السؤال العربي: ماذا لو خرجت إسرائيل من حربها “منتصرة”؟

ما زلنا، وإبادة الفلسطينيين مستمرة، نتناقش حول مستقبل العالم على ضوء هذه الإبادة. لهذا النقاش المستعر عنوان رسمي وهو "اليوم التالي لحرب غزة"، ابتكره الفريق الحاكم في البيت الأبيض في سعيه لصنع وضع مختلف في فلسطين العربية، أي في غزة والضفة الغربية. أتصوّر أن لديهم مشروع خطة وأفكاراً كثير منها مشوش أو رغائبي أو مبني على مسلمات بعينها من واقع مصالحهم وطموحاتهم.

من المسلمات مثلاً أن النكبة الأولى في فلسطين أثمرت دولة إسرائيلية ووعداً غير قابل للتنفيذ بإقامة دولة فلسطينية، وأنها، وأقصد النكبة، نشأت وترعرعت في أحضان تفاهم غربي ـ سوفييتي ونفاق متشعب داخل القوى السياسية الفاعلة في دول أوروبا الخارجة لتوها مع أمريكا من حرب عالمية، وأنها، وما زلت أقصد النكبة الأولى، وإن حقّقت بعض أهدافها الإسرائيلية، فقد تسببت في تغيرات بعضها حاد في عدد من الأقطار العربية وحفّزت المقاومة ضد الاستعمار الغربي حتى تُحقّق لنصر. من المسلمات أيضاً، أن فضلاً كبيراً يعود إلى المحرقة التي استخدمها الغرب وإسرائيل كدرع يحمي الدولة الإسرائيلية الناشئة من غائلة التقلبات في العلاقات الدولية ومن غضب العرب حين وجد.

***

أبدأ بالمحرقة باعتبار أنها، وهي المبرر الأحدث لاستمرار الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، صارت ضحية من ضحايا التوحش الإسرائيلي في الحرب ضد سكان غزة. لا غرابة في التصريح بأن رد الفعل الإسرائيلي على “طوفان الأقصى” ربما “حرق المحرقة” أو أنه دنّس، بين ما دنّس، قدسيتها ومس بالضرر البالغ الهالة التي أحاطت بها. لا غرابة، ولكن أيضاً لا مبالغة في القول بأن المحرقة كرمز محصّن في دول عديدة بقوانين وتشريعات مختلفة ضد النقد والاعتراض والاحتجاج راح يفقد الكثير من هذه الحصانة. أغفل المسئولون الإسرائيليون والأمريكيون وبعض الأوروبيين حقيقة أن توحش جنود بني إسرائيل ضد شعب غزة وبخاصة أطفالها سوف يطفئ وهج المحرقة النازية، وبالتالي يُضعف من شرعية دولة إسرائيل. لا جدال في أن جيش إسرائيل تجاوز بأفعاله في غزة ما فعله النازيون باليهود، هذا على الأقل صار جزءاً مما يُردّده ملايين المشاهدين أمام شاشات التلفزيون وأجهزة المحمول.

***

لا أظن أنني على امتداد حياتي رأيت مسئولاً سياسياً منكسراً بالحرج وخيبة الأمل كما رأيت بالأمس المسئول الأول في ألمانيا يبرر مواقف حكومتها وبخاصة مواقف وزير خارجيتها من حرب غزة ثم التراجع عن هذه المواقف. أسمع أن ألمانيا حالة خاصة بسبب ما يسمى “عقدة الذنب”. أتجاسر مرة أخرى لأتوقع تطورات في ألمانيا تُثبت أن هذه العقدة الشريرة جاري حلها، ولأتوقع أن تتخلى الأجيال الجديدة في ألمانيا عن احترام ما رتّبته هذه العقدة من التزامات.

***

 إذا خرجت إسرائيل من حربها الراهنة منتصرة، وأمريكا تريدها أن تخرج منتصرة، فسوف تطبق على سياستها الإقليمية خيار الهيمنة الذي تجيده أكثر من غيره من تفاصيل تاريخها الحديث، والأحدث كما نرى الآن في فلسطين المحتلة حيث تمارس كل ما هو قبيح ووحشي في هذا الخيار

رحنا أيضاً نراقب باهتمام مواقف وسياسات رسمية أوروبية تعكس حال ارتباك. تحدثت مع مصدر قريب من مركز صنع القرار في الاتحاد الأوروبي. حاولت أن أتعرّف على العوامل التي دفعت حكومات أوروبا على تغيير موقفها من حرب غزة.. فهمتُ أن العوامل أربعة وهي أولاً، ضغط الرأي العام في داخل كل دولة. وثانياً، الضعف الظاهر في أداء واشنطن إزاء تطورات الأزمة في غزة. وثالثاً، انحدار مكانة ألمانيا في القارة الأوروبية. ورابعاً، فشل فرنسا في الحلول محل ألمانيا بل وانكشاف تصاعد جديد في عنصرية قطاعات بعينها في نخبتها السياسية.

