الزر النووي لفلسطين.. غزة!

أيُّ معنى للخصوصيّة الجيوسياسيّة لقطاع غزّة وهو أشبه بمعسكر كبير للاجئين الفلسطينيين القادمين من مدنٍ وبلدات وقرى الجوار القريب تحت وطأة "النكبة"؟

هل صحيحٌ أنّ تركيبة قطاع غزة العاصية على تقبّل الخضوع والمهادنة المُذلّة، تُفسّر نزوع إسرائيّل إلى ممارسة الحدّ الأقصى من الإجرام والتوحّش بحقّ الجسد الفلسطيني في غزّة، خصوصاً أنّه واجه من العنف العدواني إبّان الإنتفاضة الفلسطينيّة الأولى قدراً لم تعرفه الضفّة الغربيّة المحتلّة؟

تُشير السرديّة الإسرائيّلية في شأن التعامل مع المقاومة في قطاع غزّة، إلى أنّ أي حرب هناك لا يمكن أن تُغيّر المعادلة الجيوسياسيّة، وإلى أن المُخطّطين الإسرائيّليين توصّلوا إلى استنتاج مفاده أنّ استعصاء الحل في غزّة يجب ألّا يمنع الكيان الإسرائيّلي من توجيه الضربة تِلوَ الضربة إلى حالة التمرّد الغزّاويّة، وهذا ما حدث فعلاً خلال حروب 2008 و2012 و2014.. وما يحدث حاليّاً ردّاً على “طوفان الأقصى”.

غير أن هذا التوجّه يستثني احتمال أن يكون الجيش الإسرائيّلي على استعداد للدخول إلى قطاع غزّة واحتلاله تمهيداً لإحداث تحوّل استراتيجي على مستوى علاقة إسرائيّل بغزّة، أي عمليّة “ترانسفير” للفلسطينيين يسبقها إحتلال مباشر، وهذا السيناريو الذي يتردّد كثيراً في توجيهات المسؤولين الإسرائيّليين في الآونة الأخيرة، يتطلب حالة معنويّة عالية لدى الوحدات الإسرائيّلية المُقاتلة، فضلاً عن روحٍ هجوميّة واستعدادٍ للتضحية يُشكَ في توفرهما حقّاً لدى الجيش الإسرائيّلي بعد هزيمة 7 أكتوبر/تشرين الأول.

الواقع أن المبادرة انتقلت إلى أيدي المقاومة الفلسطينيّة، وتحديداً حركة “حماس” التي تمكّنت من تحقيق اختراق استراتيجي وتاريخي عبر إطاحة السياج الحدودي ونقل المعركة إلى داخل أرض فلسطين، الأمر الذي وضع حلفاءها الإقليميين أمام الأمر الواقع وأربكهم. وهكذا تكون حركة “حماس” قد استطاعت تحويل قطاع غزّة من قاعدة شبه آمنة لنشاطات المقاومة إلى منصّة للهجوم الثوري على أرض فلسطين لمواصلة عمليّة التحرير.

الرسالة التي يحملها الهجوم الفلسطيني الذي أسفر عن قتل وأسْر المئات من العسكريّين والمستوطنين وأوقع المجتمع الإسرائيّلي في حالة من الرُّعب والقلق وأصاب قياداته بالذهول وفقدان التوازن، أنّ حركة “حماس” لا يعنيها الحفاظ على نافذة للتفاوض إلّا بقدر ما تُسهّل إطلاق السُّجناء وحماية المسجد الأقصى ودحر الإحتلال

ولا ننسى أنّه سبَقَ ذلك في قطاع غزّة إطلاق “مسيرات العودة” التي قادها جيل الشباب بجسارة بطوليّة لا تخشى التضحيات الكبيرة والمآسي الفرديّة؛ وكان الشعب في هذه الملحمة يتقدّم نحو خطّ التماس مع العدو، بينما الشباب يتحدّون القنّاص الإسرائيّلي الذي يستهدفهم. وهناك تقديرات إحصائيّة تُفيد بسقوط مئات القتلى وأكثر من 20.000 جريح خلال 150 يوماً من المسيرات الشعبيّة، فضلاً عن 100.000 شخص كانوا يخرجون للإحتجاج ضدّ الإحتلال على السياج الحدودي جنوب فلسطين.

رصيد الإنجازات

ولا يسعني سوى أن أتصوّر أنّ مجموعة متقدمة من المناضلين الذين أدركوا هول الدم وعَظَمَة هذه الشجاعة، توصلت إلى صوغ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول باعتبارها الأداة لتأطير هذه التضحيات والدفع بديناميكية الإنتفاضة المتصاعدة في الضفة الغربيّة، بناءً على ما تحقّق من إنجازات.

