“تزايدت في الفترة الأخيرة الأنباء الإسرائيلية التي تتحدث عن اندلاع صدامات بين وزير الأمن القومي المكلف بالمسؤولية عن الشرطة وحرس الحدود ومصلحة السجون، إيتمار بن غفير، وبين قادة الجيش ووزيرهم، على خلفية دعم بن غفير المطلق لكل عنصر عسكري أو في الشرطة، يرتكب جرائم، يتم توثيقها بالأشرطة، وتنشر في وسائل الإعلام وشبكات التواصل، حتى تزايد الحديث في الأجواء الإسرائيلية عن أن بن غفير وفريقه يتسببان بأضرار إعلامية فادحة لإسرائيل في الخارج. إلا أن الغائب عن هذا الصدام، بحسب ما ينشر من تقارير إعلامية، هو رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي من المفترض أن يكون منحازا إلى الجهاز الرسمي، وأن يدعم قادته، وهذا ما يعزز الاستنتاج بأن نتنياهو يرى في بن غفير حامية سياسية له ثابتة حتى بكل ثمن، إلا إذا وجد بديلا له، ولكن هذا ليس مضمونا على ما يبدو لنتنياهو حاليا.
في الأسبوع الماضي (شهر كانون الأول/ديسمبر)، انتشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية نبأ عن اندلاع صدام كلامي بين بن غفير، وقائد هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال هرتسي هليفي، خلال جلسة الطاقم الوزاري للشؤون الأمنية والسياسية، حينما احتج بن غفير على إقصاء جنديي احتلال اقتحما أحد مساجد جنين، وأطلق أحدهما عبر مكبر الصوت أناشيد دينية يهودية، وهما من نشرا هذه العربدة في شبكات التواصل. ورفض هليفي تدخل بن غفير في شؤون الجيش، ومحاسبته المعلنة للجنديين.
سبق هذا دعم بن غفير لعدد من عناصر قوات حرس الحدود في القدس المحتلة، الذين رصدتهم الكاميرات وهم يعتدون بشكل وحشي على مصور صحافي لوكالة أنباء “الأناضول” التركية، وهو يمارس عمله، واستمر الضرب على رأسه وهو ملقى على الأرض، ونقل على الأثر إلى المستشفى، وقررت الشرطة إقصاء العناصر إلى حين انتهاء التحقيق معهم، وهذا أيضا أزعج بن غفير، الذي اتصل بهم داعما.
ذات النهج تكرر مع الإعلان عن إقصاء 19 عنصرا من حراس السجون، متورطين بحسب ما نشر في مقتل أسير من القدس المحتلة، بالضرب المبرح، قبل نحو شهر، وطالب بن غفير بإعادة العناصر إلى عملهم مباشرة، بعد انتهاء التحقيق، مدافعا عما ارتكبوه. وهذا غيض من فيض.
ميليشيات مسلحة هنا وهناك
في المقابل، أكدت تقارير إسرائيلية عديدة أن بن غفير أطبق سيطرته الكلية على جهاز الشرطة، والانطباع الناشئ تقريبا في كل وسائل الإعلام أن التطرف الحاد المتزايد في جهاز الشرطة وحرس الحدود يأتي تمشيا مع توجيهات بن غفير، وحتى هنا من يرى أنه تطرف إرضاء له؛ وهذا ينقض كليا كل التقديرات التي كانت مع تولي بن غفير منصبه قبل عام بالضبط من نشر هذا التقرير، التي توقعت في حينه أن الجهاز المهني في الشرطة سيصطدم مع بن غفير، لكن هذا لم يحصل، على الرغم من سلسلة الاستقالات في قيادة الشرطة، على خلفية العلاقة الصدامية مع الوزير الجديد، لأنه بشكل عام فإن ممارسات الشرطة، وبشكل خاص ضد المجتمع العربي، وأيضا ضد قوى يهودية تعارض الحكومة، رغم قلتها ميدانيا، تتطابق مع توجهات هذا الوزير.
