حتى الأربعاء الماضي، إشتكت القوات الأميركية من 6 مضايقات روسية لمُسيّراتها من طراز “إم كيو-9 ريبر” هذا الشهر، فوق شمال غرب سوريا، أثناء قيامها بمهمات تعقب لقادة تنظيم “داعش”، وفق الراوية الأميركية. أما روسيا فتقول إن مقاتلاتها تتصرف دفاعاً عن النفس ووفق الأسلوب الإحترافي في مثل هذه الحالات.
ما يسترعي الإنتباه هو أن غالبية الإحتكاكات الجوية تحصل فوق شمال غرب سوريا. ومعلوم أنه يوجد في هذه المنطقة جيب لـ”هيئة تحرير الشام” (“جبهة النصرة” سابقاً) وجماعات جهادية أخرى بينها تنظيم “حراس الدين” المنشق عن “هيئة تحرير الشام” والذي بقي على ولائه لتنظيم “القاعدة”. وهذه التنظيمات هي على تماس مع قوات الجيش السوري وحلفائه في محافظتي إدلب واللاذقية.
لكن ما الذي يجعل روسيا ترتاب في النشاط الجوي الأميركي فوق هذه المنطقة؟
أولاً؛ تعتبر هذه المنطقة ضمن مجال عمل القوات الروسية الأقرب إليها منذ عام 2015.
ثانياً؛ تتمركز القوات الأميركية في شرق سوريا وفي شمال شرقها حيث تنتشر “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي يقودها الأكراد، فضلاً عن تمركزها في قاعدة التنف عند المثلث الحدودي السوري مع الأردن والعراق، وهذا ما يجعلها بعيدة نسبياً.
ثالثاً؛ الطلعات الجوية الأميركية ترافقت مع سخونة الجبهة في الفترة الأخيرة، بعدما بدا أن مسار التطبيع التركي-السوري، أقرب إلى الطريق المسدود، بسبب الضغوط الأميركية على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو ما عبّرت عنه تركيا في موافقتها على إنضمام السويد إلى حلف “الناتو” مؤخراً، مقابل ضمانات ومكاسب أميركية نالها الرئيس التركي.
التصعيد الجوي الروسي في سوريا هو خدمة تؤديها موسكو لإيران، ويتحدثون عن إتصالات بين قادة عسكريين روس وإيرانيين من “فيلق القدس” على مستوى متوسط في سوريا، من أجل تحقيق هدف واحد مشترك، ألا وهو إخراج القوات الأميركية من سوريا، بحسب ما يرى جون هاردي مدير روسيا في “مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات”
وإذا مضينا في تعداد الظروف المحيطة بتوالي الإحتكاكات الجوية الروسية-الأميركية، يبرز عامل تعزيز القوات الأميركية في الشرق السوري وفي العراق بأكثر من ألفي جندي في وقت سابق من تموز/يوليو الجاري. وكأن إدارة الرئيس جو بايدن المستاءة من الإنفتاح العربي على دمشق الذي ترجم بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، تريد الإيحاء بأن الأزمة السورية لم تنتهِ بعد وأن التطبيع مع سوريا لم يحن أوانه. والملاحظ هنا أن بايدن من خلال تعزيز القوات الأميركية في سوريا، يمضي في مسار معاكس، لرأي غالب في الولايات المتحدة لا يرى فائدة إستراتيجية من إستمرار الوجود العسكري الأميركي في سوريا، خصوصاً في ضوء التعرض لهجمات متكررة من فصائل موالية لإيران، وإمكان تصاعد الموقف بين الجانبين في المرحلة المقبلة.
على هذه النقطة بالذات بماذا يجيب مسؤولون أميركيون؟ يقولون إن التصعيد الجوي الروسي في سوريا هو خدمة تؤديها موسكو لإيران، ويتحدثون عن إتصالات بين قادة عسكريين روس وإيرانيين من “فيلق القدس” على مستوى متوسط في سوريا، من أجل تحقيق هدف واحد مشترك، ألا وهو إخراج القوات الأميركية من سوريا، بحسب ما يرى جون هاردي مدير روسيا في “مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات” التي تتخذ من واشنطن مقراً لها.
ومن هنا جاء تعزيز القوات الأميركية في سوريا والعراق. ليس هذا فحسب، بل أعلنت أميركا، الأربعاء الماضي، عن وصول 12 مقاتلة “إف-35” إلى الشرق الأوسط بهدف تعزيز الردع في مواجهة إيران، بعد تكرار محاولات إعتراض سفن تجارية في المدة الأخيرة. وقد يتوسع دور هذه المقاتلات “إذا تطلب مسرح العمليات ذلك”، وفق ما جاء في بيان الإعلان الأميركي.