وحدِّث ولا حرج في رصيد الإنجازات التي حقّقها المقاومون الفلسطينيون، وبينها إسقاط الرهان الإسرائيّلي على احتواء حركة “حماس” في المجال الجغرافي لقطاع غزّة لإدارة الصراع معها هناك، ذلك أن وراء هذا الرهان الفاشل الاعتقاد بأنّ “حماس” التي تمدّ جذورها في حركة الإخوان المسلمين سوف تُركّز على حكم القطاع وإبقاء المواجهة تحت سقفٍ منخفض التوتّر. يُضاف أيضاً إلى الإنجازات تهافت نظرية التفوّق العسكري والتكنولوجي لإسرائيّل، بعدما أدّى “طوفان الأقصى” إلى جرف البنية الاستخبارية البشريّة في غزّة وإيقاع المئات من القتلى في صفوف جيش الإحتلال ومستوطنيه.

أمّا الإنجاز الاستراتيجي الأبرز فيتمثل في إعادة الاعتبار إلى مفهوم الكفاح المسلّح وتوجيه الأنظار نحو معركة الضفّة الغربية ضدّ الاحتلال والإستيطان، وسط عودة القضيّة الفلسطينيّة إلى الأجندة الإقليميّة والدوليّة والتفاف الشارع العربي حولها.

وها أن أزمة الإنسداد السياسي التي كانت تُخيّم على المنطقة عشية أكتوبر/تشرين الفلسطيني، تُعيدنا إلى أجواء الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى (1987 – 1991) حيث كان شعور المجتمع الفلسطيني بأنّ قضيّته صارت مُهدّدة بالتهميش والضياع بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينيّة من بيروت وفقدان “القاعدة الآمنة” في لبنان، وأنّه بات مطلوباً من الشعب الفلسطيني أخذ الأمور بيده لإعادة القضيّة إلى جدول الأعمال الدولي. وجاءت القمّة العربيّة في عمّان في ذلك الحين لتُقّدم الدليل على أن العالم العربي يُركّز جلّ اهتمامه على تحدّيات الحرب الإيرانيّة – العراقيّة ويتجاهل الموضوع الفلسطيني. وكان المشروع الوطني الفلسطيني يختبر أزمة مماثلة عشيّة هجوم 7 أكتوبر/تشرين واندفاع الجناح الخليجي في النظام العربي للخوض في تجربة التطبيع مع إسرائيّل. وإزاء تمسّك السلطة الفلسطنية في رام الله بالتنسيق الأمني مع إسرائيّل، ظلّت غزّة تتحمل عبء التناقض الأساسي مع المشروع الصهيوني وتُمثّل جوهر القضيّة الفلسطينيّة بوصفها قلب المُفجّر النووي الذي يبقى ويستمر لكون التناقض الكامن فيه غير قابل للحلّ في معزل عن القضيّة الأساسيّة.

إقرأ على موقع 180  عن مبارك "الساداتي" ـ الإداري.. وناحر النظام!

أكثر من ذلك، “الخيار الأردني” ليس متاحاً لقطاع غزّة ليكون جزءاً من فيدراليّة، ولن تسمح مصر بنقل أعباء إدارة قطاع غزّة إلى القاهرة فضلاً عن رفضها استقبال النازحين في حال حدوث عمليّة “ترانسفير” إسرائيّلية. ويُقال إنّ السلطة الفلسطينيّة تتصرّف منذ زمن طويل وكأنّ القطاع عبءٌ بشريٌ وسياسيٌ عليها، علماً أنّه كان يُعتبَر دائماً منطقة خارجة على النظام ومُختبراً فكريًّا يُنتج تيارات سياسيّة غير تقليديّة مثل “فتح” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي”.

نعم هناك حالة فلسطينيّة خاصّة في قطاع غزّة، تعود إلى السياقات التاريخيّة للقضيّة الفلسطينيّة، وليس غريباً أنّه يصعب فرض السيطرة عليها، وهي التي أطلقت شرارة الإنتفاضة الفلسطينيّة الأولى، وحضنت تجارب قادة ثوريين كبار يتقدّمهم خليل الوزير (أبو جهاد) والدكتور فتحي الشقاقي، كما استقبلت تشي غيفارا أيقونة الثورة العالميّة.

مفارقة العبور

وبقي أن نتوقّف قليلاً عند المقارنة بين عمليّة عبور قناة السويس في العام 1973 والعبور إلى فلسطين في 7 أكتوبر/تشرين 2023، بعدما صارت المقارنة موضوعاً متداولاً من جانب مُعلّقين وباحثين في الشؤون العسكريّة والاستراتيجيّة، خصوصاً في دول الغرب. وأكثر ما يلفت الانتباه في هذه المتابعة، أنّه إذا كانت حركة “حماس” تمكّنت من شنّ هجوم مُباغت وكاسح استهدف مواقع عسكريّة ومستوطنات إسرائيّلية وأدّى إلى قتل وأسْر المئات من العسكريين والمدنيين، فإنّها استوحت هذا التكتيك العسكري الناجح من المبادرة العسكريّة المصريّة عام 1973، بعدما عملت على بناء شبكة دفاعيّة متشعّبة داخل قطاع غزّة عمادها الأنفاق المتداخلة التي تمثّل على ما يبدو حجر الزاوية في نظامٍ دفاعيّ أكثر تعقيداً من خطّ الدفاع المِصري السابق في منطقة قناة السويس.