لربما أن القضية الأبرز في ما قام به بن غفير، ابتداء من يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أنه استغل الوضع الناشئ لينفذ ما سعى له في السنة الأخيرة، وهو إقامة ميليشيات مسلحة، يتمحور انتشارها في المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، والمدن الفلسطينية التاريخية الساحلية، التي باتت ذات أغلبية يهودية. وهذا المشروع ليس جديدا، بل كان مطروحا منذ سنوات على جدول أعمال الحكومات في السنوات الأخيرة، وبالذات بعد هبة الكرامة، في أيار/مايو 2021، وأيضا في ظل الحكومة السابقة، برئاسة نفتالي بينيت ويائير لابيد، لكن تعرقل تنفيذ المخطط ليكون ذراع احتياط للشرطة، بسبب نقاشات مع الأجهزة المهنية في الشرطة والمخابرات، وأيضا الجيش.
وحينما بات بن غفير وزيرا مسؤولا عن الشرطة، كانت الميليشيات المسلحة على رأس جدول أعماله، وطلب أن تكون الميليشيات تحت أمرته هو شخصيا كوزير، وشكّلت الحكومة لجنة فحص، توصلت إلى استنتاج وتوصية بأن تكون هذه الميليشيات تحت إمرة قيادة الشرطة. ومع إعلان الحرب ومعها حالة الطوارئ، استغل بن غفير الوضع الناشئ، وبموافقة حكومته، بدأت حملة تسليح واسعة النطاق، شملت ما بين 10 آلاف إلى 14 ألف شخص، مزودين بأسلحة رشاشة، وغيرها.
وجعل بن غفير توزيع الأسلحة مراسم رسمية بحضوره، يسلم فيها شخصيا الأسلحة، وهنا بدأت التحذيرات الكثيرة من جهات إسرائيلية، وبضمنها وسائل إعلام، بأن التسليح يتم لأشخاص غير مؤهلين، ومنهم من الممكن أن يشكلوا خطرا على السلامة العامة، ليس فقط ضد الفلسطينيين، في كل فلسطين التاريخية، بل أيضا ضد اليهود، وقد تردد مرارا مصطلح “حرب أهلية”، كما سنقرأ هنا لاحقا.
سطوة بن غفير على الشرطة
يقول الكاتب يهوشع برينير، في مقال له في صحيفة “هآرتس” يوم 14 كانون الأول/ديسمبر الماضي: “في نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر، يُنهي الوزير إيتمار بن غفير، السنة الأولى من ولايته في وزارة الأمن القومي، أي بعد رحيل جميع كبار المسؤولين في الوزارة تقريبا، واحدا تلو الآخر. ومن بينهم، غادر المدير العام، بعد تدخلات الوزير المتواصلة في عمله؛ بينما المدير العام بالوكالة، الذي عيّنه بن غفير، خلافا لموقف دائرة الخدمة المدنية الحكومية، سيغادر بعد أن تقرر أنه لا تتوفر لديه المعايير الأساسية للوظيفة؛ واستقالت نائبة المدير العام، بسبب خلافات حادة مع المدير العام بالوكالة. كما استقال رئيس شعبة الأسلحة النارية بعد أن تبين أن المقربين من بن غفير قاموا بتوزيع الأسلحة النارية دون صلاحيات، وغادرت نائبة مدير عام الوزارة للشؤون الاستراتيجية دون تعيين بديل”.
ويضيف برينير: “تشهد سلسلة من المصادر على أن الوزارة تدار بفوضى عارمة، والوزير يتدخل في عمل المهنيين لأسباب سياسية وينشر بينهم ترهيبا”. وقال أحد المصادر: “لا شيء موضوعياً، كل شيء عبارة عن حملة دعائية، وكل شيء يتم بالصراخ وفي ظل أجواء الخوف”. وقال مصدر آخر، إن الخطوط الفاصلة بين الحزب (المقصود حزب بن غفير “قوة يهودية”) والوزارة “لم تعد موجودة” (…).
