إذا فهمنا “حماس” نجد الحل

إذا أردنا أن نعرف أي اتفاق يمكن أن ينهي الحرب المروعة في غزة، وكيف سيبدو مستقبل القطاع والقضية الفلسطينية برمتها، يجب أولاً أن نُحدد الكيفية التي يفهم بها الفاعلون السياسيون (الإسرائيليون والفلسطينيون والأميركيون) حركة "حماس". هذا ما يقوله الكاتب الصحفي جوشوا ليفير(*)، في تقرير نشرته صحيفة "الغارديان"، يستعرض فيه ما سمعه من مجموعة من المسؤولين والمعنيين، وكيف أن "الحل" يكمن في فهم الصدام بين التفاهمات المختلفة بين هؤلاء حول "حماس".    

في أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، نشر ناشط السلام الإسرائيلي المخضرم غيرشون باسكن رسالة عبر وسائل التواصل الاجتماعي يدين فيها الرجل الذي طالما وصفه بأنه صديق: غازي حمد، أحد كبار مسؤولي “حماس”.

باسكين، هو مهندس الصفقة التي بموجبها أطلقت “حماس” سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في عام 2011. وهو أيضاً أحد الإسرائيليين القلائل الذين حافظوا على “قناة” اتصال وتواصل مع قادة “حماس”.

وحمد أيضاً كان مهندس الصفقة، عن الطرف الفلسطيني، وهو صحافي سابق حاصل على شهادة في الطب البيطري، وكان قد شغل منصب نائب وزير الخارجية في حكومة “حماس” عام 2012.

قبل عملية “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وعلى مدى أكثر من 15 عاماً، طوَّر الرجلان علاقة عمل دافئة نوعاً ما مبنية على الثقة المتبادلة، وكان بينهما الكثير من المكالمات الهاتفية والرسائل النصية، تمحورت بشكل أساسي حول صفقات لتبادل أسرى وإمكانية التوصل إلى هدنة طويلة الأمد بين إسرائيل و”حماس”.

وبعد “طوفان الأقصى” والحرب الإسرائيلية المروعة على غزَّة، بدأت هذه العلاقة في الانهيار. فقد أصرَّ حمد على أن “العملية” كانت مبررة تماماً، ونفى أن يكون مقاتلو “حماس” قد ارتكبوا أية فظائع بحق مستوطنين إسرائيليين. وتعهد (في مقابلة أجرتها معه إحدى القنوات اللبنانية في تاريخ 24 تشرين الأول/أكتوبر) بأن تُنفّذ “حماس” عمليات مماثلة “مراراً وتكراراً”، مضيفاً “لدينا كل المبررات، ولا ينبغي لأحد أن يلومنا”.

باسكن اعتبر تصريحات حمد بمثابة “خيانة”. وقال “لا تشبه الرجل الذي أعرفه.. كنت اعتقد أنه أحد أكثر الأشخاص اعتدالاً في حماس”. وكان باسكن من المؤمنين بإمكانية عقد اتفاق مع “حماس” وتحقيق هدنة طويلة الأمد مقابل رفع الحصار البري والجوي والبحري الذي تفرضه إسرائيل على القطاع منذ العام 2007، وأن حمد يمكن أن يساعد في إقناع “حماس” بـ”حل الدوليتن”. وكان باسكن يحاول تنظيم لقاء مشترك لمناقشة هذه الأمور. لكن بعد “طوفان الأقصى” غيَّر موقفه بالطبع، ونشر مقالاً في صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، في 28 تشرين الأول/أكتوبر، يقول فيه: “لقد خسرت حماس حقها في الوجود في أي مكان، وخاصة الأراضي المجاورة لإسرائيل”(…). وقبل فترة وجيزة اقترح باسكن نفي قادة “حماس” كجزء من اتفاق محتمل لوقف إطلاق النار. كما اقترح منع “حماس” من المشاركة في أي انتخابات ما لم تنبذ العنف وتتخلى عن الكفاح المسلح “لأنها لم تعد جزءاً من المعادلة”(…).

لم يقرأ أحد علامات “حماس”

في أواخر كانون الأول/ديسمبر، التقيت باسكن في منزله في القدس. كان يُعلّق في عنقه قلَّادة فضية منقوش عليها عبارة “أعيدوهم إلى الوطن”، والتي أصبحت شعاراً للحركة المطالبة بعودة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى “حماس”.

سألته ما إذا كانت “حماس” هي التي تغّيرت أم أنه هو من أساء فهمها طوال الوقت؟ فأجابني بحسم: “حماس هي التي تغيّرت.. كانت هناك دائماً فرصة لإتفاق وقف إطلاق نار عملي وطويل الأمد.. لكن ما اتضح مؤخراً هو أن الحركة اتخذت قرارها بعدم القبول بأي تسوية، وأنها كانت تخطط للهجوم- لكن أحداً منَّا لم يقرأ العلامات جيداً”.

خلال الأيام الأولى للحرب، وبعد أن سمع بتعرض منزل حمد للقصف، كتب باسكن على وسائل التواصل الاجتماعي يحذر “صديقه السابق” بأن “لا أحد في حماس بمأمن” (حمد غادر غزة إلى بيروت قبل الحرب). “ويؤسفني القول إنك وأصدقائك أعدتم القضية الفلسطينية 75 عاماً إلى الوراء. أعتقد أنك فقدت عقلك وأضعت قواعدك الأخلاقية”. فرد عليه حمد قائلاً: “لدينا الكثير من المفاجآت، وسوف نقتل الكثير من الإسرائيليين”. وهكذا  انقطعت العلاقة بين باسكن وحمد.

إن تفكك علاقة مثل التي كانت بين باسكن وحمد يعكس مناقشة أكبر وأكثر إلحاحاً بشأن “حماس”: هل هي مجموعة قومية ذات طابع إسلامي في المقام الأول، ويمكن أن تكون لاعباً بناءً في عملية سلام جدّية؟ أم هي مجموعة أصولية متطرفة وعداؤها لإسرائيل لا رجعة عنه؟

أحد المعسكرات في هذه المناقشة (خبراء غربيون ومحللون أمنيون أميركيون وإسرائيليون) يرى أن “حماس” تُعرف بعدائها المطلق لوجود إسرائيل، وأنه “لم يكن هناك ما يثير الدهشة في ما حدث يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، فالأولوية عند الحركة تدمير إسرائيل وإنشاء دولة فلسطينية إسلامية مكانها”، وفق ماثيو ليفيت، المسؤول السابق في إدارة جورج دبليو بوش (…).

ويرى معسكر آخر (أكاديميون ومفكرون أغلبهم من الفلسطينيين) أن “حماس” لاعبٌ سياسيٌ فاعلٌ ومتعدد الوظائف، تضم عناصر متشددة وعناصر معتدلة. وأنها نتاج الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون (الاحتلال والحصار والاضطهاد) وبالتالي تستجيب للتحديات التي تفرضها هذه الظروف. وتكمن المشكلة؛ وفقاً لوجهة النظر هذه؛ في أنه حتى عندما بدا قادة “حماس” منفتحين على الاعتدال، فإن الساسة الإسرائيليين هم الذين عرقلوا طريقها، “ومع ذلك لم تفقد مصداقيتها بين الفلسطينيين باعتبارها المعقل الأخير للمعارضة الحقيقية ولمقاومة الاحتلالها”.

الوحدة الفلسطينية 

عندما تحدثنا في كانون الثاني/يناير الماضي، قال لي الباحث الفلسطيني طارق بقعوني إن “المفهوم الخاطئ الرئيسي هو الاعتقاد بأنه إذا تم تقويض حماس باعتبارها تشكل تهديداً أمنياً، فلن يكون لإسرائيل أي مشكلة مع الفلسطينيين.. والحقيقة أنه حتى لو اختفت حماس غداً فإن حصار غزَّة سيظل قائماً وكذلك الحكم العسكري في الضفة الغربية.. هناك إصرار على ترسيخ سردية أن الحرب الدائرة اليوم هي بين إسرائيل وحماس وليست بين إسرائيل والفلسطينيين وكأن حماس ليست جزءاً من النسيج الفلسطيني وليست نتاج الإحتلال.. التمسك بهذه السردية يعني وجود خلل فظيع في فهم جوهر الصراع، ويفسر عدم القدرة على معالجة الدوافع السياسية التي تُحرك الفلسطينيين”.

