انتخاب رئيس حكومة جديد في ليبيا.. تقطيب “الميت”!

كيف يُواجه رئيس الحكومة الليبي الجديد السيد عبد الحميد الدبيبة المنتخب حديثاً في جنيف الملفات الليبية المعقدة؟ وهل ينجح في تبريد السفود وهو القادم من مناطق سياسيّة غير محايدة؟

باتت ليبيا عبارة عن “صندوق باندورا”، ينفتحُ على كل الشرور المتوقعة وغير المتوقعة. ففي ظل حالة من التردّي الاقتصادي والفلتان الأمني وضياع مفهوم الدولة، في مقابل مثول القيم الأهلية/القبلية وانتشار المليشيات الجهاديّة وتصارع القوى الدوليّة، ما بين راغبٍ في استخدام ليبيا “مخلب هرّ” (روسيا)، وبين من يهوى “مطارد الساحرات” (أردوغان)، يتراءى المستقبل الليبي مُشرعاً على كافة الاحتمالات والتقاطعات.

صفحة السراج تطوى

منذ أن دخلت مذكرة التفاهم الأمني والعسكري بين تركيا وليبيا حيز النفاذ في الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 2019، والتي أكّدت في مضامينها الخفيّة والمعلنة حجم التعاون بين البلدين، معزّزةً بذلك إطار “التقارب” بين تركيا وليبيا (نسخة: حكومة الوفاق) الذي جسّدهُ التوقيع على  مذكرة تفاهم لترسيم الحدود البحريّة في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أخذت أزمة شرق المتوسط بين البلدين لبوساً قانونياً جديداً، وخفّت حدّة التعويل التركي على السيد فايز السرّاج بتماثل الدور التركي في ليبيا إلى نوعٍ من التؤدة حتى الآن، كانت مفقودةً في ما سبق لعدم ثقة الجانب التركي بقوّة شخصيّة السرّاج، باعتباره رجلاً لا يقطع أشواطاً طويلة من دون أن يخلّف وراءه الكثير من الرتوش! وباتَ على السرّاج أن يختار خاتمته السياسيّة بنفسه: فإمّا صفحة تطوى مع الشكر أو ورقة تُمزق مع الجحود، وقد أختار أيسر الحلول وأقلّها كُلفةً: الاستقالة. 

لقد أصبح رئيس حكومة طرابلس سابقاً على غرار ما تقدّم، قطبةً مخفيّة في الجسد الليبي، ولم تعد أنقرة مستعدةً لحرق كل أوراقها في المنطقة من أجله… لا سيما أن روسيا دخلت على الخط الليبي، طمعاً في وضع اليد على ملفيّ الطاقة والأمن، وفي ذهنها الحالة السوريّة التي أضحت مع الوقت: العربة التي تؤشّر على الجهة التي يسلكها الحصان في طريقه إلى الجحيم من ناحية، ومن ناحية أخرى: الحدّ من انتشار الفطريات الجهاديّة بعد فشل الرئيس الأفغاني أشرف غنيّ أحمدزي في القضاء عليها تماماً عند الحدود مع طاجيكستان، في حين نجح إلى حدّ ما الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمن  (يوجد في الحكم عملياً منذ 1992) في لجمِ بعضٍ منها تقرّباً من روسيا أكثر ممّا هو رغبةً في دفع خطرها على بلاده.

باتَ على السرّاج أن يختار خاتمته السياسيّة بنفسه: فإمّا صفحة تطوى مع الشكر أو ورقة تُمزق مع الجحود، وقد أختار أيسر الحلول وأقلّها كُلفةً: الاستقالة. 

وبرغم أنّ الكثير من التحاليل تعتقد بأنّ أنقرة غير راضية على استقالة السرّاج، وأنّها منزعجةً من تلكوئه في تنفيذ كلّ ما تريده في الساحة الليبيّة، وتعبير أردوغان نفسه عن الانزعاج التركي من “قرار” السرّاج التنحي عن رئاسة الحكومة… كان يمكنُ أن نصدّق هذا الكلام ولا نعتبرهُ مجرد خاطرة دبلوماسيّة أو مناورة سياسيّة هدفها استعراض الإخلاص التركي إزاء الحلفاء ونكاية في الأعداء، في ما لو كان السرّاج يملك شيئاً من أمره، وهو الذي نفذ كل ما طلبتهُ تركيا منه على نحوٍ يقلّ نظيره، هذا من زاوية؛ ومن محلّ آخر، كانت الاستقالة مشوبةً بنوعٍ من التأفّف التركي من فشل السرّاج في استمالة برلمان طبرق من أجل التصويت على مذكرة ترسيم الحدود البحريّة، إذّ يفقدها عدم التصويت النيابي شرعيّة الداخل، برغم أنّ عدد المصوّتين لصالح برلمان طبرق في حدّ ذاته لم يتعدّ الـ 18%.

لكن يبقى إطار التفاهم مع حكومة الوفاق في صالح تركيا قانونياً، إذ تكتسب المعاهدة أو الاتفاقيّة أو مذكرات التفاهم الدوليّة مع الجهات المعترف بها أممياً سموّاً قانونياً على القوانين الداخليّة بما فيها الدستور، بمجرد التصديق عليها من الجهة التي تعتبر أممياً الممثل الوحيد للدولة الموقعة. وهذه مسألة فنية في القانون الدولي العام، حسمتها المادة (27) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969، وليبيا وتركيا من الموقعين على اتفاقية فيينا منذ سبعينيات القرن الماضي، إضافةً إلى الحكم القضائي بهذا السموّ القانوني الدولي عن التشريع الوطني من قبل محكمة العدل الدوليّة في حكمها الصادر في قضية المناطق الحرّة الفرنسيّة بتاريخ السادس من تشرين الأول/ أكتوبر1930، تلته بعد ذلك أحكام أخرى تنتهي إلى ذات الحكم والصيغة.

أطوار المفاوضات في جنيف

بعد ثلاثة أشهر من المفاوضات التي وُصفتها المبعوثة الأممية بالإنابة الأميركيّة ستيفاني ويليامز بـ”الشاقة”، كان من المتوقع أن ينتخب أعضاء الملتقى الليبي في جنيف (سويسرا) القوائم المرشحة، ويتمّ اختيار رئيس الوزراء وأعضاء المجلس الذين سيقودون مرحلة انتقاليّة حتى إجراء انتخابات نهاية العام الحالي (2021)، بعدما شهدت التحالفات الأخيرة بروز أربع قوائم تسابقت للفوز بالمناصب، غير أنّ التصويت أخفق في بلوغ النصاب القانوني لنجاح عملية الانتخاب.

وكان التصويت المبدئيّ على مجلس الرئاسة – كما تقول ذات المصادر– قد فشل يوم الثلاثاء في الثاني من شباط/ فبراير (2021)، أيضاً في الحصول على النصاب المطلوب للفوز، ما أدّى إلى تصويتٍ ثانٍ فرض على المرشحين الانضمام إلى تكتّلات بحلول مساء الخميس الرابع من هذا الشهر. فيما أوضحت الأمم المتحدة أنّ هذه الطريقة، التي انتقدها بعض الليبييّن باعتبارها وسيلة مفضّلة لأصحاب القوّة للتأثير على العملية بصفقات سرية، ستؤدّي حتماً إلى تصويت أكيد بتاريخ الخامس من الشهر الجاري”، وهو ما حدث فعلاً.

فما إنْ استؤنفت الجلسات في اليوم التالي (الجمعة 5 شباط/فبراير) حتى انطلقت جلسة التصويت الثانية والحاسمة لاختيار أعضاء السلطة من ضمن لائحتين صعدتا إلى الجولة الثانية.

وقد صوّت المشاركون لمحمد المنفي رئيساً للمجلس الرئاسي، وعبدالحميد الدبيبة رئيساً لحكومة الوحدة الجديدة. كما تمّ اختيار كل من موسى الكوني وعبدالله اللافي لعضوية المجلس الرئاسي.
وسار التصويت على النحو التالي: فازت القائمة التي اعتبرت ويليامز فوزها “تاريخيّاً” بـ”تسعة وثلاثين صوتاً، في مقابل 34 صوتاً لمنافسيهما رئيس البرلمان عقيلة صالح ووزير الداخلية في حكومة الوفاق فتحي باشاغا لمنصبي رئيسي المجلس الرئاسي والوزراء.