فرضية الحرب الأهلية
يقول الكاتب والطبيب رافي فلدان، في مقال له في صحيفة “هآرتس” يوم 18 كانون الأول/ديسمبر: “هناك عنصران في مقدمة اهتمامات بن غفير: رؤية أرض إسرائيل اليهودية الكاملة، والكراهية الحاقدة للعرب. وأبرز أعماله الآن هو التوزيع غير الشرعي للأسلحة لكل من طلبه، والمشروع مستمر. ولم يتباطأ هذا المشروع حتى بعد الضجة الشعبية التي نشأت، ولا حتى مع استقالة رئيس شعبة الأسلحة النارية، احتجاجاً على منح موافقة فاضحة لمساعدي الوزير لتوزيع السلاح، رغم افتقارهم إلى التدريب والصلاحيات لذلك” (…).
ويستعرض الكاتب عنف المستوطنين لدى اخلاء بؤر استيطانية في الضفة الغربية، وإخلاء مستوطنات قطاع غزة وشمال الضفة الغربية في العام 2005. ويكتب: “تتلخص خطة بن غفير في إنشاء ميليشيات مسلحة، متشبعة بالإيمان المتقد، والتي سوف تشكل تهديداً حقيقياً لصناع القرار وقوات الأمن التي ستتولى تنفيذ عمليات الإخلاء. هذا ليس جمهورا صغيرا من المحاربين المتعصبين، الذين سيكونون على استعداد للقيام بأي شيء من أجل ضمان وجود أرض يهودية سليمة لإسرائيل من البحر إلى النهر (…).
ويختم الكاتب: “أعتقد أنه قد يأتي يوم تمهد فيه المعطيات الجيوسياسية الطريق للتفاهم مع الفلسطينيين. في هذا اليوم سنواجه عقبة تتمثل بقوى مسيانية هاذية ومسلحة. قد يكون هناك من سيجادل بأنني أعرض هنا رؤية مروعة غير واقعية. كنت أتمنى أن تتبخر فكرة كهذه، ولكن في هذه الأثناء يقوم بن غفير، بخطواته الحازمة، بصياغة خطة منظمة لصراع مسلح يصل إلى حد حرب أهلية”.
مستقبل بن غفير
يضع كثيرون في الحلبة الإسرائيلية مستقبل حكومة بنيامين نتنياهو الأساسية، من دون تحالف حكومة الحرب، تحت علامة سؤال، برغم أنها ترتكز على ائتلاف متماسك، بأغلبية مطلقة من 64 نائبا، وهناك من يطرح فكرة أن يتنازل نتنياهو عن بن غفير وكتلته، إذا وجد شريكا مستعدا لاستمرار الحكومة حتى خريف العام 2026، وهذا على أرض الواقع ليس قائما في التوزيعة البرلمانية الحالية.
ولا يرى نتنياهو أكثر إخلاصا لاستمرارية حكومته من كل الشركاء الحاليين، بمن فيهم بن غفير الذي يعرف هذه الحقيقة، ويستغلها بشكل كبير، برغم أنه بحسب استطلاعات الرأي، في حال تفككت الحكومة فإن الائتلاف القائم لن يكون قادرا على تشكيل الحكومة المقبلة، لكن هناك حقيقة يجب التأكيد عليها، وهي أن الأفكار التي يحملها بن غفير لا تقتصر عليه وعلى كتلته البرلمانية، فهي أيضا تمتد إلى كتلة “الصهيونية الدينية” التي يتزعمها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وأيضا تمتد بقوة إلى داخل كتلة الليكود بزعامة نتنياهو (…).
وقالت صحيفة “هآرتس” في مقال لأسرة التحرير، يوم 21 كانون الأول/ديسمبر: “إن إبقاء بن غفير في منصبه يشير إلى سوء تقدير رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يضحي بأمن إسرائيل من أجل بقائه السياسي، الذي يعتمد على أصوات اليمين المتطرف. ويتسبب هذا بضرر، لا يمكن لأي قدر من التفسيرات الإسرائيلية لوسائل الإعلام أن يصلحه. فالوزير ينشر ثقافة العصابات في الأجهزة الأمنية، في الشرطة والجيش، ويجبر رئيس الأركان، كما في الماضي، على إطفاء النيران الأخلاقية والأمنية التي يشعلها بن غفير مراراً وتكراراً” (…).
(*) راجع النص كاملاً على موقع “مدار” (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية).