كتاب “تجربة الاختفاء”.. سيرة إبداع المقاوم الفلسطيني

ظاهرة الاختفاء أو التخفّي مارسها المناضلون الفلسطينيون من مختلف التنظيمات، ولا سيما أولئك الذين كانوا على لوائح الاغتيال والمطاردة من الاحتلال الإسرائيلي، لتُشكّل تجربة التخفّي نظرية جديدة في عالم الثورة والنضال والمواجهة.

يُمكن القول إن كتاب “تجربة الاختفاء الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي: 1967-2022” الصادر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، لمؤلفه حسن نعمان الفطافطة، هو تعبير إبداعي من وحي تجربة التحدي الإستثنائية، في انتظار ما سيُكتب، عن “طوفان الأقصى” صبيحة يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ذلك أن حكاية الأنفاق الغزّاوية هي جزء من التخفي الإبداعي حيث تختلط الفكرة بتنفيذها المعماري ووظيفتها النضالية وهي حتماً ستصبح مادّة في التدريس العسكري الأكاديمي كجزء من إبداع نضالي للشعب الفلسطيني لم يتوقف منذ أوائل القرن الماضي حتى يومنا هذا.

يتناول الروائي الأسير المحرر حسن نعمان الفطافطة (أمضى 24 عاماً في السجون الإسرائيلية)، ظاهرة الاختفاء أو التخفي في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني كواحدة من أدوات متابعة الصراع مع الاحتلال، في كتاب (مؤلف من 187 صفحة) يتضمن مقابلات مع مناضلين وأسرى عاشوا تجربة التخفي بعيداً عن أعين المحتل وأعوانه من العملاء. هذه الظاهرة التي نلمس مفاعيلها في غالبية الاغتيالات التي تمّت بحق ثلة من المناضلين والقياديين الفلسطينيين في الداخل والخارج، بما يجعلنا نطرح سؤال الأسباب النفسية والاجتماعية والبنيوية الشخصية لمن يرتهن كعميل بعد كل هذه السنوات من الاحتلال الإقصائي المُمَارِس لكل وسائل القتل والإجرام، وأسباب استمرار تفشي هذه الظاهرة في مجتمعاتنا حتى يومنا هذا.

ويتناول الكاتب الفطافطة “وحدة قصاصي الأثر” من البدو في الجيش الإسرائيلي، وشبكات العملاء الذين شكّلوا الذراع الأمنية لجهاز “الشاباك”. كما يتضمن شهادت لمن مارسوا عمليات التخفي من خلال مقابلات شفوية مباشرة أو عبر الهاتف، كما تمّ إرسال استمارة إلى السجون بطرق خاصة (يذكر المؤلف أسماء الأسرى الثمانية الذين تحدثوا عن تجاربهم بالتخفي قبل الاعتقال). كما يُميّز الكاتب ويشرح الفارق بين المطاردة والتخفي وإن تقاربا كمفهوم واحد. فالاختفاء، كما شرّحه الدكتور أحمد قطامش، في تقديمه للكتاب، هو “الاحتجاب الكلي وعدم الظهور إلا على أهل الشأن، حيث يصبح المتخفي “أثراً بعد عين”، فينقطع عن العمل والتعليم والأهل والأصدقاء، ويصبح مُلكاً جماعياً للعمل الثوري الذي يتكفّل بتلبية متطلباته الأساسية من إقامة وطعام وملابس وعلاج”، أما الكاتب محمود فنون فيتناول مهمة الاختفاء من زاوية حماية التنظيم (السري بالدرجة الأولى)، وحماية الكادرات “لكي تستمر في تأدية مهامها النضالية”، مشيراً إلى أن الفلسطيني يوحنا المعمدان (يحي) الذي بشّر بالمسيح منذ ألفي سنة “عاش طريداً أربعة عقود متخفّياً من الحكم الروماني قبل أسره وتقديم رأسه على صينية من فضة”.

يتوقف الكاتب عند تجربة الأسير عبدالله البرغوثي في أيام عيشه كمتخفٍ ومطارد فينقل عنه أنه لم يستخدم الهاتف الجوّال أبداً وتحت أي ظرف من الظروف، حتى أن البرغوثي يقول: “كنت أسافر من مدينة إلى أخرى متخفياً كي أنهي أمراً لا يتجاوز الحديث عنه سوى بضع دقائق”

