النّظرة الصّوفيّة.. أيضاً، مفتاح “الإرادة الحُرّة”؟ (٣)

لا شكّ في أنّ فرضيّة الإرادة الحُرّة (Free Will) هي في أحسن الأحوال صعبة التّرجيح و/أو الاثبات منطقيّاً وعقلانّياً وتجريبيّاً[1]. وفي أسوأ الأحوال، إن جاز التّعبير أيضاً، كما رأينا مع سبينوزا: فهي تُشكّل وهماً كبيراً من بين الأوهام التي يرزحُ الإنسان تحت حُكمها منذ بلغَ هذا الحدّ من اكتمال وَعيِه - على الأقلّ - في هذا العالم الظّاهر أمامنا وفي هذه الحياة الدّنيا العجيبة.

ولكن، هل يتوجّب التّوقّف عند هذا الحدّ بالنّسبة إلى المُفكّرين المُعاصرِين:

(١) فإمّا أخذٌ بصحّة فرضيّة الـ(Free Will) المُبين، بلا دليلٍ مُقنعٍ واقعاً وفي عمق الأمور، كما يفعل الكثير من كبار الفلاسفة حتّى؛

(٢) أو أخذٌ بعدم صحّة هذه الفرضيّة عموماً، وبالتّالي القبول بالاستسلام الكُلّيّ أو ما يُشبهه.. أو القبول، أقلّه، بأنّ الحياة في الحقيقة “تحدث فقط في داخل أذهاننا وداخل صدورنا”، وبالتّالي القبول بأنّه لا أمل في تغيير “الواقع الخارجيّ” لحيواتنا أبداً، إن على المستوى الفرديّ أو على المستوى الجماعيّ؟

في سبيل مُحاولة الإجابة على هذا السّؤال، لنبدأ أوّلاً بتجربةٍ من قِبَلِنا لنقد الأطروحة السّبينوزيّة المذكورة حول هذا الموضوع. فما هي الزّوايا النّقديّة الأساسيّة التي يتوجّب ذكرُها برأينا وفي هذا الإطار؟

مع التّبسيط الشّديد، أو تبسيط التّبسيط ربّما، يمكن القول إنّ الفكرة النّقديّة الأساسيّة التي يقوم عليها هذا الجزء، تعتبر:

(١) أنّ سبينوزا، بسبب نظرته الذّهنيّة المُهَيمِنة عمليّاً، وبرغم تبنّيه ظاهراً لنوع من أنواع فلسفة “وحدة الوجود”: قد بالغ في واقع الأمر في الفصل (العمليّ)[2] ما بين الوجود/الكون/الله من جهة، وبين الانسان كمَوجود ضمن هذا الوجود نفسه، من جهة ثانية. وسنرى عجَبَ بل وجنونَ الاعتقاد بأنّ هناك وجوداً “منفصلاً” أو “آخر” (ظاهريّاً أو باطنيّاً).. مع الوجود نفسه، في حقيقة الأمور وليس فقط على المستوى الذّهنيّ-المفاهيميّ! (هذه النّقطة العميقة تتخطّى برأينا إذن النّظرة الذّهنيّة-المفاهيميّة، إلى أصل الوجود أي إلى عمق البُعد الأنطولوجيّ للأشياء).

(٢) وأنّ سبينوزا، بالتّالي، قد بالغ أيضاً في النّوع عينه من الفصل، هذه المرّة، وضمن نفس الفكرة العامّة (وأيضاً، برغم ادّعائه بأنّه يتموضع ضمن نظرة واحِديّة للوجود): بين ما يقبلُهُ هو عمليّاً على أنّه “الصّفات الأزليّة” لهذا الوجود/الكون/الله من جهة، وبين “صفات” الإنسان من جهة ثانية. ومن بين هذه الصّفات الأزليّة، طبعاً: الوعي، العقلانيّة (والذّكاء) إن شئت، والإرادة. وهل يتّصف الوجود المَحض – ولا وُجودَ غيرُه إذن – بهذه الصّفات أزليّاً، ثمّ يظهر موجود كالإنسان، ضمنه، ذو درجة معيّنة من الوعي عينِه.. فيتّصف بصفات جوهريّة مُنفصلة عن هذه الصّفات الأزليّة (أو ما يُماثلها أو ما يُشبهها)؟