من مؤيدي هذا الطرح خالد الجندي، وهو مستشار سابق لقيادة السلطة الفلسطينية، شارك في ملف المفاوضات مع إسرائيل ويعمل الآن في “معهد الشرق الأوسط للأبحاث”. يرى الجندي أن أي ترتيب لليوم التالي يستبعد “حماس” يعني تكرار الأخطاء التي أدت إلى الحرب الحالية والحروب التي قبلها والتي ستأتي بعدها. ويضيف الجندي: “تمسك إسرائيل بمنطق ‘سنصنع السلام مع هذه المجموعة بينما نشن الحرب على تلك المجموعة‘ هو ما يتيح لها الإستمرار في خنق غزَّة اقتصادياً وشن عدوان عسكري على المدنيين متى شاءت”.

ويتابع الجندي: “حماس حقيقة من حقائق الحياة السياسية في غزَّة وجزء أساسي من المشهد الفلسطيني. وهي اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى”. وهذا ما شرحه بشكل مفصل في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز”، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، شدَّد فيه على وجوب أن تكون “حماس” طرفاً أساسياً في أي تسوية، والعمل على دمجها وغيرها من الفصائل المقاومة في منظمة التحرير الفلسطينية (…). الدمج سينهي الانقسام داخل البيت الفلسطيني، ويجرد إسرائيل من الذريعة التي طالما استغلتها لعرقلة كل مفاوضات السلام (…).

إذا لم تكن قيادة “حماس” موحدة دائماً حول مسائل الرؤية، فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للضفة وغزَّة أعطاها وحدة الهدف

ربما تكون الوحدة الفلسطينية بعيدة المنال في الوقت الحاضر، لكن تصور المستقبل من دونها أكثر صعوبة. وقال الجندي: “البعض يعتقدون أنه إذا دمرنا حماس، أو على الأقل قمنا بتهميشها، فإن ذلك سيجعل السلام أكثر احتمالاً.. هذا الموقف يبرر هجوم إسرائيل المدمر والمستمر على غزة.. إن وجهة النظر هذه خاطئة، ليس فقط من الناحية الاستراتيجية، بل من الناحية الأخلاقية أيضاً”.

لا توجد حماس واحدة

تأسست “حماس” في عام 1987 على يد أعضاء من الفرع الفلسطيني لـ”جماعة الإخوان المسلمين”، وذلك على خلفية الانتفاضة الأولى في السنة نفسها. وفي ميثاقها التأسيسي لعام 1988 مزيج من الاقتباسات القرآنية وخطابات حول العقيدة الإسلامية والقومية. وتحدد الوثيقة أرض فلسطين بأنها وقف، أو أمانة إسلامية، “مخصصة للأجيال المسلمة القادمة حتى يوم القيامة” (…). فهل التطرف الإسلامي يمثل أيديولوجية “حماس”؟

يرى بعض الباحثين في السياسة الإسلامية أن خطاب “حماس” الديني هو في الأساس إطار لخدمة أهدافها القومية، التي تشكل همها المركزي. يقول عزام التميمي (مؤلف كتاب “حماس: تاريخ من الداخل”): “لقد أدرك قادة الحركة أنها تحتاج، لنموها، إلى طريقة أكثر سهولة لتعريف نفسها للعالم الأوسع”. هناك وثيقة بعنوان “هذا ما نناضل من أجله”، كُتبت في منتصف التسعينيات الماضية استجابة لطلب من ديبلوماسي أوروبي لتوضيح أهداف الحركة، حدّدت “حماس” بعبارات مختلفة أنها “حركة تحرير وطني فلسطيني تناضل من أجل تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة، والاعتراف بالحقوق الفلسطينية المشروعة”. هذا يعني أن مسألة كيفية فهم “حماس” تنبع من استدراك الفجوة بين هذين الخطابيين: بين الجهاد الذي لا هوادة فيه ولغة المقاومة المناهضة للاستعمار، وبين الإيديولوجية الأصولية والبراغماتية السياسية.

في كتابه “احتواء حماس: صعود المقاومة الفلسطينية وتهدئتها”، يشير طارق بقعوني إلى أنه “لا توجد حماس واحدة”، وبأنها “شكل من أشكال الفاعل المتجانس الذي يجمع بين العبثية والدقة والاختزال”.

داخل “حماس” هناك متشددون براغماتيون، ومحافظون معتدلون نسبياً، وأولئك الذين يعطون الأولوية للكفاح المسلح ضد إسرائيل، وهناك أيضاً الذين (على الأقل حتى وقت قريب) يسعون لتحقيق مكاسب من خلال الوسائل السياسية. وكما يقول هييو لوفات، الخبير في شؤون الشرق الأوسط وعضو في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: “حماس سعت دائماً إلى اللعب بين مسارين – العنف والدبلوماسية – والتحول من مسار إلى آخر، كلما رأت أن مصلحتها هي ذلك”.

