صراعات المشرق.. هويات وممرات وريوع وحقوق!

دخلت الحرب الإجراميّة على غزّة والفلسطينيين يومها الثمانين. هذه الحرب، وأمام العجز الدولي عن إيقافها، هبّ اليمن ليُدخِلَ ورقة ضغطٍ حقيقيّة وليعطّل طريقاً أساسيّاً للتجارة الدوليّة وليُذكّر أنّ المشرِق العربي كان، ولا يزال، في وسط العالم وأنّه طريق التجارات التي جلبت معها منذ القدم ثرواتً ونهضةً، كما جلبت المصائب والويلات.

المشرق العربي كان طريقاً قديماً للتوابل من الهند. طريقٌ جعل من مكّة المكرّمة مصدراً لإحدى أهمّ الحضارات الإنسانيّة. وكان المشرق العربي طريقاً قديماً للحرير من الصين واليابان إلى العراق والشام. والتجارة العالميّة هي التي خلقت مجد مصر الفاطميّة والمملوكيّة وفي عهد محمّد علي، أي حتّى قبل شقّ قناة السويس. لكنّ طرق التجارة ولّدت أطماعاً وأتت بغزوات متتالية من التتار والمغول والصليبيين وكانت وراء الاستعمار الحديث. كما كانت مدينة البندقيّة قد موّلت حملاتٍ صليبيّة لا من أجل الدين.. بل من أجل التجارة. وقامت الولايات المتحدة بغزو ليبيا أوائل القرن التاسع عشر نتيجة خلافٍ على حقوق ٍعبور تجاريّة على شواطئها. كما قام نابليون بغزوته لمصر محاولاً قطع طريق الهند البريطانيّة.

وفي زمنٍ أكثر قرباً، قامت انقلابات سوريا الأولى لتمرير خطوط النفط من العراق والسعودية نحو البحر الأبيض المتوسّط. وجاء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 من أجل قناة السويس، وحرب نكسة 1967 من أجل مضائق تيران على خليج العقبة. وكثيراً ما يُعزى الصراع الحالي على سوريا كنتيجة تنافسٍ بين خطٍّ غازٍ قطريّ نحو تركيا وبين آخرٍ من إيران نحو المتوسّط، أكثر منه صراعٍ سنّي-شيعيّ. وأنّ وراء حرب غزّة اليوم مشروع قناةٍ بحريّة جديدة تربط خليج العقبة بالبحر المتوسط أو ممرٌّ بالسكك الحديديّة يمتدّ من الخليج.

صراعات المشرق العربي هي صراعات على الحاضر وعلى المستقبل. وليست فقط صراعات على الهويّات والحقوق، وفي طليعتها حقّ الفلسطينيين بالعيش الكريم على أرضهم وكذلك حقوق شعوب كافّة بلدان المنطقة

لكنّ مقاربة الصراعات على “ريع” الموقع الجغرافي تكتسي أهميّةً أكثر شمولاً. إنّ الموقع الجغرافي يشكّل اقتصاديّاً “ريعاً” للدول التي تتحكّم به، بقدر ما تشكّل أيضاً الموارد الطبيعيّة كالنفط والغاز والمعادن “ريوعاً”، ولا ننسى أيضاً تحويلات المغتربين والمساعدات الأجنبيّة. إنّ “ريع” عبور التجارة عبر بلدٍ يجلب ثروات ولكن يجلب أيضاً أمراضاً اقتصاديّة كـ”المرض الهولندي” الذي يكبح، برغم الثروات، تطوّر إنتاج البلد الزراعي والصناعي وتنميته.

ويبقى النقل الجويّ جزءاً لا يستهان به من التجارة العالميّة وله أثرٌ على السياحة. حيث تدفع شركات الطيران حقوق مرور للدول التي تمرّ في أجوائها. وفي الوقت ذاته، تكتظّ بعض مسارات الطائرات، وترتفع أكلاف العبور، خاصّةً عندما تمنع بعض الدول تحليق شركات طيران دولٍ أخرى. وهكذا كان مسار الطائرات الإسرائيليّة معقّداً نحو آسيا عندما كانت المقاطعة العربيّة قائمة. وكان مسار الطائرات الأوروبيّة نحو الخليج معقّداً في ظلّ حظر التحليق فوق سوريا ومسار الطائرات القطريّة إبّان الأزمة مع دول الخليج الأخرى والطائرات الروسيّة فوق أوروبا بعد حرب أوكرانيا. بالنتيجة يخلق سماح المرور بالأجواء ريعاً للدول المعنيّة ويحوّل تغيير المسارات الريع إلى دولٍ أخرى.

بالتوازي، غدت شبكات الانترنت عنصراً فاعلاً في التجارة الدوليّة، خاصّةً عبر “الكابلات” التي تمتدّ في البحار والمحيطات. هذه الكابلات تنقل الخدمات، بما فيها الاتصالات، حيث تتعاظم حصّتها من تلك التجارة الدوليّة. وشركات الكابلات تدفع أيضاً حقوق مرور للدول التي يتمّ التمديد عبر أراضيها أو على شواطئها أو في مساراتها المائيّة. هكذا تمرّ معظم “الكابلات” الممتدّة من آسيا نحو أوروبا عبر قناة السويس وتشكّل مصدراً لريعٍ لا يستهان به لمصر مقارنةً بالنقل البحريّ. وقد يشكّل تحويل خطوط مرور هذه الكابلات نحو إسرائيل بدل مصر منافسةً حقيقيّة لقناة السويس، ومنافسةً أقلّ كلفةً من شقّ قناةٍ جديدة موازية أو خطوط سكّة حديديّة. علماً أن تنويع مسارات مرور الكابلات يشكّل ضرورة استراتيجيّة نظراً لتداعيات انقطاع الخطوط.