أمّا ادّعاء (بعض) السّبينوزيّين بأنّ “الإله الكونيّ السّبينوزيّ” عنده إرادة، ولكنّها ليست حُرّة بالمعنى المقصود في هذا النّقاش (أي أنّها مُقيّدة واقعاً)، فهو ادّعاء يحمل في طيّاته مشاكل جوهريّة، نُورد منها ما يلي:

أوّلاً؛ هل يُمكننا حقّاً الحديث عن “إرادة” حقيقيّة.. بغير “حُرّيّة” – ولو كامنة، غير مُتجلّية في كلّ شيء – تتّصف بها هذه الإرادة، خصوصاً إذا ما تحدّثنا عن الكون الكامل أو الكون مُطلَق الكمال عينه؟ هذا النّوع من التوجّهات يضع كمال هذا الكون-الإله في موضع التّشكيك من أساسه، وكذلك في ما يخصّ الذّكاء والوعي (أيّ ذكاء بلا حرّيّة ولو كامنة)؟

وهذه مُشكلة لا تتوقّف عند “صفات الإله”، بل يقع سبينوزا وأتباعه فيها أيضاً عندما يتحدّثون عن الإنسان بطبيعة الحال[3]: فمن جهة، يُقال لهذا الأخير إنّه لا إرادة حُرّة له أبداً، وإنّه ليس بالإمكان إلّا ما كان.. ثُمّ يُواجه الانسان عينه بمجموعة من الأشياء التي عليه “فعلها” أو “عدم فعلها” أو “تجنّبها” (إلخ.)! وقد بدأنا بذكر هذه النّقطة في الجزء الأوّل، وسنعود إليها في ما يلي.

ثانياً؛ وضمن سياق ليس ببعيد أبداً عن الأوّل، هل يُمكن الحديث حقيقةً أو الإيحاء عن/حول “إله كونيّ” أو “كون إلهيّ” كامل الأسماء والصّفات، ثمّ الادّعاء بأنّه لا إرادة له عمليّاً، أو أنّه هو نفسه، سجين قوانين “ضروريّة الطّابع” – حتّى في ذاته – منها ما تحدّثنا عنه آنفاً؟ باختصار، هناك تناقضٌ أكيد برأيي، في النّظرة السّبينوزيّة العامّة: (١) ما بين تصوّر الكون-الإله أو الإله-الكون على أنّه ذكيّ وكامل (وهو تصوّر يَسهل استنباطه عموماً من خلال الخطاب السّبينوزيّ. على سبيل المثال، يظهر ذلك بوضوح ضمن إطار نقاش ما يُسمّى “بالبرهان الوجوديّ أو الأنطولوجيّ” الذي يعتبرُه الكانطيّون ولوك فيري من الأسس الضّمنيّة التي يقوم عليها الصّرح السّبينوزيّ العظيم)؛ (٢) وبين الإيحاء عموماً (وأحياناً التّصريح) بأنّه هو نفسه، أي “الإله”، قد يكون بلا إرادة.. أو قد يكون ذا إرادة غير حُرّة (أي، عمليّاً، بلا إرادة أبداً كما رأينا).. وما إلى ذلك.

ثالثاً، بشكل عامّ، لا شكّ في أنّ جزءاً كبيراً من هذه المصاعب والتّناقضات، إنّما يقع فيها الفكر السّبينوزيّ عموماً بسبب مُقاربته ذات الطّابع الذّهنيّ و”المَاهَويّ”، وبالتّالي الخَطّيّ (Linéaire) بشكل أساسيّ. إنّها مُقاربة ذات طابع ذهنيّ وماهَويّ وخَطّي غالب جدّاً.