ومع ذلك، حتى إذا لم تكن قيادة “حماس” موحدة دائماً حول مسائل الرؤية، فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للضفة وغزَّة أعطاها وحدة الهدف.

أذكياء بما يكفي

في عام 1993، عندما اعترفت منظمة التحرير، بقيادة ياسر عرفات، بدولة إسرائيل ونبذت العنف ووقعت على اتفاق “أوسلو”، كانت “حماس” هي التي ارتدت عباءة المقاومة المسلحة والالتزام بتحرير كل فلسطين التاريخية. كان اتفاق “أوسلو” مخيباً للآمال بالنسبة للعديد من الفلسطينيين، وليس فقط لمؤيدي “حماس”. ففي مقال نشره عام 1993، وصف المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد اتفاق “أوسلو” بأنه “فرساي فلسطينية وأداة للاستسلام (…).

طوال فترة التسعينيات، كثَّفت “حماس” قتالها ضد إسرائيل. في سنواتها الأولى، اتخذت هجماتها بشكل رئيسي شكل نيران الأسلحة الصغيرة، والقنابل الخفيفة التي تُزرع على الطرق، ومحاولات لاختطاف جنود إسرائيليين. لكن الوضع تغير في 6 نيسان/ابريل 1994، مع العملية الانتحارية التي استهدفت محطة للحافلات في مدينة العفولة، شمال إسرائيل، رداً على المذبحة التي نفذها مستوطن اسرائيلي في “الحرم الإبراهيمي” بهدف عرقلة محادثات السلام (…).

كيفية فهم “حماس” تنبع من استدراك الفجوة بين الجهاد الذي لا هوادة فيه والمقاومة المناهضة للاستعمار، وبين الإيديولوجية الأصولية والبراغماتية السياسية

بعد انهيار محادثات “كامب ديفيد”، عام 2000، واندلاع الانتفاضة الثانية، برزت “حماس” كـ”منافس” حقيقي لمنظمة التحرير ومؤسسات السلطة. وكلما كانت إسرائيل تواصل بناء المستوطنات والأسوار الفاصلة، وتعزز أجهزتها العسكرية ونقاط التفتيش داخل المناطق الفلسطينية، وكلما كانت “فتح” والسلطة الفلسطينية تبدوان مستسلمتين، كانت “حماس” تكتسب المزيد من الجاذبية بفضل موقفها الثابت بوجوب مقاومة الاحتلال. ومع الأيام، نجحت في تعزيز قدراتها القتالية وتنويع ترسانتها. وفي عام 2001، أطلقت أولى صواريخها من قطاع غزة تجاه المناطق الإسرائيلية.

أصبحت استراتيجية الكفاح المسلح مبررة أكثر في آب/أغسطس 2005، عندما نفذت إسرائيل انسحاباً أحادي الجانب من قطاع غزَّة (فك الارتباط كان حركة تكتيكية من قبل أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بهدف تخريب مفاوضات السلام). يومها أعلن القيادي الحمساوي محمد ضيف “اليوم تتركون غزَّة مذلولين لكن حماس لن تترك السلاح وستواصل النضال حتى تمحي إسرائيل من الخارطة”.

في مرحلة ما بعد الانسحاب، بدأت “حماس” تهتم بحجز موقع ودور سياسي لها. شاركت في انتخابات 2006 (لأول مرة)، طرحت برنامج مكافحة الفساد وتطبيق القانون والنظام وفازت بالأغلبية المطلقة، ما شكل صدمة لكثيرين في السلطة وإسرائيل. حتى أن وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، علَّقت يومها قائلة: “حماس صارت تتمتع بتفويض شعبي”.

وصول “حماس” للسلطة لم يجعلها تتخلى عن الكفاح المسلح. “إنهم يدركون جيداً ما يريدون، وما سيسمح به الواقع، ويحاولون إيجاد حل وسط بينهما” (…) كما تقول تهاني مصطفى، المحللة الفلسطينية في “مجموعة الأزمات الدولية”.

