لميقاتي مراحله.. و”جبهاته”!

كما هي الحرب في غزة، تتطور وتنتقل من مرحلة إلى أخرى، كذلك هو الحال مع مواقف رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي، الذي يقود دبلوماسية معقدة منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، يوم بدء جبهة المُشاغلة على الحدود الجنوبية اللبنانية، حتى يبدو الرجل وكأنه يمشي في حقل ألغام.

يهوى نجيب ميقاتي التفاصيل. يُدقّق ويسأل ويُجيب. أكسبته تجربته في رئاسة الحكومة خبرة لا يمتلكها أقرانه من أعضاء نادي رؤساء الحكومات. لم يعد يُعوّل على مقعد نيابي أو كتلة نيابية حتى يفوز برئاسة الحكومة. يريد للظرف أن يفعل فعله.. وهذا “الظرف” لا حدود له من بيروت إلى كل عواصم الدول الكبرى مروراً بعواصم دول الإقليم.

الكل يراقبه ويرقب كلماته حرفاً حرفاً. يتمحصون فيها ويتفحصونها بدقة متناهية لمعرفة إلى أيّ من الدفتين الموالية لواشنطن أو طهران تميل.

في بلد لا يتفق أبناؤه على شيء، بدءاً من الهوية إلى المواطنة وحتى على تحديد العدو من الصديق، وصولاً إلى تعيين آخر موظف في الإدارة العامة من الفئة العاشرة، كيف يُمكنك أن تُلزم نجيب ميقاتي بـ”وصفة معنية”؟

له صداقاته المحلية المترامية الأطراف في كل البيئات من دون إستثناء. مثلاً، يُمضي نهاره في حضرة مجلس المطارنة الموارنة ويتناول الغداء معهم ويتناوب مع بطريرك الموارنة بشارة الراعي في رفع البخور ودق جرس القداس. يُعرج على أحد مساجد طرابلس القديمة لأداء الصلاة والدعاء. يركب طائرته لأداء مناسك العمرة. يعود إلى بيروت في طائرته ليكون أول مستقبلي حسين أمير عبداللهيان وزير خارجية إيران.. ولا ضير في نيل بركة الضاحية الجنوبية بجلسة تمهيدية مع المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله الحاج حسين خليل.

شبكته مترامية الأطراف في لندن وواشنطن وباريس وروما والفاتيكان وبرلين وعمّان واسطنبول والدوحة وفي منتديات دافوس وميونيخ و”إنترناشيونال غرايزس غروب” (مجموعة الأزمات الدولية).

في الأيام الأولى من أيام “طوفان الأقصى”، كان قلقاً للغاية على لبنان. مع توالي زيارات الموفدين الأجانب على بيروت، من وزيرة خارجية فرنسا السابقة كارتين كولونا إلى وزيرة خارجية ألمانيا الشابة آنالينا بيربوك والديبلوماسي الأوروبي العريق جوزيب بوريل وبينهم عشرات الموفدين الأجانب، وآخرهم الموفد الأميركي آموس هوكستين، راح منسوب القلق على الموقف في جنوب لبنان يتراجع تدريجياً. في المرحلة الأولى، صارح رئيس الحكومة اللبنانيين والعالم أجمع، بأن حكومته لا تملك زمام الأمور على الجبهة الجنوبية، وأن قرار السلم والحرب خارج سلطتها، وفي آخر تصريحات المرحلة الثانية، لم يتردد ميقاتي في القول: “قرار السلم بيدنا أما قرار الحرب فهو بيد إسرائيل”. هذا الانتقال لم يكن عفوياً، إنما مدروساً على وقع اتصالاته ولقاءاته مع الموفدين الدوليين، تمهيداً للانتقال إلى المرحلة الثالثة والأهم، والتي تمثلت بإطلاق ميقاتي، يوم الجمعة الفائت، في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، موقفاً متقدماً جداً بقوله: “لقد أبلغنا جميع الموفدين بأن الحديث عن تهدئة في لبنان فقط أمر غير منطقي، وانطلاقاً من عروبتنا ومبادئنا، نطالب بأن يصار في أسرع وقت ممكن إلى وقف إطلاق النار في غزة، بالتوازي مع وقف إطلاق نار جدي في لبنان. نحن لا نقبل بأن يكون إخوة لنا يتعرضون للإبادة الجماعية والتدمير، ونحن نبحث فقط عن اتفاق خاص مع أحد”.