وهذا ما سنعود إلى تفصيله أكثر في ما يلي، حيث أحاول نقاش هذه الزّاوية النّقديّة الأساسيّة، والتي أعتقد أنّها مُفتاح مفاتيح لُغز أو سِرّ الـ(Free Will) العجيب بشكل عامّ.. وهي بالطّبع، وكالعادة، وعن قناعة عميقة ومُتجذّرة عندي اليوم: تنطلق من نظرة صوفّية واحِديّة للوجود، وتتوافق مع المدارس الفلسفيّة الوجوديّة الأساسيّة (مع عدد من الاختلافات في بعض المواضيع أحياناً.. وبالطّبع).

***

أوّلاً: الوجود والله والإنسان (إلخ..).. ليست “مفاهيماً” (Concepts ou Essences)، بل هي “وجود” (Etre, Being) أوّلاً!

تحدّثنا في ما سبق من قَول ومن مَقال حول خطورة أن نرى، بشكل عامّ، الماهيّة (Essence) على أنّها سابقة على الوجود (Être ou Existence)؛ أو مع التّبسيط: خطورة أن نرى الأشياء، أوّلاً و/أو غالباً، من خلال – ما نتصوّر غالباً أنّها – ماهيّاتها.

أو لنقلْ، بتعابير أكثر معاصرةً لنا ربّما: لقد سبق أن ناقشنا خطورة أن نحاول الإحاطة بادراك، وبفهم، وربّما بتفسير الوجود وتجلّياته.. من خلال المفاهيم والتّصوّرات الذّهنيّة التي نبنيها – من خلال ذهننا إذن – حول هذه الأخيرة. المسألة خطيرة جدّاً، وأكثر ممّا نتخيّله عادةً.

ومن خلال استذكارها، نأمل بأن يقتنع القارئ العزيز معنا بأنّنا نقترب حقيقةً من العثور ربّما على “مفتاح” معضلة الـ(Free Will) المُبين (ضمن نقد الطّرح السّبينوزيّ، وأبعد من ذلك بالطّبع).

من غير المنطقيّ القبول بوهم أنّ “وجوداً” يخرج من “عدم” كما يُوهِم ذهننا أيضاً في الأعمّ الأغلب. وهذا الوهم المذكور إنّما يوصل أيضاً إلى وهم الفَصل عينِهِ كما نرى: فكأنّما هناك “وجوداً”، كالإنسان مثلاً، قد خرج في وقتٍ مُعيّن.. من “خارج الوجود”، وله بالتّالي وجودٌ مُنفصل. كلّا: الوجود هو الوجود، منذ الأزل.. والعدم هو العدم ولم يزلْ عَدَماً وسيبقى كذلك

يُمكننا ذكر زوايا عديدة لهذه الخطورة ومناقشتها. أمّا بالنّسبة لما يتعلّق بموضوعنا، فأعتقد أنّه ينبغي التّوقّف عند نقطَتَين رئيسيَّتين واقعاً:

الأولى؛ إنّ رؤية الوجود والموجودات من خلال نظرة “ماهَويّة” غالبة إن جاز التّعبير، تُدخلنا غالباً أيضاً، إن لم يكن دائماً: في وهم خطير جدّاً، ورئيس، ألا وهو وهم الإثنَينيّة (Dualité). وقد سبق أن فصّلنا الحديث في العلاقة ما بين طريقة عمل عقلنا الذّهنيّ من جهة، وبين مفهوم الإثنيّنيّة هذا (بالإضافة إلى مفهوم الضّدّيّة طبعاً) من جهة ثانية.

مع التّبسيط: لا يُمكن لذهننا (Mental) هذا أن يُدرك الأشياء إلّا ضمن إطار “وهمٍ” يُفيدُ لهُ بأنّها كثيرة (أو مُتكثّرة، أي: من الاثنَين.. وصعوداً) في حقيقة الأمور.. وبالتّالي أنّها منفَصلة عن بعضها البعض بشكل حقيقيّ. لا يفهم الذّهنُ الحقائقَ والأشياءَ إلّا.. من خلال رؤيتها كثيرة.. ومنفَصلة عن بعضها البعض.