عبدالحميد الدبيبة: تاريخ ملتبس!
ولد المهندس ورجل الأعمال الثري عبدالحميد الدبيبة سنة 1958 في مصراتة (200 كلم شرق العاصمة طرابلس). حصل على الماجستير في تقنيات التخطيط والبناء من جامعة تورنتو في كندا. سبقَ لهُ الاشتغال على البنى التحتيّة كالمطارات والملاعب في وطنه الأم. أشرف على مشاريع بناء أخرى، من بينها ألف مسكن في مدينة سرت مسقط رأس معمر القذافي، ومجمّع إداري في منطقة الجفرة. ورأس مجلس إدارة الشركة الليبيّة والاستثمار القابضة (لدكو)، وأسّس تيار “ليبيا المستقبل” ورأسه.
عُرف بقربه من محيط الرئيس السابق معمّر القذافي على المستوى الداخلي، وبقربه خارجياً من تركيا وجماعة الإخوان المسلمين.
وفي نفس السياق التعريفي تقول مصادر مطلعة بأنّ الدبيبة بنى ثروته من مجال البناء ليصبح أحد أنجح رجال أعمال مصراتة إلى جانب ابن عمه علي دبيبة، وفُتحت تحقيقات بحقهما في ليبيا ودول أخرى بتهمة الاختلاس.

عُرف الدبيبة بقربه من محيط الرئيس السابق معمّر القذافي على المستوى الداخلي، وبقربه خارجياً من تركيا وجماعة الإخوان المسلمين

وكان ابن عمه علي من بين 75 مشاركاً في ملتقى الحوار السياسي الذي أطلقته الأمم المتحدة في السادس من تشرين الثاني/نوفمبر في تونس.
ترأس عبدالحميد الدبيبة أيضا جهاز تنمية وتطوير المراكز الإداريّة، وهي هيئة استثمار عامة ضخمة مكلّفة بتحديث البنى التحتية الليبية وكانت تحت إدارة ابن عمه علي الدبيبة بين 1989 و2011.
تعهّد عبد الحميد الدبيبة في أولى طلعاته في  موقعه على تويتر بالتالي:

مؤشّرات مختصرة

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": أميركا تُحطّم آلتها الحربية بيدها

يؤشّر تقلّد السيد عبد الحميد الدبيبة لأثقل مسؤوليّة سياسيّة في ليبيا الآن (رئاسة الحكومة) بعد إسدال الستار على السيد فايز السرّاج على بعض النقاط، يمكن إيجازها في ثلاث نقاط مقتضبة:

أولاً، عودة القريبين من الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي، يجعلنا نعيد قراءة مقال الزميل أمين قموريّة مرةً أخرى، المعنون بـ“عشر سنوات على “ربيع ليبيا”.. القذاذفة عائدون!”.

ثانياً، عودة سياسي قريب من تركيا ومن جماعة الإخوان المسلمين يرجّح احتمال التخلّص التركي المدبّر من فايز السرّاج للأسباب السابق ذكرها في هذا المقال، ويرجّح عودة أخرى لها (تركيا) بصيغة أكثر تخفّفاً من ذي قبل. هذا الهدوء يعكس نجاح تركيا في الحصول على ما تريد أثناء وجود فايز السراج على رأس حكومة طرابلس، ثم التلميح لهُ بإمكانية استبداله بعد أن تخلّى عنهُ خالد المشري رئيس مجلس الدولة (المحكمة الإدارية العليا)، ثم التخلي القاضي عنه من قبل مليشيا مصراتة (أقوى ميليشيا في ليبيا حسب بعض التقديرات) وتضامنها مع باشاغا أيام الخلاف “العائلي” في الغرب الليبي.

ثالثاً، انتخاب عبدالحميد الدبيبة رئيساً للحكومة الليبيّة لمدّة عامٍ واحدٍ، مع “التبشير” بهِ من قبل المندوبة الأمميّة بالإنابة ستيفاني ويليامز، قد يرجّح إلى أنّ المؤقت هنا (ستيفاني) لا ينتظر كثيراً من المؤقت هناك (الدبيبة)، وربما يجعل وجوده على رأس الحكومة الليبيّة لمدة عام، فرصة للحلفاء من أجل التقاط الأنفاس، بانتظار حدوث تفاهمات خارجيّة بين ثلاثة أضلاع فاعلة في الملف الليبي في مواجهة ضلعين آخرين: ألمانيا وفرنسا والإمارات (أنصار الحلول المؤقتة) في مواجهة دولتي الجزائر وتونس (الباحثتين عن الحل المستمر) من جهة أخرى، في ظل غموضٍ يلفّ مستقبل الموقف التركي في ليبيا.

 

Print Friendly, PDF & Email
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  قره باخ...عندما داسَ أردوغان على لغم ستالين