وتعزيز الحضور العسكري، يرمي إلى نفي الإعتقاد السائد بأن أميركا إنسحبت من المنطقة في السنوات الأخيرة، وبأنها تكتفي بحضور متواضع، ما أدى إلى تعزيز موقع إيران والقوى المتحالفة معها، في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
ومن يُراقب حركة الزيارات لمسؤولين أميركيين إلى السعودية في الأشهر الأخيرة، وآخرهم مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، الخميس الماضي، يلمس جهداً أميركياً دؤوباً لإقناع الرياض بالإنفكاك عن العلاقات المميزة التي نسجتها في العامين الماضيين مع الصين وروسيا، في مقابل ترتيبات معاكسة لإتفاق بكين الذي طبّع العلاقات مع إيران، وإظهار أن واشنطن لم تغادر الشرق الأوسط.
ووفقاً للكاتب الأميركي في “النيويورك تايمز” توماس فريدمان، ثمة إتجاه لدى بايدن للدفع في ما تبقى من ولايته نحو إحداث إختراق على صعيد تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وذلك على خطى سلفه الجمهوري دونالد ترامب الذي رعى “إتفاقات إبراهام” بين أربع دول عربية وإسرائيل في العام الأخير من ولايته.
وروسيا بطبيعة الحال في قلب التطورات في المنطقة برغم إنشغالها بالحرب الأوكرانية. وها هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يؤكد، أمس السبت، أنه ما من أحد يريد وقوع صدام مباشر بين قوات “الناتو” وروسيا في سوريا، لكنه أضاف: “إذا أراد أحد ذلك فإن روسيا مستعدة”.
ليس من مصلحة روسيا الذهاب أبعد في إستفزاز الولايات المتحدة والدخول في إشتباك مباشر معها في سوريا. والرسائل الروسية المراد إيصالها عبر الأجواء السورية، لا شك أن الولايات المتحدة قادرة على فك شيفرتها
ومع تعثر الهجوم الأوكراني المضاد، بدأت روسيا في سوريا، على حد قول الباحث في مركز كارنيغي للسلام العالمي أندرو ويس، “ممارسة الترهيب ونزع الشعور بأن الولايات المتحدة لن تتعرض للتحدي، لكن الولايات المتحدة تحاول ألا تأكل الطعم، في الوقت الذي تحمي فيه ناسها على الأرض وفي الجو”.
هل يقود إستمرار “المضايقات” الروسية للمُسيّرات الأميركية إلى صدام جوي مباشر بين الولايات المتحدة وروسيا؟
لعل السلوك الذي إتبعته واشنطن بعد إسقاط مقاتلتين روسيتين لمُسيّرة أميركية من طراز “إم كيو -9 ريبر” فوق البحر الأسود في آذار/مارس الماضي، يُقدّم نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه الأمر في سوريا. في البحر الأسود، تجنبت أميركا بعد تحطم مُسيّرتها الإقتراب من مسارات تحليق المقاتلات الروسية هناك.
وليس من مصلحة روسيا الذهاب أبعد في إستفزاز الولايات المتحدة والدخول في إشتباك مباشر معها في سوريا. والرسائل الروسية المراد إيصالها عبر الأجواء السورية، لا شك أن الولايات المتحدة قادرة على فك شيفرتها.
روسيا الأكثر إطمئناناً إلى وضع قواتها على الجبهة في أوكرانيا، تريد القول إن الحرب هناك، لن تجعلها تنسحب من سوريا أو من مواقع نفوذ محسوبة على روسيا في المجال الإقليمي القريب أو الدول الأبعد.
وما مطاردة النفوذ الغربي، وتحديداً الفرنسي، في مالي وبوركينا فاسو إلا خير دليل على ذلك. وعندما وقع إنقلاب النيجر، الأربعاء الماضي، ساد الإعتقاد لوهلة، بأن روسيا وعبر مجموعة “فاغنر” الناشطة في مالي وبوركينا فاسو، قد إستكملت حلقة النفوذ في منطقة الساحل، بينما كان بوتين يستقبل القادة الأفارقة في سان بطرسبرج، تحت أنظار الولايات المتحدة التي تجهد لعزل روسيا على الساحة الدولية.
لماذا “فاغنر”؟
في مؤشر إلى أن مجموعته ستواصل لعب دور في سياق تعزيز أجندة السياسة الخارجية الروسية في إفريقيا، قال رئيس مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين في رسالة صوتية إن ما يحدث في النيجر هو كفاح شعب ضد مستعمريه، مبدياً إستعداده لدعم الإنقلابيين، وعارضاً خدمات “فاغنر” لفرض النظام في ذلك البلد الإفريقي.
وكان بريغوجين قد قال الأسبوع الماضي لدى إنتقاله إلى بيلاروسيا، إن أمام مقاتليه دوراً يؤدونه في إفريقيا.
ماذا يعني ذلك؟
من سوريا إلى إفريقيا إلى أميركا اللاتينية، تبعث روسيا برسائل تؤكد تمسكها بالنفوذ خارج حدودها، في خضم الصراع مع الولايات المتحدة، وهو صراع قاد سيرغي شويغو لزيارة بيونغ يانغ، ليكون أول وزير دفاع روسي يزور كوريا الشمالية منذ إنهيار الإتحاد السوفياتي.