فكِّر معي جيّدا في الموضوع: هل هناك ما يُثبت أنّ الموجودات “مُنفصلة” في حقيقة الأمور؟ خُذ المستوى الفيزيائيّ مثلاً: خارج الذّهن، إن جاز التّعبير، ما الذي يضع فاصلاً بين شيء ما وشيء “آخر”، بين موجود ما وموجود “آخر”؟

من شأن الحدّ الأدنى من التّأمّل والتّفكّر، برأيي، أن يُبيّن لنا، في الفيزياء أو في ما فوق الفيزياء: أنّ الفصل، والحدود.. والكَثرة والإثنينيّة هي أوهام على الأرجح (أو أبعد من ذلك كما يعتقد كثيرٌ من الفلاسفة والمُتصوّفين حول العالم، وقد سبق وتحدّثنا في هذا الموضوع).

هذا الذّهن هو الذي يوهمنا بالتّالي، مع التّبسيط والاختصار، وفي ما يعني موضوعَنا بشكل أساسيّ: بأنّنا مُنفصلون في “حقيقة” الأمور عن باقي الموجودات وعن الوجود نفسه.

وهذا الفصل، المتأتّي إذن من ميكانيكا الذّهن إن جاز التّعبير: هو الذي يجعل سبينوزا برأيي يقع كغيره من الفلاسفة العقلانيّين تحديداً.. بالتّالي، وعمليّاً، وضمنيّاً في أحيان كثيرة عند سبينوزا كما شرحنا، في فخّ الفصل (Séparation) ما بين إرادة الله (أو إرادة الكون الكامل الواعي هذا) ووعيه وقُدرته من جهة، وبين إراداتنا ووعينا وقدراتنا “كمُجرّد” تجلّيات له في حقيقة الأمور وبواطنها الباطِنة من جهة ثانية.

ففي ظلّ غياب الفصل: لا تكون الموجودات، في حقيقَتِها، إلّا جزءاً من هذا الوجود-الكُلّ. أو يُمكن الحديث، على غرار عرفاء المشرق والإسلام، وضمن نفس المعنى: عن أنّ الموجودات، في حقيقتها، ما هي بالتّالي إلّا تجلّيات لهذا الوجود-الكُلّ. طبعاً، إنّه تجلٍّ (Manifestation) أمام وعينا.. كموجودات واعِية بطبيعة الحال (ولا يُمكن فصل وعينا، في نفس الإطار، عن وعي الوجود نفسه.. لكن نترك هذا الجانب “السّرّي” العجيب Mystérieux لمناسبات أخرى).

إقرأ على موقع 180  بغداد وبيروت معاً.. فوضى أم تسوية؟

عزيزي القارئ؛

 إنّ “وجودَ إثنَين” في هذا العالم، مسألة فيها نَظَر، مهما تعجّبتْ حواسّنا الجسديّة ومهما تعجّبَ ذهنُنُا. وإدراك هذه الحقيقة تذوّقاً ومُشاهدةً هو هدف أهداف علوم وطُرق التّأمّل الصّوفيّ والرّوحيّ، منذ آلاف السّنين، وعند كثير من الشّعوب (ومنها مثلاً العلوم والطّرق اليوغِيّة Yogiques في أقصى الشّرق العجيب).

باختصار، لنُركّز على الفكرة التي لطالما تحدّثنا عنها.. وصولاً إلى هذا المقال. الفكرة هي أنّه: في حقيقة الأمور (ترجيحاً وحدساً واعتقاداً): لا وجودَ إلّا.. للوجود الأزليّ نفسه هذا. إنّه الوجود الواحد الأزليّ نفسه.. “الموجود” منذ الأزل.

