جنى رجب طيب أردوغان في العام 2020 نفوذاً مترامي الأطراف، من أذربيجان إلى سواحل ليبيا، مروراً بسوريا والعراق وشرق المتوسط ومنتجع فاروشا في الشمال القبرصي، إلى حضور بارز في كوسوفو وتمتين العلاقات مع الأقلية التركية في بلغاريا، بينما تخشى دول أرووبية كثيرة الذهاب بعيداً في إغضاب أنقرة وتتوسل الديبلوماسية بديلاً من اللجوء إلى العقوبات أو المواجهة الصريحة.
بعد كل هذا الحصاد السياسي والعسكري الوفير، أنهى أردوغان العام الماضي بتلمس إحتمالات التطبيع مع إسرائيل، في تحولٍ لفت أنظار المراقبين في هذا التوقيت بالذات. وكان الإنطباع الأولي، أن الإنعطافة التركية، مردها إلى رغبة أردوغان في حماية ظهره في معركة التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، ومواكبة تطبيع دول عربية مع تل أبيب، فلا يبقى خارج التحولات التي أحدثتها سياسة الرئيس الأميركي المنصرف دونالد ترامب في الشرق الأوسط، وليستعد أيضاً لما يمكن أن تكون عليه سياسة الرئيس الأميركي المقبل جو بايدن.
ومن المحتمل، أن يكون داخلاً في روع أردوغان، أن الانفتاح على إسرائيل، لا يُسهل عليه إستكشاف الغاز المتوسطي فحسب، وإنما يوفر له حماية في البيت الأبيض عندما يدخله بايدن، المعروف عنه، أنه سيكون أقل تسامحاً مع ممارسات أردوغان في سجل حقوق الإنسان في الداخل التركي أو على صعيد التعاطي مع أكراد سوريا. وثمة خشية تركية من أن يرسم الرئيس الديموقراطي خطاً أحمر أمام التوغلات في المناطق الكردية بسوريا. ومعلوم أن هذه مسألة تغاضى عنها ترامب في العامين الأخيرين.
في سياق نسق متسارع من التطورات، يأتي التودد التركي لإسرائيل. ورصد موقع “ألمونيتور” في تقرير له قبل أيام، التغيرات التي طرأت على السياسة التركية حيال إسرائيل، منذ قتل الجيش الإسرائيلي ناشطين أتراكاً كانوا على متن سفينة الإغاثة التركية “مافي مرمرة”، التي كانت في طريقها لفك الحصار عن قطاع غزة في أيار/ مايو 2010، وصولاً إلى تصريحات أردوغان المهادنة في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وإبداء الرغبة في التطبيع مع إسرائيل وحديثه عن الإتصالات السرية التي يجريها رئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان مع مسؤولين إسرائيليين، بهدف إستئناف العلاقات الديبلوماسية الكاملة.
ويخلص التقرير الذي نقل رأي خبراء إسرائيليين في خلفيات الموقف التركي الأخير، إلى أن تل أبيب ليست مستعجلة لمعاودة العلاقات مع تركيا، في وقت تمكنت إسرائيل في ظل ولاية ترامب من تحقيق مكاسب إقليمية واسعة، من الخليج إلى السودان، ونجحت في إزاحة القضية الفلسطينية، من رأس جدول الأولويات في المنطقة. فضلاً عن ذلك، يتابع التقرير، فإن الوضع الإقليمي المريح لإسرائيل، يجعلها في موقع تفاوضي قوي حيال تركيا، وتالياً فهي ليست في عجلة من أمرها لتقديم الهدايا لتركيا طالما أن مكتب “حماس” في اسطنبول ما يزال مفتوحاً.
ولعل لب المشكلة يكمن هنا. فإسرائيل لا تمانع مبدئياً في معاودة التطبيع مع تركيا، التي كادت تكون المنفذ الإقليمي الوحيد للدولة العبرية في ذروة الصراع العربي – الإسرائيلي، ويوم كانت الدول العربية لا تزال تؤمن بأن التطبيع مع إسرائيل، مسألة مرتبطة ارتباطاً لا فكاك منه، بقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران/ يونيو، استناداً إلى معادلة “الأرض في مقابل السلام”، وليس كما باتت الآن “السلام في مقابل السلام”.
التحولات التي أحدثها ترامب في الشرق الأوسط، من “الضغط الأقصى” على إيران وخنقها اقتصادياً ومحاولة الضغط على حلفائها في المنطقة، من اليمن إلى غزة، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان، ودفع البيت الأبيض دولاً عربية إلى التطبيع مع إسرئيل، أيضاً بدافع من المواجهة الأشمل مع إيران، وليس في سياق حل المسألة الفلسطينية، كل هذه العوامل أوهنت الموقع التركي لدى إسرائيل.
صحيح أن تركيا، مدًت نفوذها الإقليمي على نحوٍ لا يستهان به وبما يؤهلها لتكون دولة إقليمية أساسية، لكن أنقرة في مسيرتها التوسعية، كسبت عداوات أيضاً. فهي تخوض مواجهة في شرق المتوسط مع مصر وقبرص واليونان وفرنسا. الدول الأربع، هي جبهة متراصة في مقاومة التنقيب التركي في المنطقة، ونجح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إحداث ثقب صغير في جدار الرفض الذي كان يبديه الإتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على أنقرة. ويمكن القول إن قمة بروكسيل في 14 كانون الأول/ ديسمبر، التي فرضت عقوبات رمزية إلى حد كبير على تركيا، قد تكون بمثابة تحذير مما هو قادم في وقت لا يستجيب الإقتصاد التركي الراكد لمحاولات الإنعاش التي يبذلها أردوغان.
وفي سوريا، لن تبقى أيدي أردوغان طليقة في مواجهة الأكراد في ظل رئاسة بايدن، وربما لن تبدي الإدارة الأميركية المقبلة تسامحاً مع زيادة التورط التركي في ليبيا أو حتى في منطقة القوقاز. وما أشاح ترامب بنظره عنه، قد يكون موضع إهتمام لبايدن.
هذه الإعتبارات، تجعل إسرائيل في الوقت الحاضر، في موقع مَن يملي الشروط على أردوغان للتطبيع، وفي مقدمها إحداث تحولٍ جذري في موقف الرئيس التركي من المسألة الفلسطينية. والإشارات الإيجابية الصادرة عن أنقرة وإلتزام موقف محايد من تطبيع دول عربية مع تل أبيب، يبدو أنها تنازلات غير كافية كي تجعل بنيامين نتنياهو يهرول لملاقاة أردوغان في منتصف الطريق.
وبذلك، أعادت إسرائيل الكرة إلى ملعب أردوغان، فتل أبيب اليوم ليست كما كانت قبل عشرة أعوام، وانتفى الكثير من الأمور التي كانت تجعل الإسرائيليين يحاولون كسب رضا تركيا ويهرولون ناحية اسطنبول. اليوم يتهافت الإسرائيليون إلى نواحٍ كثيرة انفتحت أمامهم في المنطقة، وتالياً، لم تعد أنقرة خياراً وحيداً!