“حماس” لم تطبق الشريعة الإسلامية قط.. كانت تطرح إجراءات الأسلمة بشكل مبدئي، ثم تتراجع عنها عندما يعترض المواطنون

يُذكر أن “حماس”، بقيادة خالد مشعل، وقَّعت على إعلان القاهرة عام 2005، الذي أعتبر منظمة التحرير الفلسطينية “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني” ودعا إلى إنشاء الدولة الفلسطينية. ففي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، كتب بعقوني مقالاً لمجلة “فورين بوليسي” قال فيه: “بين عامي 2005 و2007، أذعنت حماس، بحكم الأمر الواقع، لبرنامج سياسي [كان من الممكن]، لو تم استغلاله بشكل صحيح، أن يؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل وتفكيك الاحتلال”. ولكن هل كانت “حماس” لتستخدم تفويضها الشعبي في السعي إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل؟ أو هل كانت لتجبر السلطة الفلسطينية على مواصلة الكفاح المسلح؟ لن نعرف الاجابة أبداً”.

إقرأ على موقع 180  جان عبيد.. رحيل آخر "المتهمين"

وفي أول رد فعل على فوز “حماس” في انتخابات 2006، رفض أعضاء “فتح” الانضمام إلى الحكومة، وشدَّدت إسرائيل حصارها على القطاع ، وسرعان ما قطعت واشنطن والاتحاد الأوروبي المساعدات. وبحلول خريف عام 2006، كانت مجموعات من مسلحي “فتح” و”حماس” تنفذ عمليات اغتيال واختطاف وتعذيب ضد بعضهم البعض، حتى مع استمرار “محادثات الوحدة” بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي في “حماس” خالد مشعل.

وفي 14 حزيران/يونيو 2007، وبعد خمسة أيام من المعارك العنيفة، أصبحت السلطة الفلسطينية خارج قطاع غزَّة. وهكذا وجدت “حماس” نفسها، فجأة، في دور جديد تماماً ومسؤولة عن إدارة حياة أكثر من 2.5 مليون فلسطيني، يعيشون في مساحة جغرافية صغيرة نسبياً ومحاصرة من الجو والبر والبحر وتخضع لقصف جوي ومدفعي شبه روتيني من جانب إسرائيل.

خلال الخمسة عشر عاماً التالية (2007 ـ 2022)، عزَّزت “حماس” حكمها تدريجياً، وبدا للبعض أنها تحولت من جماعة تتبنى إيديولوجية المعارضة المسلحة إلى قوة حاكمة. كان ربع أعضاء حكومتها الأولى يتباهون بأنهم من حاملي الشهادات العُليا وبأنهم تخرجوا من جامعات الولايات المتحدة. “لم يكونوا أبداً ديموقراطيين أو سلطويين ناعمين، كما تقول بعض الأدبيات.. لقد كانوا متشددين، لكن أذكياء بما يكفي لخداع الغرب في كيفية تعاملهم مع الوضع”، كما قال لي ناشط السلام المولود في غزة خليل الصايغ (…).

لم تطبق “حماس” الشريعة الإسلامية قط، برغم الضغط الذي يمارسه بعض عناصرها المتشددين، لكنها حاولت، بشكل عشوائي، تشريع الأخلاق العامَّة. “كانت تطرح إجراءات الأسلمة بشكل مبدئي، ثم تتراجع عنها عندما يعترض المواطنون”، بحسب تقرير لـ”مجموعة الأزمات الدولية” عام 2011. في الوقت نفسه، واجهت “حماس” انتقادات من الجماعات السلفية لفشلها في فرض الشريعة الإسلامية الصارمة على المنطقة. وفي عام 2009، عندما أعلن السلفيون المتحالفون مع تنظيم “القاعدة” قيام دولة إسلامية في جنوب قطاع غزة، سحقتهم قوات “حماس” بعنف عندما حاولوا تنفيذ هجوم على مسجد في رفح.

“حماس” المفيدة و”توازن العداوة”

نجحت “حماس” في بناء شبكة متطورة جداً من الأنفاق للالتفاف على الظروف القاسية التي تسبب بها الحصار، وكذلك لحماية مقاتليها من الغارات الجوية الإسرائيلية. أصبحت الأنفاق؛ التي تربط غزة بمصر على وجه الخصوص؛ شريان الحياة الاقتصادي للقطاع المحاصر وقناة رئيسية لتهريب الأسلحة (…). لكن الأنفاق لم تكن كافية للحؤول دون “تراجع التنمية في غزَّة”، وفق عالمة السياسة الأميركية سارة روي. صحيح أن القطاع خلال السنوات الأولى من حكم “حماس” شهد نمواً اقتصادياً (2007-2022)، لكن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي انخفض بمعدل 2.5٪ سنوياً، مع ارتفاع عدد السكان بشكل حاد. وطوال الخمسة عشر عاماً الماضية كان مسؤولو الأمم المتحدة يحذرون من أن غزَّة على شفا أزمة إنسانية.