أمّا ما هو عَدَم فهو عَدَم، ومن غير المنطقيّ القبول بوهم أنّ “وجوداً” يخرج من “عدم” كما يُوهِم ذهننا أيضاً في الأعمّ الأغلب. وهذا الوهم المذكور إنّما يوصل أيضاً إلى وهم الفَصل عينِهِ كما نرى: فكأنّما هناك “وجوداً”، كالإنسان مثلاً، قد خرج في وقتٍ مُعيّن.. من “خارج الوجود”، وله بالتّالي وجودٌ مُنفصل. كلّا: الوجود هو الوجود، منذ الأزل.. والعدم هو العدم ولم يزلْ عَدَماً وسيبقى كذلك (تذكّر، مثالاً لا حصراً: قاعدة عدم اجتماع ولا ارتفاع النّقيضَين المنطقيّة).

علينا أن نحذرَ أوهامَ الذّهنِ أبي الحَدِّ والضِّدِّ والعَدِّ هذا.. والأقرب إلى ترجيحنا واعتقادنا – والمنسجم مع تجاربنا التأمّلّيّة – هو أنّه، في حقيقة الأمور، لا حَدٌّ ولا ضِدٌّ ولا عَدّ.

عند هذا المستوى، تذكّر معي هاتَين النّقطتَين إذن:

  • حسب هذه النّظرة التي نُدافع عنها في كلّ ما نكتب تقريباً، فإنّ فصل الإنسان كموجود عن الوجود الحقيقيّ الواحد – ولا وجودَ لغيرِهِ حقيقةً وواقعاً وليس فقط ذهناً ومفهوماً كما عند سبينوزا – هو الوهم العظيم والهَذَيان المُبين.. منطقيّاً، وعقلانيّاً، وروحيّاً، وتجربةً تأمّليّة.. مع ترك باقي التّفاصيل لمناسبات أُخرى سابقة أو مستقبليّة.
  • وبالتّالي، فالصّفات الأساسيّة التي يحملها هذا الإنسان، ومنها الوعي – والذّكاء والعقلانيّة إن شئت – والإرادة والقدرة (إلخ..)، لا يُمكن إلّا أن تكونَ أيضاً.. تجلّياتٍ او انعكاساً لصفات الوجود الحقيقيّ الواحد الأزليّ هذا نفسه[4]. فهل يُمكن القبول بظهور وعي وذكاء الانسان من العدم أو بشكل منفصل.. انطلاقاً ممّا سبق؟ وكذلك الأمر بالنّسبة إلى إرادة هذا الانسان.. وقُدرته، الجزئيّتَين إذاً بطبيعة الحال، على توجيه وعيه وتغيير بعض من مجريات الأمور والأحداث في الأكوان الظّاهرة لنا والباطنة؟

هنا، أعتقد بأنّنا نبدأ نرى، وبوضوح: الوجه الجوهريّ لنقدنا للصّرح السّبينوزيّ المُبين ولأمثاله.. هذا الصّرح الذي يذهب بعيداً في وهم الإثنينيّة طبعاً، وفي وهم الفصل “الذّهنيّ” العمليّ (١) ما بين وجود الانسان، والوجود؛ (٢) وما بين صفات هذا الانسان.. وصفات الوجود نفسه إذن (وهي صفات الكمال طبعاً، وبالضّرورة، ولكنّ لهذا حديثاً آخر نتناقش فيه مع لوك فيري وغيره[5]).

