“الطوفان الإردوغاني”.. أو استجداء دور الوسيط في غزة؟

.. وفي اليوم الثامن عشر للحرب الإسرائيلية على غزة، قرّر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن ينقلب على موقف الحياد الذي كان اتخذه في الأيام الأولى من الحرب التي لا مثيل لها في تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

ليس الموقف التركي الرسمي وحده من كان عادياً في الأيام الأولى لعملية “طوفان الأقصى”، بل رأي الجمهور التركي كذلك. لم تخرج إلا مظاهرات قليلة الحجم والتأثير في اسطنبول وأنقرة وبعض المدن التركية، ولم تلقَ دعماً إعلامياً ورسمياً حتى، وذلك على عكس مجمل ردات الفعل التركية الرسمية والشعبية السابقة عند بروز أحداث مهمة مرتبطة بفلسطين. أما موقف السلطة التركية الرسمي، فأطلقه رجب طيب إردوغان في اليوم التالي من عملية “طوفان الأقصى”، وبدا فيه كممثل لجمعية حقوقية أو منظمة دولية، لا كرئيس دولة إقليمية كبرى معنية بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني ولا سيما إلى جانب تنظيم إخواني إسمه “حماس”. قال الرئيس التركي حينذاك: “ندين الهجوم على المدنيين، ونطالب بوقف إسرائيل لقصف الأراضي الفلسطينية، كما نطالب بوقف تحرش الفلسطينيين بالتجمّعات السكنية المدنية في إسرائيل”!

موقف “بلا طعم أو رائحة أو لون” أتى مخالفاً لمسيرة تركيا “الإردوغانية” الداعمة لفلسطين وحركة “حماس”، فيما كان الهدف من هذا الموقف “المحايد” محاولة الاستثمار بالصراع العسكري الدائر، عبر الفوز بدور سياسي تركي وسيط بين حركة “حماس” وإسرائيل، يؤتي ثماره، بالنهاية، في الجلوس على طاولة المفاوضات مع باقي اللاعبين الإقليميين والدوليين ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، فتُحقق تركيا بذلك إعترافاً سياسياً بدورها الفاعل والمهم في الشرق الأوسط.

عملياً، لم يكتفِ الرئيس التركي بالبيانات الرسمية، بل قدّم نفسه وبلاده كوسيط محتمل لحلّ القضية الفلسطينية والنزاع العسكري الأخير، معتبراً أن علاقاته مع الأطراف الفلسطينية يمكنها أن تُشكّل حافزاً لتعزيز الأمن وعودة الإستقرار. أما وزير خارجيته هاكان فيدان، فقد زار عدداً من دول الشرق الأوسط، أعلن خلالها أن بلاده طرحت على بعض الدول المعنية بالصراع العسكري مبادرة دبلوماسية جدية، وهي تنتظر الردّ عليها، وجوهرها توفير ضمانة تركيا للأطراف الفلسطينية، فيما تضمن دول أخرى إسرائيل، فيجري التفاوض بين الدول الضامنة على إعادة الهدوء بين غزة وإسرائيل، والعمل على الإفراج عن الأسرى وإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر.

صورة إردوغان “نصير فلسطين” و”بطل القضية” على المنابر الدولية تعرضت للإهتزاز، تماماً كما صورة بلاده كلاعب أساسي في المنطقة والتي رُفضت مبادرتها ولم تؤخذ على محمل الجدّ في الأسبوع من “الطوفان”. وهذا يعني أن الزمن الذي كانت فيه تركيا تلعب دوراً رائداً في الشرق الأوسط قد انتهى

لم يأخذ الإسرائيليون هذه المبادرة على محمل الجدّ، ولم يردّوا عليها بشكل علني حتّى، الأمر الذي دفع إردوغان لزيادة منسوب الانتقاد لإسرائيل، فقال متهماً إياها في 25 تشرين الأول/أكتوبر الحالي بأنها “تشن أكثر الهجمات وحشية في التاريخ خلال حربها المستمرة على قطاع غزة” من دون أن ينسى توصيف حركة “حماس” بأنها “ليست منظمة إرهابية بل حركة تحررية ومجموعة مجاهدين تكافح لتحمي وتحرر أرضها وشعبها”، وأعلن عن إلغاء رحلته المقررة إلى إسرائيل، فيما نقلت وكالة “بلومبرغ” أن كل مشاريع التعاون الطاقوي بين أنقرة وتل أبيب تم تعليقها.

