راحت إليه هذه الحرب أو مجسم الحرب كما أطلقت عليه في التأثير والتأثر بالعالم بأسره سياسة واقتصاداً وارتزاقاً وجريمة منظمة وتضخماً وبطالة وأزمات غذاء وتحولات دولية وإقليمية وغيرها من ثوابت ومتغيرات العالم الذي نعيش فيه. أختار منها لهذا المقال نتفاً لا تفي الموضوع حقه بقدر ما تلفت الإنتباه إليه.
لا أحد بين أعضاء الوفود وقياداتها أسعده خبر حضور زيلينسكي وبخاصة عندما راح يسترسل في خطاب لم يُكلّف نفسه أو من صاغ له بعض أهم فقراته أن يعلن أمام أصحاب الشأن في القاعة أو ملايين العرب أنه يقف إلى جانب قضية عربية أو أخرى
أولاً؛ زيلينسكي في قمة العرب:
لم أُخفِ يوماً، على امتداد أيام عملي في الأمانة العامة للجامعة العربية، اعتراضي على دعوة شخصيات أجنبية لحضور اجتماع من اجتماعات الجامعة. لم تجرِ العادة على دعوة رؤساء قممنا العربية لحضور اجتماعات منظمات إقليمية أو دولية إلا نادراً وإن كنت لا أذكر الآن إحداها. ينبع اعتراضي من واقع وطبيعة اجتماعاتنا. لمن لا يعرف أو يدرك أذكّرهُ بنوع خلافاتنا المختلف غالباً عن أنواع الخلافات بين الدول الأعضاء في منظمات أخرى. أذكّرهُ أيضا بالحدة التي تتسم بها أحياناً حواراتنا، زعماء كنا أم مثقفين أم بيروقراطيين وأحيانا دبلوماسيين من ذوي الباع الطويل في مؤتمرات دولية. سمعتهم هناك وسمعتهم هنا والفارق كبير. ليس هذا موضوعنا على أية حال، إنما كانت دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تحديداً السبب الذي أثار جدلاً جانبياً غير محسوب أو متوقع ولا كان مرغوباً في هذه القمة تحديداً، وهي القمة التي توقعت أن تتحرك بحساسية شديدة وحرص بالغ وحسابات دقيقة. لم يكن يليق بالولايات المتحدة أو بحليف في الحرب الأوكرانية أن يقترح أو يوصي بدعوة زيلينسكي إلى مؤتمر له طبيعة خاصة وسلوكيات معظم أعضائه تشي برغبتهم في التمسك بموقف اللا- انحياز، وفي قول آخر بالموقف الأقل انحيازاً، وبرغبتهم تفادي كل ما من شأنه أن يثير خلافات إضافية بين الأعضاء.
كنت تقريباً هناك، أسمع أولاً بأول، تفاصيل بعض ما دار. أعود فأؤكد هنا أن لا أحد بين أعضاء الوفود وقياداتها أسعده خبر حضور زيلينسكي وبخاصة عندما راح يسترسل في خطاب لم يُكلّف نفسه أو من صاغ له بعض أهم فقراته أن يعلن أمام أصحاب الشأن في القاعة أو ملايين العرب عبر الأثير أنه يقف إلى جانب قضية عربية أو أخرى. قيل لي ولغيري إن للرجل حساباته الشخصية والسياسية التي منعته وستمنعه دوماً وأبداً من تأييد حق شعب عربي في التخلص من الاحتلال الغاصب والمجرم. المهم أن الخطاب كان مُذاعاً فسمعه ملايين العرب وليس فقط رؤساءهم. أساء إليه وإلينا حلفاؤه ومستشاروه حين دبّروا وخطّطوا له هذه الرحلة إلى قمة العرب.
ثانياً؛ دعوة الأسد إلى قمة جدة:
بدأت القمة الثانية والثلاثون كعادة معظم القمم العربية وسط انقسام وتوتر وخلافات في الرأي. كدتُ أكتب أن هذه القمة اختلفت عن سابقاتها في أن موضوع الخلاف الرئيس فيها دار حول شخص رئيس دولة عربية مشارك في المؤتمر. نسيت للحظة أن خلافات قوية غالباً ما نشبت في قمم سابقة بسبب وجود ومداخلات الرئيس الليبي العقيد معمر القذافي. هذه المرة كان الدافع للانقسام أشد وأخطر. كثيرون في داخل القاعة ظلوا غير مقتنعين بحكمة دعوة الرئيس بشار الأسد للمشاركة في القمة قبل أن تزول أسباب القطيعة. سمعت من يقول عادت سوريا ولم تزل أسباب القطيعة قائمة. ردّ آخرون بأن خطيئة الرئيس الأسد أكبر ولا تغتفر. لم يتأخر الرد على الرد. استمر الجدل دائراً ليتصاعد صعوداً مفاجئاً حينما انطلق الرئيس الأسد في خطابه غير آسف وغير متردد بل مهاجماً ومتوعداً. ها هي القمة العربية تستعيد إبداعاتها. لا أحد يقاطع ولا أحد يعلق دعماً أو استنكاراً. هناك من غادر القاعة قبل أن يلقي الأسد خطابه وهناك من تبادل نظرات الاستنكار مع زملاء وهناك من أخفى وجهه خشية أن يقرأ أحد فيه ما حاول أن يخفيه أو يكتمه في داخله. ينتهي المؤتمر من دون حل ممكن ومعقول ومقبول للمسألة السورية. ليست المرة الأولى على كل حال. تبقى سوريا كما بدأت مشوارها العربي، والعروبي أيضاً، تبقى “عنوان مسألة” وليس اسم دولة عضو في جامعة الدول العربية.