غزل كثيرون ونسجوا على موقفه الأخير قبل أن يُسارع من منتدى دافوس لتوضيحه في مقابلة أجرتها معه “سكاي نيوز”. لكن دعونا نحاول أن تقرأ أكثر موقفه الذي أطلقه من جلسة مجلس الوزراء وصار جزءاً من محضر رسمي للحكومة اللبنانية:

أولاً؛ كان الّلافت للإنتباه أن نجيب ميقاتي استند بموقفه المتضامن مع أهل غزة إلى العروبة، لكن اليوم استحالت العروبة عند كثيرين إلى “العوربة” حسب تعبير نوفل ضو، المدير التنفيذي لـ”رؤية العوربة” (COSMOARABISM VISION بالإنكليزية)، وهذه حقيقة وليست كلاماً إنشائياً أو تلاعباً باللفظ. و”العوربة” لا تدعو إلى التضامن مع غزة أو إلى نصرة أهلها، بل تمنع التضامن معها، في الوقت الذي تعجّ فيه الساحات الأوروبية والأميركية بالمتظاهرين دعماً وتضامناً مع غزة وتنديداً بالعدو الإسرائيلي. لكن من دون أدنى شك، قصد رئيس الحكومة العروبة التي نعرفها بمعناها الحقيقي، وهذه تُسجل له من موقعه كمسؤول عربي غرّد خارج سرب النظام الرسمي العربي في هذه اللحظة بالذات.

ثانياً؛ أما المبادئ التي أشار إليها رئيس الحكومة اللبنانية، والتي تحمل تأويلاً أكثر، لن يضعها “المُفسّرون” في خانة المبادئ الأخلاقية أو الإنسانية أو الدينية (الإسلامية والمسيحية على حد سواء). بل ذهب بها البعض بعيداً، واعتبرها تأسيساً لليوم التالي لبنانياً بعد حرب غزة، بما سيحمل معه من متغيرات جذرية وربما تأسيسية وما سيرافقها من تموضعات جديدة لمختلف القوى والشخصيات السياسية في لبنان، كما في كل دول الجوار الفلسطيني.

ثالثاً؛ ربط جبهة الجنوب اللبناني بغزة انطلاقاً من العروبة والمبادئ المشار إليها كانت القشة التي قصمت ظهر القوى المناوئة لحزب الله، وأولها رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بتحسّره على رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق فؤاد السنيورة و”مواقفه الشجاعة” في حرب تموز 2006، ومن ثم مجاهرته بأن كلام ميقاتي “لا يُعبّر عن موقف غالبية اللبنانيين ولا إرادتهم بل يعكس موقف حكومة محور الممانعة التي يترأسها”.. كذلك رأى بعض أقلام الفريق المناوئ للمقاومة “أنّ أخطر ما في هذا الموقف هو إلغاؤه المسافة الفاصلة بين موقف الحزب العقائدي من الصراع ونظريّة “وحدة الساحات” وبين موقف الحكومة اللبنانية”.

إقرأ على موقع 180  كورونا ويوم المرأة.. العالم سجن عائلي!

رابعاً؛ لم يتوقف الانزعاج من موقف ميقاتي على قوى الداخل بل انسحب على الولايات المتحدة التي اعتبرته مخالفاً للجهود التي تقوم بها واشنطن من أجل وقف إطلاق النار على الجبهة الجنوبية، كما جاء في تسريبات الإعلام اللبناني الممانع. وفي المقابل، لاقى كلام رئيس الحكومة قبولاً وترحيباً لدى أوساط لبنانية وازنة، بينها رئيس مجلس النواب نبيه بري وقيادة حزب الله التي تتفهم هوامش رئاسة الحكومة اللبنانية لكن كان لا بد من توجيه التحية إلى ميقاتي على “موقفه المتقدم”، سياسياً وأخلاقياً ووطنياً وقومياً ودينياً. وهذا الموقف البديهي لا يمر مرور الكرام عند حزب الله خصوصاً وأنه يصدر عن العضو الأكثر أصالة في نادي رؤساء الحكومات الحاليين في لبنان.

هل كان ميقاتي يريد القول أكثر مما قال؟

من يُدقّق في مواقفه لشبكة “سكاي نيوز” في منتدى دافوس يجد الجواب:

 يقول رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان إنه كان يدعو منذ اليوم الأول لحرب غزة إلى وقف إطلاق النار فوراً، لأنه يُشكّل حجر الزاوية لبداية نوع من الاستقرار الدائم، سواء في ما يتعلق بثبيت القرار 1701 واستكمال تطبيقه كاملاً، أو من ناحية إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. بعد 70 عاماً من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا نزال ندور في الدوامة نفسها. الحرب الحالية قد تنتهي لفترة زمنية ثم تعود وتتكرر من جديد وهذا غير مسموح به بعد الآن، فنحن نتطلع لاستقرار دائم في كل المنطقة بدءا من الجنوب اللبناني وإلى حل القضية الفلسطينية.

من الواضح أن ميقاتي أراد بموقفه هذا أن يطوي صفحة السجالات التي رافقت تصريحه الأخير، هل نجح في تأكيد المؤكد أم أن الأمر يحتاج إلى توضيحات أكثر..

لننتظر الآتي من مقابلات أو جلسات.. لعلنا نجد الجواب اليقين.

Print Friendly, PDF & Email
مهدي عقيل

أستاذ جامعي، كاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  للبنانيين أقول: حلّ زمن الصيام عن "التغيير"!