لذلك، أرجّح وأعتقد أنّ القول (مع سبينوزا أو غيره): بأنّ الوجود نفسه واعٍ وذو إرادة وذو قُدرة.. مع نفي أحد هذه الصّفات عن الإنسان كُلّيّاً: ضربٌ من الخطأ (الوجوديّ و) المعرفيّ، وضربٌ من الوهم بشكل عامّ. ولكن لنعدْ إلى سبينوزا تحديداً:

الثانية؛ أمّا الزّاوية الأساسيّة الثّانية لهذا الخطر المذكور، فهي في المبدأ أسهل وأقرب إلى فهمنا كبشر من الأولى. فاعتماد التّصوّرات الذّهنيّة في سبيل فهم الواقع، يُوهمنا عموماً بأنّنا فهمناه في كلّيّته من جهة. ومن جهة ثانية، فهو يوقعنا، في نفس الإطار: في فخّ اسقاط قوالب وقواعد وميكانيكا الذّهن (La “mécanique” du mental) – ونواقصه المعرفيّة أيضاً – على الواقع.

وأعتقد أنّ تفكير سبينوزا العامّ والمذكور في هذا السّلسلة: يقع في الفخَّين معاً، واللَّذَين يتعلّقان أيضاً، وبالتّأكيد، بالنّقطة المركزيّة الأولى حول الوجود ووحدة هذا الأخير (أنطولوجيّاً إذن بشكل خاصّ، وليس فقط ذهنيّاً ومفاهيميّاً؛ راجع ما سبق).

والأخطر في ما يعني مسألة الإرادة الحرّة هذه: هو الفخّ الثّاني بشكل خاصّ لأنّ التّفكير الذّهنيّ-المَاهَويّ-المفاهيميّ البحت، في الأعمّ الأغلب، إن لم يكن في المطلق: يرى الوجود والموجودات والأشياء.. بشكل خَطّيّ (Linéaire). وقد سبق ورأينا أنّ التّفكير الخطّيّ لا يُمثّل واقع الوجود والموجودات أبداً.

ومن مثل ذلك: توهُّمُنا الذّهنيّ بأنّ الزّمنَ إنّما يسير بشكل خطّيّ، أو تخيّلنا التّوهّميّ لقانون سببيّة من النّوع الخطّيّ (“أ” تسبّب “ب” في اللّحظة الأولى، ثمّ “ب” تسبّب “ج” في اللّحظة الثّانية أي بعد “انقضاء” الأولى، و”ج” تسبّب “د” في اللّحظة الثّالثة أي بعد انقضاء الثّانية.. إلى نهاية أو لا-نهاية السّلسلة الخطّيّة الذّهنيّة المنشأ والطّابع والقوالب والقواعد إلخ..).

من قال إنّ الزّمن يسير بشكل خطّيّ؟ من قال إنّ قانون السّببيّة يعمل بشكل خطّيّ أيضاً؟ ماذا لو كان الزّمن والسّببيّة.. يتجلّيان على شكل قفزات مثلاً، كما يعتقد بعض الفلاسفة (ومنهم ديكارت من زاوية تجدّد الخَلق) وعموم الصّوفيّة، وكما بدأ بعض مُنظّري ميكانيك الكمّ (Mécanique quantique) بالتّلميح بل وبالإثبات؟

من قال إنّ السّببيّة تعمل بهذه الطّريقة الذّهنيّة المُبسّطة؟ أيضاً في مجال ميكانيكا الكمّ، اكتشف العلماء، خلال القرن العشرين خصوصاً، أنّ حركة الجزيآت، وباختصار:

(١) لا تتحكّم بها الحتميّة (والخطّيّة) المُتوهّمة عموماً على المستوى الكونيّ-الكوسمولوجيّ، بل الواضح الجليّ هو العكس؛

(٢) وليست هذه الحركة بحيث يُمكن الاثبات أصلاً أنّ الجُزيء الكذائيّ.. ينتقل في “مسيره” من المكان “أ” إلى المكان “ج” من خلال المرور “بموقع وسيط هو ب”. ميكانيكا الكمّ قد تكون هي المجال النّموذجيّ الذي ضرب، وبالتّجربة العلميّة: اعتقاداتنا الذّهنيّة القديمة جدّاً المتمحورة حول يقينيّة وحتميّة حركة الموجودات، لا سيّما منها الصّغيرة جدّاً.. وقد ضرب بالتّأكيد توهّمنا لطابعها الخطّيّ عموماً.