ثالثاً؛ التبشير بعهد جديد للعمل العربي المشترك:
توقعتُ شخصياً أن يصدر عن هذه القمة تحديداً خارطة طريق مالية وإدارية لمسارات العمل داخل الأمانة العامة للجامعة العربية على امتداد سنوات قادمة، لم تصدر ويبدو أنها لن تصدر قريباً أو صرف النظر عنها. كمراقبين من الخارج كان اللافت لنظرنا على امتداد سنوات الانشغال الدائب والمفصل من جانب المملكة العربية السعودية بالشئون المالية والإدارية للجامعة. وصل الانشغال في أوقات إلى حد سبّب قلقاً عظيماً لدول كثيرة أو سعادة وانشراحاً لدى دول أخرى عاشت على أمل أن تشهد إصلاحاً حقيقياً وناجعاً للعمل العربي المشترك وليس فقط الانشغال في الشئون المالية والإدارية.
لا أتجاوز أو أبالغ حين أقرر أن بعض ما شاهدناه وبعض ما سمعناه في أرجاء قاعة القمة في جدة وقع متأثراً بأجواء وتطورات الحرب الأوكرانية. في الوقت نفسه لا أقلّل من أهمية واقع ملموس، وهو صوت أعلى وأعمال جسورة تصدر عن دول الجنوب في مواجهاتها الخاصة مع دول الشمال
جدير بالذكر أنه جاء في خطاب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الرئيس الفعلي للمؤتمر ما يُلمّح ـ كما قال البعض، وما يشير، كما قال بعض آخر ـ إلى أن المملكة تأمل أن تتاح الفرصة لدول المجموعة العربية أن تستفيد من النهضة الاقتصادية الشاملة التي سوف تكون من نصيب المملكة في السنوات القليلة القادمة. لم تصرح المملكة عن طريق ولي العهد أو وفدها لدى المؤتمر عن أن لديها خطة شاملة تحقق بواسطتها تكاملاً اقتصادياً عربياً ينهض بالأمة نهضة غير مسبوقة، ولكنها ألمحت أو أشارت إلى علاقة سوف تربط النهضة السعودية المنتظرة بنهضة عربية تلحق بها بالضرورة وبالنية المسبقة.
مرة أخرى تعود فيما يبدو منطقة الخليج للتبشير بعهد جديد للعمل العربي المشترك. في المرة الأولى شهدت السبعينيات انطلاق مرحلة صعود في العمل العربي المشترك مدفوعاً بالجهد القومي المشترك الذي حقق انتصارات عسكرية وطفرة مالية سمحت بنشاط مرموق لسنوات معدودة في مجالات اقتصادية ومصرفية وزراعية مشتركة. آمال شبيهة بآمال السبعينيات طافت في أجواء قاعة اجتماعات قمة جدة وربما ومما سمعت وقرأت وشاهدت لعلها أوسع طموحاً لأسباب وظروف مفهومة.
***
لا أتجاوز أو أبالغ حين أقرر أن بعض ما شاهدناه وبعض ما سمعناه في أرجاء قاعة القمة في جدة وقع متأثراً بأجواء وتطورات الحرب الأوكرانية. في الوقت نفسه لا أقلّل من أهمية واقع ملموس، وهو صوت أعلى وأعمال جسورة تصدر عن دول الجنوب في مواجهاتها الخاصة مع دول الشمال المتصارعة على أرض أوكرانيا وشعبها. أتصور، وبين زملائي من يشاركني هذا التصور، أتصور أن دولاً في الجنوب أكثر عدداً صارت تحاول التفلت من ضغوط واستفزازات بعض دول الشمال وبخاصة من سلوكيات الهيمنة الأمريكية والإصرار على الاستمرار في ممارسة سياسات استعمارية كان الظن أن أوان اختفائها حان وانقضى. أتفهم أسباب الشعور الطاغي في عالم الجنوب بأن أمريكا فقدت مشروعية الانفراد بقيادة العالم حين جرّت أوكرانيا أرضاً وشعباً لحرب غير مبررة وكان من الممكن تفاديها بالتوقف عن استفزاز الوطنية الروسية وأمن روسيا.
أتفهم في الوقت نفسه أسباب الانحسار المتدرج في تعاطف، ولا أقول تأييد، أهل وحكومات الجنوب مع روسيا في الحرب الناشبة بينها وبين الولايات المتحدة وجماعتها. تعاطف الجنوب مع روسيا ناتج عن قناعة بأن روسيا كانت ضحية استفزاز يجرى ممارسته منذ انتهاء الحرب الباردة قبل نحو ثلاثة عقود من الزمن. ثم راح التعاطف ينحسر مع أداء متواصل التدهور وبخاصة حين لجأت موسكو إلى جماعات من المرتزقة تستكمل بها نقصاً وتسد فراغاً في قدراتها الدفاعية، ثم حين عادت تهدد باستخدام أسلحة نووية.
أتابع مثل غيري الميل المتصاعد من جانب أهل الجنوب في اتجاه الصين وما يلحق بهذا الميل من اندفاع أمريكي نحو تصعيد المواجهة معها والانشغال بتدبير سلاسل استفزاز لجرّها إلى حرب قبل أوانها، وفي تقديرنا أن الجنوب مُقدّر له إن أحسن الاستعداد، لعب دور في وقف هذا التدهور المتسارع في العلاقات بين الدول العظمى.