خلال هذه الفترة ذاتها، طوَّرت “حماس” وإسرائيل أسلوباً للتواصل فيما بينهما؛ وهو ما يسميه بعقوني بـ”توازن العداوة“. أصبح إطلاق الصواريخ من غزَّة وسيلة للتفاوض مع إسرائيل. فمقابل وقف إطلاق النار، كانت “حماس” تسعى إلى تخفيف قيود الحصار والحصول على تصاريح عمل لمزيد من العمال الفلسطينيين الذين يعبرون إلى إسرائيل. في المقابل، كانت إسرائيل ترد على صواريخ “حماس” باتباع سياسة “جز العشب”، كما وصفها الاستراتيجيون العسكريون الإسرائيليون في تعبيرهم الملطف المروع لعمليات القصف الجوي والمدفعي التي كانت إسرائيل تشنها ضد المدنيين إلى أن تتمكن من الادعاء بأنها نجحت في “ردع” حركة “حماس” بما فيه الكفاية حتى الجولة التالية التي لا مفر منها.

بالنسبة لإسرائيل، أصبحت “حماس” مفيدة كحكومة فعَّالة، مسؤولة عن إدارة شؤون 2.5 مليون شخص محاصرين في غزة، ومسؤولة أيضاً عن احتواء أنشطة الجماعات المسلحة الأخرى، كما تفعل السلطة الفلسطينية في الضفة. في الوقت نفسه، حافظت “حماس” على موقفها بأنها تمثل مقاومة لا تنحني لإسرائيل (…).

المؤسسة الأمنية الإسرائيلية: الإخفاقات التراكمية في 7 تشرين الأول/أكتوبر دليل على أن حكومات نتنياهو لم تفهم “حماس” يوماً

بالنسبة لنتنياهو، كان لهذا الترتيب ميزة إضافية. فمن خلال إبقاء الضفة تحت إدارة “السلطة” وإبقاء غزة تحت إدارة “حماس” أبقت إسرائيل البيت الفلسطيني منقسماً، وبالتالي يسهل السيطرة عليه. وعلى مدى عقد من الزمن، سمحت حكومات نتنياهو في تسهيل تحويل مليارات الدولارات من قطر إلى “حماس”. “لطالما كان لنتنياهو مصلحة في ذلك كون “حماس” تشاركه رفض حل الدولتين. إن استراتيجية فرّق تسُدْ الساخرة التي اتبعها، والتي لا يبدو أنه استسلم لها بالكامل بعد، أدَّت حتما وبشكل حتمي تقريباً إلى ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر”، كما يقول حسين إبيش، وهو باحث مقيم في معهد دول الخليج العربية.

لكن نتنياهو لم يكن مجرد ساخر. ويبدو أنه، مثله مثل قسم كبير من مؤسسة الدفاع الإسرائيلية، كان يعتقد حقاً أن عبء الحكم وتولي السلطة أدَّيا إلى تحول جوهري في الاعتبارات الاستراتيجية الخاصة بـ”حماس”، وأن هذا ما جعلها تهدأ في واقع الأمر.

إسرائيل تدفع ثمن تناقضها

لقد أصبح من الواضح الآن أكثر من أي وقت مضى أن سياسة إسرائيل تجاه “حماس” كانت مبنية على التناقض. فمن ناحية، برَّرت إسرائيل حصارها العقابي وقصفها الدوري لغزَّة على أساس أن “حماس” هي “جماعة إرهابية تسعى إلى تدمير إسرائيل”. ومن ناحية أخرى، تصرفت إسرائيل كما لو أن “حماس” قد تخلت عن التزامها بتدمير إسرائيل وعن أي رؤية بديلة للاحتلال، وأنها ستكون راضية لو اكتفت فقط بإدارة غزَّة إلى الأبد.