باختصار، في ترجيحي وفي اعتقادي: إنّ اعتماد نظرة خطّيّة للزّمن (وبالتّالي لطريقة عمل ما نسمّيه عموماً وتبسيطاً بقانون السّببيّة).. يسجن صاحبَه، وهذا حال سبينوزا عموماً، في عالَمٍ ذهنيّ-مفاهيميّ إذن، لا يُمكن فيه بالتّالي – وبالضّرورة كما رأينا – ادراك وفهم موقع “إرادة” الانسان في مقابل “إرادة” الوجود أو العالَم. وقد بدأنا بالإشارة إلى أنّ وجوداً أزليّاً وواحداً وذكيّا.. وكاملاً، وبالمطلق: لا يُمكن ألّا يتّصف نفسُهُ بالإرادة (ولو بالقوّة، Potentiellement).. وإلّا لتناقض ذلك مع فرضيّة الكمال من أساسها! أمّا نفي “الوعي” و/أو “الكمال” عن الوجود نفسه من أساسهما، فيُدخلنا في نقاش من نوع آخر خارج الاطار السّبينوزيّ العامّ حسب فهمي وكما أسلفت.

أعتقد، بصراحة، أنّنا نقترب هنا بالتّأكيد، وجدّيّاً: من الوصول إلى مُفتاح مُحتمل لهذا اللّغز، لُغز الـ(Free Will) العظيم. وهو مُفتاح من النّوع الصّوفيّ-العرفانيّ من جهة، والوجوديّ من جهة ثانية.. وأعتقد حقّاً بجدّيّته وبقوّته.

قبل انهاء هذه السّلسلة واختصار أهمّ النّتائج التي يُمكن اقتباسها منها إذن، سوف نمرّ، في جزئها التّالي، ببعض الزّوايا النّقديّة الأخرى التي يُمكن ذكرها في ما يعني هذا الصّرح السّبينوزيّ المُبين. (يتبع)

[1] نعم، علينا الاعتراف عموماً بذلك، لسبينوزا الكبير، رغم عجب القضيّة بالنّسبة إلى الذّهن الانسانيّ على وجه العموم أيضاً (خصوصاً من وجهة نظرنا كمعاصرين).

[2] ليس فقط المعرفيّ (Epistémologique)، بل وتحديداً، الوجوديّ (Ontologique). تذكّر معي على الدّوام: سبينوزا يتبنّى عموماً وفي الظّاهر نظرة واحديّة، ولكن، ان جاز التّعبير، يتبنّاها من زاوية ومن خلال أدوات “ذهنيّة” الطّابع والهيمنة في الغالب. لذلك، سنرى أنّه، عمليّاً، يقع حُكماً في “الفصل”… رغم حديثه – “الذّهنيّ” في الغالب إذن – عن نظرة واحديّة للوجود والموجود.

[3] لاحظ تنقّلنا المستمرّ بين صفات الإله وصفات الانسان في هذا النّوع من الأبحاث.. خصوصاً ضمن عالم “وحدة الوجود” بشكل عامّ. وهنا يكمن أحد النّقاط الأعمق في ما يخصّ فهم حديثنا حول الارادة الحرّة، بين صفات الاله وصفات الانسان.

[4] لنتذكّر هنا أنّنا ضمن عوالم ديكارت وسبينوزا ولايبنيتز عموماً.. وليس موضوعنا هو نقاش كلّ تفاصيل صفات هذا الوجود الأزليّ ولهذا حديث آخر إن شاء الله (أو إن شاء: الوجود الأزليّ الواعي الكامل الواحد إلخ.).

[5] راجع الملاحظة السّابقة.

(*) راجع: الجزء الأول: مفاجأة سبينوزا.. هل نحنً “مُخيّرون” حقاً؟ ؛ الجزء الثاني: إلى الشيخ سبينوزا.. هل بيدنا “فعل” شيء؟

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  بغداد وبيروت معاً.. فوضى أم تسوية؟