***

لم يعد خافياً الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة ودول أوروبية على الدول العربية للقبول بصيغة مناسبة لمستقبل الحكم في غزة وخلق نواة لشرق أوسط جديد. مرة أخرى يتداول الطرفان الأمريكي والإسرائيلي حول بدائل تضمن لإسرائيل الهيمنة التي تحقق الشروط التالية لأي بديل يُتفق عليه. من هذه البدائل:

أولاً: يبقى الأمن في يد إسرائيل في شكل احتلال إسرائيلي مباشر يمارس مهام الأمن العسكري وشئون الإدارة المدنية.

ثانياً: يبقى الأمن في يد إسرائيل في شكل احتلال عسكري وتسليم الإدارة المدنية إلى حكومة عشائر تخضع لسلطة جيش إسرائيل.

ثالثاً: في وجود سلطة الاحتلال وحكومة عشائر يجري تشجيع السكان الفلسطينيين على الهجرة عن طريق تنفيذ خطة تتضمن تغيير مناهج التعليم والتوسع في استيراد عمال من دول نامية وتقييد فرص العمل بالنسبة للفلسطينيين.

رابعاً: الانضمام إلى “جامعة إبراهيمية” تضم الدول العربية الموقعة على اتفاقات صلح أو تعاون أو تبادل بعثات دبلوماسية مع إسرائيل. يعتمد هذا الشرط على تحليل واسع الانتشار في صفوف نخب أوروبية حاكمة يشير إلى أن السياسة الحذرة التي انتهجتها الدول العربية المتعاقدة مع إسرائيل خلال الحرب الوحشية ضد أهل غزة والحرب المستمرة منذ سنوات ضد أهل الضفة الغربية، هذه السياسة، وسياسات أخرى، جاءت نتيجة الالتزامات التعاقدية والمعنوية التي فرضتها العلاقات الثنائية القائمة مع إسرائيل.

***

لا أخفي، ولن أخفي في أي وقت، تعاطفي مع يهود عرفتهم في الولايات المتحدة وأقل منهم في الأرجنتين وأكثر دول أوروبا طلقوا الصهيونية منذ زمن ويهود في مواقع عديدة اكتشفوا مؤخراً خلال الحرب على غزة أنهم كانوا مخدوعين. ولكن تبقى حقيقة أخشى أنها صارت واقعة وهي أن نسبة كبيرة في الشارع الإسرائيلي راحت في السنوات الأخيرة تتطرف في يمينيتها وعنصريتها إلى حد الهوس، وبعضه شرير ومرعب. أفهم أن تيار التطرف اليميني جزء من ظاهرة عامة تجتاح ميادين السياسة في أوروبا ولكن أيضاً في أمريكا، وأن صحوة التطرف الصهيوني يحسبها البعض رد فعل منطقيا للظاهرة، إلا أنني أفهم أيضاً أن لهذه الظاهرة من بين اليهود ضحايا في كل مكان، رأيناهم يتظاهرون معلنين الخوف على مستقبل إسرائيل من تمدد الظاهرة. لا شك أن التطرف في إسرائيل يُهدّد الأمل في أن يكون للعرب، كل العرب دول مستقلة كاملة السيادة. يدفعنا لهذا اليقين اقتناعنا نحن وغيرنا بأنه إذا خرجت إسرائيل من حربها الراهنة منتصرة، وأمريكا تريدها أن تخرج منتصرة، فسوف تطبق على سياستها الإقليمية خيار الهيمنة الذي تجيده أكثر من غيره من تفاصيل تاريخها الحديث، والأحدث كما نرى الآن في فلسطين المحتلة حيث تمارس كل ما هو قبيح ووحشي في هذا الخيار، وتُجيد أو بالأحرى تعتنق منه وتطبق مبدأ إسرائيل “فوق الكل Über alles”، مبدأ استعارته من مرحلة سوداء في تاريخ شعبها.

إقرأ على موقع 180  ما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.. ثلاثة سيناريوهات!

***

كثيرون من حولنا يعتقدون أن هناك ما ينبئ بأن المستقبل الوشيك لإسرائيل سوف يحمل لنا وللأمل الفلسطيني سوء المصير ما لم نسرّع الخطى نحو تحرير منظومة السياسة الخارجية المصرية من قيود فرضتها ظروف مراحل سابقة، كشرطٍ كافٍ وضروريٍ نحو بناء منظومة فعّالة للأمن الإقليمي تصد عن الأجيال العربية الجديدة هذا المصير.

***

هنا يطول الحديث، ويجب أن يطول.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  الحوثي يُقارع أمريكا في "الأحمر".. الدخول إلى "ملعب الكبار"!