لكن داخل “حماس” وبين مؤيديها، كان التصور مختلفاً تماماً، لخّصه لي عزّام التميمي عبر الهاتف من اسطنبول، قائلاً: “حماس لم تهدأ ولم يتم تهدئتها.. إنها تخوض حروب مستمرة تتخللها فترات استراحة.. لطالما كانت تستعد للرد على الاستفزازات الإسرائيلية، وأعني هنا الاستعدادات التي تُرجمت بعملية طوفان الأقصى، فهذه العمليات ليست من النوع الذي يحدث بين عشية وضحاها”.

لا يختلف التحليل الذي قدمه التميمي كثيراً عن رؤية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لـ”حماس اليوم”، التي تعتبر الإخفاقات التراكمية في 7 تشرين الأول/أكتوبر دليلاً على أن حكومات نتنياهو لم تفهم “حماس” يوماً.

خلال محادثتنا في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، قال كوبي مايكل، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي التابع للجيش الإسرائيلي: “اعتقدنا أنه إذا رشونا حماس وسهلنا وصول الأموال إليها وتمكينها من تطوير اقتصاد القطاع ستصبح أكثر خضوعاً للمساءلة من قبلنا.. كان ذلك مجرد وهم.. كان من الصواب أن نعتقد أنهم الحمساويين يشبهوننا: لا يمكن إدارتهم”.

مع استمرار حرب غزَّة للشهر السادس على التوالي، يُحذّر محللو السياسة الإسرائيلية على نحو متزايد من أن الخطاب العدائي المتشدد الذي يستخدمه قادة “حماس” لا بد أن يُؤخذ حرفياً. وأنه عندما يتعهدون بالقتال حتى يتم تدمير إسرائيل، فإنهم يعنون ذلك.

في تحليله للمنشورات والبيانات التي تصدرها “حماس”، يقول مايكل ميلشتين، وهو ضابط سابق في جهاز “الموساد”: “أنا أقرأ بياناتهم بلغتهم الأصلية، وأنا ببساطة أصدقهم”. ومن وجهة نظر ميلتشتين، فإن أحد الأسباب الرئيسية للفشل العسكري الإسرائيلي الذريع يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر هو أن وكالات الاستخبارات، بل والقادة السياسيين في البلاد، “نسوا طبيعة عدوهم وفشلوا في ملاحظة التهديدات العلنية المتعددة التي أصدرها بأن عملية مسلحة واسعة النطاق ضد إسرائيل كانت تلوح في الأفق”.

وفي نظر أغلبية الإسرائيليين لن يكون أي مظهر من مظاهر السلام ممكناً إلا بعد أن تختفي “حماس” من الوجود. ومع ذلك، عندما تحدثت أنا وباسكن مرة أخرى مؤخراً، أخبرني أنه أعاد الاتصال بغازي حمد. “الاتصال الأول كان منذ حوالي شهرين، وكان الأمر غير سار.. السؤال الأساسي الآن هو: هل من الممكن أن يكون لنا دور بنَّاء في إنشاء قناة خلفية سرّية؟ الأمر ليس واضحاً بعد”.

أي “حماس” في اليوم التالي؟

اليوم، وكما كانت الحال قبل ثلاثين عاماً، تستمد “حماس” قدراً كبيراً من شعبيتها من اليأس الفلسطيني. في عام 1998، قال مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين للصحافي البريطاني الراحل إيان بلاك (صحيفة الغارديان): “عندما يزداد القمع، يبدأ الناس بالبحث عن الله”. فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه الخبير في “مركز الرأي الفلسطيني” خليل الشقاقي، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، أن 72% من الفلسطينيين في غزة والضفة يعتقدون أن “حماس” كانت على حق في شنّ عملية “طوفان الأقصى” على الرغم من القتل والدمار الذي أحدثه رد إسرائيل. فإذا كانت “حماس” ستبقى “قوة” في اليوم التالي للحرب – كما يعتقد كثيرون – في اليوم التالي لتوقف القتال، فأي شكل من القوة ستكون؟ وبأي عواقب؟

