حتى لا يُحوّلنا الإعلام المقاوم إلى مجلس عزاء دائم!

قيل في حرب أميركا على العراق أن شبكة الـ"سي. إن. إن" خاضت 75٪ من الحرب فيما أكمل الجيش الأميركي الـ 25٪ الباقية. 

تبدو الساحة الإعلامية اليوم لاعباً أساسياً في الميدان، لأنّ انعكاسات تأثيرها على الرأي العام العربي كما العالمي له أثره المباشر على دوائر صنع القرار، لا سيما في الجانب الإسرائيلي منه.

ليس من المستبعد على سبيل المثال لا الحصر أن تؤدي تظاهرات عارمة في بلدان عربية وغربية – في حال استمرارها وبزخم كبير – إلى لجم بعض السياسات الغربية.. والأمثلة من هذا النسق تطول.

“طوفان الأقصى”، بوصفه شكّل خدشاً كبيراً في الجسم الإسرائيلي له أن يرقى إلى مستوى المنعطف في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كما يُعبّر عن ذلك الإسرائيليون أنفسهم. يجب، مع ألف سطرٍ تحت الوجوب، أن ترقى المعركة الإعلامية إلى مستواه. كيف والحال أنّ حرباً إعلاميّةً يقودها الغرب السياسي لتحوير الواقع وتزييفه خدمة لدوافع سياسية ذات أهداف كولونيالية، تُشكل تحدّياً مضاعفاً للإعلاميين والصحفيين والكتّاب، لأجل ليس إيصال الرسالة وحسب، بل معرفة كيفية تسييلها أيضاً، وإدراك مدى أهمية تحييد ما يجب تحييده، وتظهير ما ينبغي إظهاره.

يُتقن الطرف الإسرائيلي مسألة “التسييل” هذه. بل يتقنه الطرف الغربي أيضاً. منصات كثيرة يعتمدون عليها تخاطب العالم بكل لغاته، بل وتتوجه إلى كل مجتمع حسب رموزه ومفاتيحه الثقافية التي من خلالها تتسلل إلى عقول الناس حدّ “أسرها” في صورة واحدة تُريد أن يخضع لها العقل ويُصدّقها. وهذا الأمر انتبه إليه المستعمرون القدامى حينما وظّفوا نتائج الاستشراق الذي فكّك وحلّل المجتمعات المشرقية في إطار تدعيم الفكرة الاستعمارية.

يحتاج كل إعلام مقاوم إلى شيء من هذا القبيل. أن يعرف كيف يُخاطب أبناء البلد، وأبناء البلد الآخر، عربيّاً كان أم أجنبياً، كلٌّ وفق لغته وأدواته ورمزياته، مع الأخذ بالإعتبار أهمية تقزيم – قدر المستطاع – لغة الخصوصيات على حساب ما هو قابل لإذابة كل هذه الخصوصيات في لغة جامعة يستسيغها كلّ فردٍ معنيّ بأن تصل له هذه الرسالة اليوم حول القضية الفلسطينية، بوصفها قضية حق وعدالة ومظلومية، لا بوصفها قضية عربية أو “إسلامية” أو ثقافية كما يحاول الطرف الآخر إبرازها. هي ليست مسألة “نحن” مقابل “هم”، بل هي مسألة حقّ صُراح له أن يتبناه كل إنسان في هذا العالم مقابل بطش صُراح وتزييف خبيث. ميزة القضية الفلسطينية بالتحديد أنها عابرة لفكرة الصراع الهَوياتي، وهي لا تضطرنا إلى أن نعود إلى تمايزاتنا، وإن أجبرتنا، هي وغيرها من القضايا، على فضح زيف السياسات الاستعمارية التي تتبناها كبرى الدول في الغرب والتي تتستّر تحت شعاراتٍ حضارية واهمة.

لغةٌ جامعة تُقدّم بقالبٍ ذكيّ يدرس كيفية مخاطبة المتلقي في لاوعيه، وإن احتاج الأمر إلى علماء اجتماع متخصصين في تفكيك المجتمعات ودراسة المخيال الجمعي بغية النفاذ إلى وعيها والتأثير الفاعل فيها.

نعم، ينجح باسم يوسف، في حين أن فضائيات بعينها، بوصفها ناطقة ليلاً بنهاراً باسم القضية الفلسطينية، تفشل في تقديم محتوى عالمي مؤثر، ويكتفي مراسلوها على الأرض في نقل توصيفات استعراضيّة، بلغة خاصة بابن البيئة وحدها

يمكن في إطار ما سبق أن يُضرب مثل باسم يوسف على سبيل المثال لا الحصر. يجزم متابعون كُثر إلى أن يوسف نجح في مخاطبة الشعب الأميركي من خلال استخدام رموزه الثقافية، كحال جملته التي قال فيها أنكم تنظرون إلى إسرائيل على كونها “سوبرمان” لكنها في الحقيقة “هوملاندر”. و”سوبرمان” هو شخصية ترمز للبطل الخارق في الذهنية الأميركية التي اخترعت هذه الشخصية، مقابل “هوملاندر” البطل المنافق غير الحقيقي.

وتهكم باسم يوسف على أسئلة الإعلامي البريطاني بيرس مورغان، باستخدامه أكثر من مرة كلمة “أحا” محاكياً من خلالها المخيال الشعبي المصري، بلغة يفهمها جيداً.. وحتى أن هذه الكلمة صارت مفهومة عند بعض نخب الغرب أو موضع سؤال!.

نعم، ينجح باسم يوسف، في حين أن فضائيات بعينها، بوصفها ناطقة ليلاً بنهاراً باسم القضية الفلسطينية، تفشل في تقديم محتوى عالمي مؤثر، ويكتفي مراسلوها على الأرض في نقل توصيفات استعراضيّة، بلغة خاصة بابن البيئة وحدها، لا تعرف الربط السياسي والتزحيم المنطقي للحدث، وهي أقرب منها للتهليل بدلاً من توصيل الرسائل التي تليق بالمرحلة.

حتى تلك الفضائيات التي تقدم المحتوى بلغات مختلفة، إنكليزية كانت أو إسبانية أو غيرها، وتحسب أنها بهذه الطريقة نفذت إلى الشعوب.. أن تنفذ إلى الشعوب يعني أن تحكي “لغتها الثقافية”، لا أن تكتفي بترجمة الخطاب الموجه أساساً للجمهور الأصلي، ما قد يؤدي إلى نتائج عكسية!

مسألة أخرى تستحق الوقوف عندها، بحيث ينبري بعض الإعلام “المقاوم” لتزخيم مأساة غزة أمام الرأي العام بالشكل الذي يُشعر المشاهدين أنهم في مجلس عزاء دائم وخطاب ضحية يتفوّق على خطاب أثر الصمود، في الوقت الذي لا يصل صوت المأساة هذا إلى من هم في الخارج.

إقرأ على موقع 180  إسرائيل في مواجهة "الجهاد".. مَنْ يردع مَنْ؟

هي ثغرات حقيقية تسمح للطرف الآخر أن يسدّها بنفسه لينفذ منها ويكرّس سياساته وأهدافه.. وهي ثغرات لا يعوّض نقصها سوى وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تؤثر بشكل مباشر في الشعوب، لأن طبيعة هذه الوسائل مختلفة، ولأن رواد التواصل الاجتماعي أنفسهم باتوا في وعيهم ولاوعيهم يتصرفون بالشكل الذي يمكنهم من الوصول إلى أكبر قدر من الناس حول العالم، لا حول البيئة الحاضنة!

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  التمرد في "الوحدة 8200".. عالم السرية في العلن (107)