ولا شكّ في أنّ قيادة “حماس” تعرف مثل القيادة المِصرية من قبل، ماذا يجب أن تتوقّع من الجيش الإسرائيّلي المتفوّق في سلاح الجوّ، وإذا كانت إحدى وظائف شبكة الأنفاق في غزّة هي السماح لمقاتلي “حماس” بالاحتماء إزاء القصف الجوّي وضربات المدفعيّة الثقيلة في إطار استراتيجيّة غير متوازية، فإنّ ما قام به خطّ الدفاع المِصري الراسخ على الضفّة الشرقيّة للقناة هو التحصّن العميق لمواجهة الهجوم الإسرائيّلي المُضاد الذي عاد وفتح ثغرة “الدفرسوار” على الضفة الغربيّة للقناة.

“الخيار الأردني” ليس متاحاً لقطاع غزّة ليكون جزءاً من فيدراليّة، ولن تسمح مصر بنقل أعباء إدارة قطاع غزّة إلى القاهرة فضلاً عن رفضها استقبال النازحين في حال حدوث عمليّة “ترانسفير” إسرائيّلية

غير أن أوجه الشبه بين أكتوبر المِصري وأكتوبر الفلسطيني، لا تنفكّ أن تُفسح المجال لأوجه الاختلاف بين العمليّتين سياسيّاً واستراتيجيّاً. ذلك أنّ الهدف النهائي للرئيس المصري أنور السادات كان السعي إلى تسوية سلميّة مع إسرائيّل، وهو ما أن اعتلى سدّة الرئاسة عام 1970 حتى أقدم على مبادرة انفتاح سرّيّة تجاه إسرائيّل يقترح بموجبها انسحاب الجيش الإسرائيّلي من شبه جزيرة سيناء مقابل خروج مصر من الصراع. وعندما جُبِه هذا العرض بالرفض من حكومة غولدا مائير في إسرائيل، استنتج السادات أنّ عليه اعتماد الخيار العسكري وصولاً إلى التسوية. ويبدو أن تفكير السادات كان يتّجه نحو التسبّب بصدمة لإسرائيّل من خلال تنفيذ عمليّة عسكريّة لعبور قناة السويس، وتالياً جعل القوات المِصرية تتحوّل إلى الدفاع على الضفّة الشرقيّة والصمود هناك أمام الهجمات الإسرائيّلية المضادّة بُغية تغيير التفكير الإسرائيّلي حول السلام.

لقد اعتبر السادات أنّ عليه عدم التعرّض للسكّان المدنيّين الإسرائيّليين في حرب رمضان 1973، لاعتقاده أنّ مثل هذا العمل من شأنه أن يُرعب إسرائيّل ويدفعها إلى الردّ بصورة جنونيّة تقطع الطريق على التسوية. ويرى خبراء أنّ هذا المنحى في التفكير كان عاملاً يُفسّر لماذا أراد السادات أن يقتصر ميدان القتال على منطقة قناة السويس.

أمّا التكتيكات التي اعتمدتها حركة “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين 2023، فإنّها تنطوي على قصّة مختلفة، إذ استهدفت التموضع عبر حدود إسرائيّل وتعطيل قدراتها العسكريّة والاستخباريّة، وإبلاغ الإسرائيّليين أنّه يستحيل التطلّع إلى السلام والأمن ما دامت الدولة العميقة في تل أبيب تتشبّث بسياسات الإحتلال والاستيطان وانتهاك الحقوق الفلسطينيّة غير القابلة للتصرّف بموجب القانون الدولي. بل إنّ الرسالة التي يحملها الهجوم الفلسطيني الذي أسفر عن قتل وأسْر المئات من العسكريّين والمستوطنين وأوقع المجتمع الإسرائيّلي في حالة من الرُّعب والقلق وأصاب قياداته بالذهول وفقدان التوازن، أنّ حركة “حماس” لا يعنيها الحفاظ على نافذة للتفاوض إلّا بقدر ما تُسهّل إطلاق السُّجناء وحماية المسجد الأقصى ودحر الإحتلال من الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة ووقف حرب الإبادة التي يتعرّض لها القطاع.

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  رئاسة البرلمان اللبناني.. الممكن والمستحيل!