يجادل مؤيدو إعادة دمج “حماس” في هياكل السياسة الفلسطينية أن زعماء الحركة كانوا جادين ذات يوم في السعي إلى حل مؤقت يتمثل في إقامة دولة فلسطينية على جزء من فلسطين التاريخية، وربما هم على استعداد للقيام بذلك مرة أخرى في ظل الظروف المناسبة. وعن انفتاح “حماس” على حل الدولتين، والذي تم التعبير عنه في ميثاق الحركة المعدل لعام 2017، يقول هيو لوفات: “لقد كان الأمر حقيقياً.. من الواضح أن هناك جناحاً سياسياً ومعتدلاً نسبياً داخل الحركة.. السؤال هو ماذا يحدث مع عناصر هذا الجناح؟ هل انفصلوا عن الحركة؟ هل سيتغلب عليهم المتشددون؟ أم أنهم سيجدون طريقة لإعادة توجيه الحركة نحو المسار السياسي”؟

هؤلاء الذين ينظرون إلى الدور المستقبلي الذي تلعبه “حماس” في السياسة الفلسطينية باعتباره ضرورة – وهي وجهة النظر التي تفترض استعداد “حماس” للانضمام إلى المؤسسات التي كانت تحتقرها – يزعمون أن استبعاد “حماس” لن يكون عملاً ديموقراطياً، فضلاً عن احتمال إراقة الدماء في المستقبل. وقال لي بعقوني: “إن إدراجهم شرط أساسي لإنشاء قيادة فلسطينية تمثل شعبها، بغض النظر عن رأينا بشأن تكتيكاتهم أو أيديولوجيتهم”.

في الوقت نفسه، عندما سألت بعقوني عن احتمالات العودة إلى نموذج الدولتين بعد الحرب، لم يكن متفائلاً. وقال: “إذا كانت هناك عملية سياسية من شأنها أن تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 – والتي لا أعتقد أنها ستوجد على الإطلاق، كما هو الحال في دولة ذات سيادة حقيقية- أعتقد أن حماس، سياسياً واستراتيجياً، ستتعامل معها بشكل فعَّال للغاية، وأعتقد أنه سيتم دفعها للاعتراف بإمكانية مثل هذه العملية الدبلوماسية”.

وأضاف بعقوني “ولكن على خلفية الدمار الشامل في غزَّة، الذي تسببت به الآلة الحربية الإسرائيلية، فإن الحديث عن استئناف عملية حل الدولتين هو في الأساس إلهاء.. أنا لا أرى أي نوع من العملية السياسية الفعَّالة التي تخرج من هذا الخطاب القديم الذي يعيدنا إلى التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين”.

في جميع الاحتمالات، قد لا يتم اختبار استعداد قيادة “حماس” للإنخراط مرة أخرى في المسار السياسي. وبحسب ناثان براون، من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: “أعتقد أن فكرة دمج حماس رائعة لكنها أصبحت الآن مستحيلة.. أنت بحاجة إلى موت كل أبناء الجيل الحالي من القادة الأميركيين قبل أن يصبح ممكناً سياسياً أن تتوسط واشنطن في الأمر” (…).

لقد ترنح الرأي العام الإسرائيلي بشكل كبير بعد عملية “طوفان الأقصى”: تراجعت شعبية نتنياهو، لكن بديله لن يكون حمامة سلام. وعلى الرغم من أنه في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين على إجراء محادثات مع عرفات؛ الذي يعتبره معظم الإسرائيليين إرهابياً؛ إلا أن التوقيع على اتفاقيات “أوسلو” لم يكن ممكناً إلا بعد أن وافقت منظمة التحرير على الامتثال لمجموعة من الشروط المسبقة. وعلى النقيض من ذلك، لا يمكن لأي من قادة “حماس” أن يتخلى عن الكفاح المسلح أو يوافق على الاعتراف بإسرائيل.

هناك ميل للنظر إلى أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر والحرب المستمرة من خلال منظور التمزق. يبدو أن الموت والدمار على هذا النطاق الهائل يشيران إلى ظهور مرحلة جديدة. لكن أكثر ما يخيف هو أن يكون الإطار السياسي المرتقب في اليوم التالي مشابهاً لذاك الذي كان عليه في يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر 2023.. هذا حقاً مخيف للغاية، خصوصاً بعد كل هذا القتل والدمار..

– ترجمة بتصرف عن “الغارديان“.

(*) جوشوا ليفر، محرر مساهم في التيارات اليهودية وعضو في هيئة تحرير المعارضة. نشر مقالات وتقارير في “الغارديان” و”ذا ناشن” و”جاكوبين” و”ماغازين +972″.. وأماكن أخرى. وله مؤلفات عدة عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعن اليهودية.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "إيكونوميست": الفشل الإسرائيلي في غزة.. استراتيجي وعسكري وأخلاقي