رسائل “ردع” أميركية لطهران.. ونتنياهو يقترب من ساعة الحقيقة

عبر الديبلوماسية والتصعيد، تُحاول إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تحقيق اختراق في الشرق الأوسط، بما تبقى لها من وقت من الآن وحتى الإنتخابات الرئاسية في 5 تشرين الثاني/نوفمبر، وظيفته وقف حرب غزة وفتح "الأفق السياسي" أمام الفلسطينيين وإطلاق مسار التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وخلق بيئة أمنية واقتصادية في المنطقة تخلق توازناً مع إيران ومن خلفها الصين وروسيا. 

بالنسبة للإدارة الأميركية كل شيء يبدأ من غزة. الهدنة الطويلة نسبياً، ولو كانت مؤقتة، هي السبيل الوحيد لامتصاص الزخم العسكري الإسرائيلي وإنجاز عملية تبادل الأسرى والرهائن. ومن هنا تنشط الديبلوماسية الأميركية؛ مستشار البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك يكاد لا يغادر دول المنطقة إلا لتقديم تقاريره إلى بايدن والعودة مجدداً، ووزير الخارجية أنطوني بلينكن يبدأ اليوم جولته السادسة إلى المنطقة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي إي” وليم بيرنز يضع اللمسات الأخيرة في باريس يوم الإثنين الماضي على اتفاق الهدنة المقترح بالتفاهم مع رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ورئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (“الموساد”) ديفيد برنياع، أما مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان فيثابر على الاتصال بنظرائه في المنطقة وخصوصاً في السعودية، ناهيك بالحراك الذي يقوم به الموفدان الرئاسيان الأميركيان آموس هوكشتاين وديفيد ساترفيلد في الشرق الأوسط.

وبحسب تعبير وليم بيرنز وأنطوني بلينكن ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، هي اللحظة الأخطر التي يمر بها الشرق الأوسط منذ العام 1973. ويفاقم خطورتها مصادفتها مع موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، واحتمال تسجيل فشل جديد لأميركا قد يقود إلى هزيمة محققة لبايدن في الخريف المقبل.

ما يطرحه المسؤولون الأميركيون من أفكار للجم التدهور ووضع القضايا على مسار سياسي، يتطلب أكثر من حلول موضعية. أي أنه لا حلّ في غزة بمعزل عن سياقات أشمل وخطط أكبر لمعالجة النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي. وهذا لا يعني، في الوقت نفسه، أن السبيل ممهدٌ أمام فريق بايدن لوضع طروحاته موضع التنفيذ بسهولة.

غيورا آيلاند: نتنياهو مستعد للتضحية بكل مصلحة مهمة للأمن القومي من أجل البقاء كرئيس للوزراء وتجنب إجراء انتخابات.. وهو تخلّص من كل شخص يُمكن أن يُشكّل خليفة محتمل له.. إنه يعمل بالضبط وفقاً لإرشادات كتبها ميكافيلي قبل 500 عام

أولى العقبات التي تقف في طريق المضي في مسار حل الدولتين الذي تدعمه واشنطن منذ عقود، كان وما يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. حاول بايدن استيعابه من طريق المسارعة إلى إنقاذ إسرائيل بعد صدمة 7 تشرين الأول/أكتوبر وتوفير الحماية العسكرية والديبلوماسية للدولة العبرية بعد مضي أربعة أشهر على حرب غزة.

هذا يفسر الجهد الإستثنائي للديبلوماسية الأميركية من أجل الوصول إلى هدنة مؤقتة (قابلة للتمديد)، مع جائزة ترضية تنتهي بتطبيع العلاقات مع السعودية، على أن يمر ذلك ولو بالتزام سياسي إسرائيلي بالقبول بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، كما قال الكاتب الأميركي المخضرم توماس فريدمان في مقالته الأخيرة في صحيفة “النيويورك تايمز”.

وفي سباق مع الوقت، تراهن واشنطن على أن نتنياهو بات أكثر فأكثر أمام خيارين؛ أوّلهما، المزيد من الالتصاق بالوزيرين اليمينيين المتطرفين ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ومواصلة الحرب وإعادة احتلال قطاع غزة واستيطانه وتهجير سكانه قسراً إلى سيناء مع المجازفة بفقدان الحماية الأميركية في مجلس الأمن الدولي وربما تعرض العلاقات مع أميركا للضرر. وثانيهما، الميل نحو الوزيرين في حكومة الحرب بيني غانتس وغادي إيزنكوت، والقبول بهدنة مؤقتة تؤدي إلى الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين أو عن معظمهم من طريق الصفقة التي تتوسط فيها أميركا وقطر ومصر، وفي الوقت نفسه توفير مساحة أمان لعدم سقوط حكومته بإعلان زعيم المعارضة يائير لابيد استعداده للإنضمام إلى حكومة الحرب من أجل تأمين الإفراج عن الرهائن.

نتنياهو الذي يقترب من ساعة الحقيقة، يصفه رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق غيورا آيلاند، بأنه “مستعد للتضحية بكل مصلحة مهمة للأمن القومي من أجل البقاء كرئيس للوزراء وتجنب إجراء انتخابات.. وهو تخلّص من كل شخص يُمكن أن يُشكّل خليفة محتمل له.. إنه يعمل بالضبط وفقاً لإرشادات كتبها ميكافيلي قبل 500 عام”.