النقل البرّي له، هو الآخر، أهميّة كبرى. إنّ الطرق السريعة والسكك الحديديّة وخطوط نقل الطاقة، من نفطٍ وغازٍ وكهرباء، والموارد الطبيعيّة. فعلى صعيد التجارة العالميّة، أسّست الصين التي أضحت مصنع العالم سياساتها المستقبليّة على “الحزام والطريق”، أي النقل البحري والبرّي، انطلاقاً من واقع أنّ الربط البرّي وتقليص كلفته يؤطّر نموّ الاقتصادات على جوانبه. إنّ شبكات الأقنية المائيّة ثمّ السكك الحديديّة أسّست لنموّ الدول الصناعيّة منذ القرن التاسع عشر. واللافت للإنتباه أنّ اهتمام الدول العربيّة بشبكات هذه البنى التحتيّة منذ استقلالها ظلّ بطيئاً ومتواضعاً، إلاّ نادراً، سواءً داخليّاً بين مدنها ومناطقها أو بين بعضها البعض. وظلّ في أغلبه يعتمد على الطرق والسيارات بدل السكك الحديديّة الأقلّ كلفةً والأسلم بيئيّاً. “الريع” في هذه الحالة حقوق “ترانزيت” عابرة للبلدان، بالنسبة للشاحنات وخطوط النفط والغاز والكهرباء.

وحدها أنابيب النفط والغاز تخلق “ريوعاً” تخضع لاعتبارات سياسيّة واستراتيجيّة. ومن اللافت للإنتباه أنّ خطوط أنابيب النفط من السعودية والعراق نحو المتوسّط ما زالت متوقّفة. ولافتٌ للإنتباه أيضاً منع أوروبا لسنين طويلة مرور غاز بحر قزوين عبر تركيا. ولافتٌ للنظر في نفس السياق منع الولايات المتحدة وصول الغاز والكهرباء إلى لبنان عندما كانت الطاقة متوفّرة في مصر، حتّى بتمويلٍ من البنك الدوليّ.

ها هو انفجار مرفأ بيروت (2020) يرمز إلى نهاية دوره المركزيّ الذي رسمه له الفرنسيّون منذ بداية القرن العشرين. ليس فقط تجاه سوريا والعراق، بل أيضاً تجاه الخليج. وها قد عاد دور حيفا الذي رسمه لها البريطانيّون ليس فقط للاقتصاد الإسرائيلي بل أيضاً لتجارة تركيا وغيرها مع الخليج

يبقى النقل البحريّ هو الأقلّ كلفةً للبضائع ولا يخلق “ريعاً” إلاّ في حالاتٍ استثنائيّة، مثل قناتي السويس وبنما اللتين شيّدهما البشر ومضيق البوسفور الطبيعي. هذه ممرّات استراتيجيّة تخلق إيرادات بقدّر ما توفّر من مسافات مقارنةً بالممرّات البديلة. لكنهّا أيضاً فرصة لتأطير نموّ اقتصادات في موانئ تستقطب خطوط التجارة البحريّة. تبقى الأكثر استدامةً بينها هي تلك التي تربط بين مسارات تجارة عالميّة متنوّعة وبينها وبين التنميّة الداخليّة. هكذا تأتي أهميّة قطب دبي من ربطه التجاريّ بين الهند وباكستان وإيران والسعوديّة. في حين تأتي أهميّة السويس وعين السخنة وبور سعيد من تموضع الصناعات في بلدٍ ذي قدرات بشريّة كبيرة.

إقرأ على موقع 180  عندما تفضح فلسطين عجزنا.. وبلادتنا!

لكنّ دور الموانئ واستقطابها قد يتغيّران مع التحوّلات الاقتصاديّة – السياسيّة الكبرى. فها هو انفجار مرفأ بيروت (2020) يرمز إلى نهاية دوره المركزيّ الذي رسمه له الفرنسيّون منذ بداية القرن العشرين. ليس فقط تجاه سوريا والعراق، بل أيضاً تجاه الخليج. وها قد عاد دور حيفا الذي رسمه لها البريطانيّون ليس فقط للاقتصاد الإسرائيلي بل أيضاً لتجارة تركيا وغيرها مع الخليج.

صراعات المشرق العربي هي صراعات على الحاضر وعلى المستقبل. وليست فقط صراعات على الهويّات والحقوق، وفي طليعتها حقّ الفلسطينيين بالعيش الكريم على أرضهم وكذلك حقوق شعوب كافّة بلدان المنطقة. بل أيضاً صراعات حول التنمية والتجارة، الحاليّة والمستقبليّة، وخصوصاً حول “الريوع” الحاليّة وتلك التي يتمّ رسم مخطّطاتها المستقبليّة.

إنّ الصراع على غزّة لتدميرها وتهجير أهلها له بعد اقتصاديّ واستراتيجيّ. ولا شكّ أنّ الاسرائيليّين يجدون فرصةً لتأسيس أرضيّته. والصراع على اليمن له أيضاً بعد اقتصاديّ وتجاريّ. بعدٌ تفجّر اليوم بوضوح مع انخراط اليمن في الحرب. وكذلك الصراع على السودان. والحديث له أبعاده أيضاً على مستقبل سوريا ولبنان.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  في وداع طلال سلمان.. «إبن الدركي» على خطى «إبن البوسطجي»