مع تطوّر الصراع العسكري بين “حماس” وإسرائيل، تطوّر الموقف التركي كذلك، خاصة وأن خيبة الأمل العربية والانتقادات التركية المحلية تصاعدت بشكل كبير في نهاية الأسبوع الثاني من عملية “طوفان الأقصى”. لذا عدّل الرئيس التركي من موقفه لكن من دون أن يوصد الأبواب كلياً مع تل أبيب، حيث شدد على ضرورة تحييد المدنيين والدعوة إلى السلام، وظل متأملاً بقبول تركيا كوسيط سياسي بين حركة “حماس” وإسرائيل.

أما العطب الأساسي في المبادرة التركية فليس بضرورة قبول الأطراف المتصارعة المسبقة لها من أجل تنفيذها فقط، إنما محدودية رؤية تركيا وإردوغان للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وعدم وضعه في إطار التنازع على الأرض والوجود والحقوق الإنسانية والمطالب التاريخية وسلسلة طويلة من الخيبات والمشاكل والدماء المتناثرة منذ العام 1948، حتى يومنا هذا.

إضافة إلى تعقيد هذه المبادرة وربما غرابتها، كما عدم الرد الجدي عليها حتى الآن من أي طرف معني بشكل مباشر في الصراع العسكري، تبقى تلك المبادرة تجسيداً فعلياً للدور المحدود الذي تلعبه تركيا في الصراع بين حركة “حماس” وإسرائيل. هذه المحدودية مردها، كذلك، إلى انخراط أطراف أخرى في هذا الصراع، وتقدمها في مجال المقدرة والتأثير على أطرافه، وتحديداً إيران ومصر وقطر والولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول الكبرى والإقليمية.

ويواجه إردوغان أزمة ثقة مع الشارع الفلسطيني بسبب ما يمكن تسميتها “بهلوانية” مواقف الحكومة التركية، إزاء قضية سياسية هي الأكثر تعقيداً في تاريخ الصراعات والأزمات العالمية. وكان لافتاً للإنتباه أن عدداً من الوجوه القيادية والإعلامية في “حماس” لم تتردد في الأيام الأولى لـ”طوفان الأقصى” في توجيه انتقادات علنية لتركيا، عبر القول إنها لا تصلح لدور الوساطة، بسبب الخطوات التي لطالما لوّحت باتخاذها ضد قياديين ومؤسسات إعلامية “حمساوية”، في السنوات الأخيرة، بالتزامن مع التطبيع المتدرج بين تركيا وإسرائيل.

إقرأ على موقع 180  قراءة في إنتخابات المحامين.. "نقابتنا" حجر الأساس للتغيير   

إذاً، صورة إردوغان “نصير فلسطين” و”بطل القضية” على المنابر الدولية تعرضت للإهتزاز، تماماً كما صورة بلاده كلاعب أساسي في المنطقة والتي رُفضت مبادرتها ولم تؤخذ على محمل الجدّ في الأسبوع من “الطوفان”. وهذا يعني أن الزمن الذي كانت فيه تركيا تلعب دوراً رائداً في الشرق الأوسط قد انتهى.

في الوقت نفسه، لا يعني إزدياد النفوذ التركي في البلقان والقوقاز على وقع الحرب الروسية ـ الأوكرانية والأذرية ـ الأرمنية، زيادة في نفوذ تركيا في الشرق الأوسط. فيما بدا عدم الإكتراث الإسرائيلي والأميركي بالمبادرة التركية دليلاً إضافياً على تراجع نفوذ تركيا في الشرق الأوسط بشكل عام.

انتهى الزمن الذي كان إردوغان يلعب فيه دوراً مركزياً في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بل بات كأي رئيس دولة عادية من دول العالم، معنياً بالقضية الفلسطينية على قدر ما يُسمح له بذلك، فهل يريد رئيس تركيا الإقرار بذلك أم يجعل “الطوفان” السياسي الذي أطلقه، أمس، يتدحرج أكثر، فيكون في طليعة الدول التي تحاول فك الحصار عن غزة عبر تسيير أسطول من البواخر كما فعل سابقاً، فتتكرر مشهدية سفينة “مرمرة” في العام 2010؟

Print Friendly, PDF & Email
تركيا ـ جو حمورة

كاتب لبناني متخصص في الشؤون التركية

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  قمة جدة العربية.. ماذا لو حضرت إيران وتركيا؟