لقد بدأ “اعتماد التخفّي في الأرض المحتلة” سنة 1974 إثر نقاش بين الأسرى في سجن بئر السبع وتكرّر سنة 1976، وذلك إثر ضربة اعتقالية تصفوية تعرّضت لها بعض التنظيمات (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، في وقت كان هناك نموذج غزة – كما يصفه الكاتب الفطافطة – ورمزه الألمع محمد الأسود الملقب بـ”غيفارا غزة”. أمّا المُسوّغات التي دفعت الشعب الفلسطيني وقواه الحيّة إلى انتهاج هذا الأسلوب من العمل النضالي (أي التخفي)، فكانت وستبقى حاضرة دوماً، ما دام جذر الصراع العربي – الإسرائيلي قائماً، معتبراً أن “لدى الاحتلال، وربما اليوم أكثر، بعض الوسائل والطرق التي يلاحق بها المتخفّين، ومتابعتهم عبر الوسائل التكنولوجية العالية، أو عبر العنصر البشري وما زرعه الاحتلال من عملاء في مختلف المواقع والتنظيمات الفلسطينية، كما كان للتنسيق والتعاون الأمنيين في سنوات أوسلو دور في توفير المعلومات الأمنية التي ساعدت الاحتلال في الوصول إلى المطلوبين وإلقاء القبض عليهم”، مؤكداً على أهمية تدوين تجربة الاختفاء الفلسطينية لارتباطها بتطور النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي العنصري/الإحلالي، ولتعزيز صورة المتخفي في الذهن الفلسطيني والعربي والمخيال الجمعي، ولافتقار المكتبة العربية إلى هذا النوع من المؤلفات، وأيضاً في مواجهة السرديات الإسرائيلية، حيث يذكر هنا كتاب “إنهض واقتل أولاً: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية” للكاتب الإسرائيلي رونين بيرغمان، (موقع “180 بوست” يستمر بنشره على حلقات منذ حوالي الثلاث سنوات).

يحتوي كتاب “تجربة الاختفاء الفلسطينية” على خمسة فصول؛ أولها يُعطي لمحة تاريخية عن ظاهرة الاختفاء والمطاردة (استشهاد عز الدين القسّام في أحراش يعبد بعد المطاردة البريطانية له ولرفاقه، وعن آخرين في حركات تحرر عالمية، ونظرية ماو تسي تونغ عن التخفّي في المدن). وفي الفصل الثاني يتناول تجربة الاختفاء في الضفة والقطاع (1967-1977) وأبرزها تجربة “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” بقيادة محمد الأسود (غيفارا غزة) “الذي كان بارعاً في عمل الأوكار والملاجئ بحكم دراسته كمهندس معماري، كما أتقن فن التمويه والتنكر جيداً”، وقد استشهد بتاريخ 9 آذار/مارس 1973 بعد مراقبة إسرائيلية حثيثة له، وإخباريات عملاء لطالما كان ينفذ منها، إلى أن تمكنوا من مداهمة المكان الذي كان مختبئاً فيه.

إقرأ على موقع 180  انتخابات الطرب.. مرحباً بمن يقاطعها!

ولا يختلف الفصل الثالث عن الثاني (تجربة الاختفاء في الضفة والقطاع) لكنه يكمل الفترة من 1977 حتى 1994 وخلاصتها أن التخفي يؤدي إلى التربية على الصمود وقوة الإرادة وتحدي الانكسار، لكنه يُميّز تجربة “كتائب القسام”- حركة حماس بتخصيص الفصل الرابع لتجربة تخفيها في الضفة والقطاع (1991-2000) فيشير إلى أبرز تلك السمات التي ابتكرتها الحركة، مع ذكره “أن حركة حماس شكّلت بانطلاقتها وانخراطها بالعمل المقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي نقلة نوعية إلى الأمام في مواجهة المشروع الصهيوني، بحكم الامكانات التنظيمية واللوجستية والمالية المتوفرة لديها، وكونها الفرع الفلسطيني لحركة الإخوان المسلمين العالمية”. ومن السمات التي اعتمدتها: أماكن الاختفاء والتخفّي وتنوعها، الحركة والكمون، الحاضنة التنظيمية والشعبية، وسائل التمويه والتنكر، ودور المرأة ومشاركتها بدعم المتخفين (يشير هنا الى دور “أم نضال فرحات” الملقبة بـ”خنساء فلسطين”) إلخ..

أما الفصل الخامس فيحكي تجربة الاختفاء في الضفة (2000- 2022) وكيف انفجرت في العام 2000 انتفاضة الأقصى، فارتفعت وتيرة الاشتباك اليومي مع الإحتلال، فلجأ إلى استخدام ظاهرة جديدة في ملاحقة المطلوبين واغتيالهم. ويتوقف عند تجربة الأسير عبدالله البرغوثي في أيام عيشه كمتخفٍ ومطارد فينقل عنه أنه لم يستخدم الهاتف الجوّال أبداً وتحت أي ظرف من الظروف، حتى أن البرغوثي يقول: “كنت أسافر من مدينة إلى أخرى متخفياً كي أنهي أمراً لا يتجاوز الحديث عنه سوى بضع دقائق” (ص145)، مع إشارة المؤلف إلى حوادث كارثية لاستخدام المتخفين والمطاردين الهواتف الجوالة (اغتيال القيادي المقاوم الحمساوي يحيى عيّاش مثالاً).

في الخلاصة، يقول الكاتب حسن نعمان الفطافطة إن العقل الفلسطيني المقاوم والمبدع “نجح في ممارسة ظاهرة الاختفاء باقتدار عالٍ في محطات عديدة (“طوفان الأقصى” نموذجاً)، وإن كانت السلطة الفلسطينية ووظيفتها الدنيئة في التنسيق الأمني لخدمة العدو ما تزال تؤذي المقاومين بدرجة كبيرة، في مواجهة شعب لن يموت”.

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  شعوب بأكملها "تتطرف".. فتّش عن أمريكا والغرب!