هذا يعني أن نتنياهو ربما يوافق على الهدنة المطروحة إذا تلقى ضمانة أميركية بالبقاء رئيساً للوزراء، لأنه يعي تماماً أن أي فترة من الهدوء ستجعل الإسرائيليين ينزلون إلى الشوارع للمطالبة باستقالته وإجراء انتخابات مبكرة، في وقت تظهر استطلاعات الرأي أن حزب الليكود الذي يتزعمه لن يحصل على أكثر من 15 مقعداً في الكنيست إذا ما أجريت الانتخابات الآن، مما يعني حكماً “ذهابه إلى السجن أو الفرار من البلاد”، بحسب المحلل العسكري الإسرائيلي عوفر شيلاح الذي يعمل مع مؤسسة “تل أبيب لدراسات الأمن القومي”.

مُجدداً قد يلجأ نتنياهو كعاته إلى شراء الوقت واللاقرار، في التعامل مع الهدنة المطروحة حالياً، علماً بأن فترة السماح الممنوحة له من قبل غانتس وإيزنكوت تضيق، وقد يتسببان باهتزاز حكومته في حال انسحبا منها وفي تحريك الشارع بقوة ضده.

إقرأ على موقع 180  "جيوبوليتيك إنسايدر": من هو المرشد الأعلى الثالث في إيران؟

كما أن نتنياهو لا يُمكنه استبعاد سوابق، ولو نادرة تعرّضت فيها إسرائيل لضغوط أميركية جعلتها تتراجع عن قراراتها، على غرار تهديد الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور بفرض عقوبات إقتصادية في حال عدم امتثال إسرائيل للانسحاب من جزيرة سيناء المصرية عام 1956، وكما حصل مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان إبّان اجتياح لبنان عام 1982 عندما قرّر تأخير تسليم تل أبيب مقاتلات من طراز “إف-15″ و”إف-16” من أجل حمل رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن على وقف النار، بينما جمّد الرئيس جورج بوش الأب إئتمانات القروض عام 1991 لحمل إسحق شامير على الذهاب إلى مؤتمر مدريد للسلام.

وتُشكّل التفجيرات الإقليمية المتصاعدة، من جنوب لبنان إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق، عامل ضغط آخر على أميركا من أجل العمل على وقف حرب غزة قبل التورط في نزاع شرق أوسطي آخر.

وفي 28 كانون الثاني/يناير الماضي، فوجئت القوات الأميركية في “البرج 22” عند مثلث الحدود الأردنية العراقية السورية بسقوط مسيّرة على مهاجع الجنود، ما أدى إلى مقتل ثلاثة منهم وجرح 40 آخرين. هذه المرة الأولى التي يُقتل فيها جنود أميركيون في أكثر من 160 هجوماً تعرضت لها القوات الأميركية في سوريا والعراق منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. ووقع بايدن تحت ضغط شديد من الكونغرس كي “يضرب بقوة” داخل إيران، وفق ما طالب السناتور الأميركي الجمهوري ليندسي غراهام، وبين “ردّ على مستويات مختلفة يترك تأثيراً مستداماً”، على غرار ما صرح بلينكن.

ها هو المفاوض الأميركي السابق في الشرق الأوسط ديفيد آرون ميلر يُحذّر من أن “الشرق الأوسط هو المنطقة التي تموت فيها الأفكار الأميركية الكبيرة”، في إشارة إلى الإخفاقات التي صادفتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان وعملية تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي

على الأرجح، اختار بايدن الرد في الساعات الأخيرة بضربات عسكرية موضعية لا توصل إلى حرب مباشرة مع إيران وتبعث في الوقت نفسه برسالة “ردع” إلى طهران، بدليل إبلاغ الحكومة العراقية مُسبقاً بالأهداف التي استهدفها الأميركيون، داخل الأراضي العراقية أو في منطقة الحدود السورية العراقية.

ويعني تأخر الرد الأميركي لمدة أسبوع، أن الولايات المتحدة أعطت إيران مساحة أمان كي تخلي الكثير من المواقع، وقد أتى نبأ سحب كبار ضباط “الحرس الثوري” الإيراني من سوريا في هذا السياق، بينما هدّدت إيران بأنها “سترد بقوة” إذا تعرّضت الأراضي الإيرانية للقصف الأميركي.

الآن، تُوظّف أميركا ردها العسكري على هجوم “البرج 22” بسلسلة عمليات من اليمن إلى منطقة الحدود السورية العراقية من أجل الضغط على إيران كي تُسهّل التوصل إلى هدنة في غزة، وكي تُؤثّر على حلفائها في المنطقة لخفض منسوب التصعيد، وليس لأخذ المنطقة إلى الحرب.

ومن المؤكد أن بايدن يقرأ استطلاعات الرأي الداخلية جيداً، وآخرها يُظهر تدني شعبيته إلى مستوى قياسي هو 38 في المئة. ليس بسبب سياسته الخارجية وإنما بسبب توجس الأميركيين من مستقبل الإقتصاد الأميركي وقضية الهجرة. وإذا ما أضيف إلى ذلك الإخفاق في الشرق الأوسط والجمود في الميدان الأوكراني، فسيكون بايدن عندها فعلاً كما كتبت عنه صحيفة “الغارديان” البريطانية “يسير نائماً نحو هزيمة كارثية” في 5 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.

وليس بالضرورة أن تنجح أميركا في تحقيق الاختراق الذي تنشده. وها هو المفاوض الأميركي السابق في الشرق الأوسط ديفيد آرون ميلر يُحذّر من أن “الشرق الأوسط هو المنطقة التي تموت فيها الأفكار الأميركية الكبيرة”، في إشارة إلى الإخفاقات التي صادفتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان وعملية تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  الانتخابات التشريعية الفرنسية تُدشّن السباق الرئاسي المبكر