يرفض الرئيس الروسي الأخذ بالرواية الأميركية بأن منفذي الهجوم الإرهابي على قاعة الموسيقى في “كريكوس سيتي هول” بضاحية كراسنوغورسك شمال غرب موسكو في 22 آذار/مارس الماضي، ينتمون إلى تنظيم “داعش-ولاية خراسان”، الذي ينشط في أفغانستان وباكستان ودول آسيا الوسطى. وعوض ذلك، يُؤكد المحقّقون الروس امتلاكهم أدلة على وجود علاقة بين المنفذين و”القوميين الأوكرانيين”.
لا يغيب عن ذهن بوتين أن الهجوم أتى بعد أيام من فوزه “الاستثنائي” بولاية خامسة لست سنوات أخرى، وأن الهدف الرئيسي منه كان اظهاره بمظهر الضعيف، وأن كييف وحلفاءها هم أكثر من يود أن يراه على تلك الصورة، وليس بصورة الرئيس، الذي لا يزال يحظى بدعم شريحة واسعة من الروس برغم أن الحرب المستمرة منذ سنتين ونيف.
وبرغم التبني الصريح الصادر عن “داعش-ولاية خراسان”، فإن لدى بوتين ألف سبب وسبب، كي يضع الهجوم الدامي في سياق الحرب الأوسع التي يخوضها ضد أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي، وعدم اعتبارها هجوماً إرهابياً خالياً من الدوافع السياسية في هذه اللحظة. لعل هذا ما يُفسّر اصرار واشنطن على أن الهجوم كان بدافع الإرهاب المحض، وأن الاستخبارات الأميركية قامت بواجبها عبر ابلاغ السلطات الروسية قبل أسبوعين، من مغبة تعرض روسيا لهجوم إرهابي.
مع الحديث الأوكراني عن النجاح في “تحييد ثلث” القطع البحرية لأسطول البحر الأسود، يبقى العامل الحاسم في البر.. وأي اختراق روسي بري جديد في الصيف، سيخلق وقائع جديدة في المعادلات السياسية. وما يمكن أن تقبل روسيا التفاوض عليه الآن، لن يكون مقبولاً إذا ما نجحت براً في الأشهر القليلة المقبلة
ومما زاد من الالتباس والغموض، كون الهجوم استهدف قاعة الموسيقى، التي يملكها قطب العقارات الآذري آراس أغالاروف المقرب من بوتين. ومعلوم أنه في ذروة الاتهامات الأميركية بحصول تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 والتي أسفرت عن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، سرت تقارير أن أغالاروف كان صلة الوصل بين بوتين وقطب العقارات الأميركي خلال الحملة الانتخابية لعام 2016.
على أن ليس هذا الهجوم وحده، الذي يجعل كييف وحلف الأطلسي يتوجسان خيفة من أن روسيا تعد لهجوم واسع النطاق على الجبهات. هناك أسباب تتعلق بأوكرانيا نفسها وبالدول الداعمة بدءاً من الولايات المتحدة المنشغلة بالاستعداد للانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وصولاً إلى أوروبا وانتخاباتها في حزيران/يونيو المقبل أيضاً.
وما تزال أوكرانيا تعاني نقصاً في الذخائر لسببين؛ أولهما، تجميد المساعدة الأميركية البالغة 61 مليار دولار في الكونغرس. ثانيهما، استمرار حرب غزة واضطرار الولايات المتحدة إلى ارسال معظم ما يتوافر لديها من قذائف إلى إسرائيل. يُضاف إلى ذلك، فشل الاتحاد الأوروبي في سد الفراغ الأميركي، مما جعل الجمهورية التشيكية تنبري للبحث عن 800 ألف قذيفة من الآن وحتى نهاية العام. وفي الفترة ذاتها، تكون روسيا قد انتجت 3 ملايين قذيفة، فضلاً عما تتلقاه من كوريا الشمالية وإيران، وفق المصادر الغربية.
وإلى النقص في الذخيرة، هناك نقص في أعداد المجندين الأوكرانيين. والرئيس فولوديمير زيلينسكي يتردد في تعديل قانون التجنيد، بحيث يُخفّض سن المدعوين إلى الخدمة العسكرية من 27 عاماً إلى 25 عاماً، وفق ما يلح رئيس الأركان الجنرال أولكسندر سيرسكي، لكن زيلينسكي يخشى من انعكاس ذلك على شعبيته. كما أن توفير الأموال اللازمة لزيادة عديد الجيش تواجه عقبات مالية، في ضوء استمرار تجميد المساعدة الأميركية. أما الأوروبيون، ولا سيما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فيتحدثون عن مشاريع بعيدة المدى لتنشيط صناعة الاسلحة في أوكرانيا، بحيث يقل اعتمادها على الخارج.
الواقع التسليحي الحالي لكييف، انعكس في انتقال الجيش الأوكراني مضطراً من الهجوم إلى الدفاع. وتقوم وحدات الهندسة ومتعاقدون مدنيون ببناء خطوط أوكرانية دفاعية في الوقت الحاضر على طول الجبهة الممتدة على نحو ألف كيلومتر، من خاركيف شمالاً إلى نهر دنيبرو جنوباً. وهذا بحد ذاته كافٍ ليشير إلى وجود مخاوف جدية من توقع هجوم روسي. ويسعى الأوكرانيون إلى تقليد الروس الذين شيّدوا العام الماضي خطوطاً دفاعية أفشلت الهجوم الأوكراني المضاد، علماً أن زيلينسكي قاوم مراراً فكرة بناء خط دفاعي، من منطلق معنوي. فهذا الخط قد يتحول ـ من وجهة نظره ـ مستقبلاً إلى بند تفاوضي أو يصير بحكم الأمر الواقع الحدود الجديدة لأوكرانيا، بينما كانت طموحات زيلينسكي قبل عام الوصول إلى شبه جزيرة القرم ورفع العلم الأوكراني هناك.
وبعد فوز بوتين بالولاية الخامسة، يخشى الغرب اعلان تعبئة روسية جزئية جديدة لمئات الآلاف من الروس، بهدف استعادة المبادرة الهجومية. اجراء قد يكون تمريره أسهل على خلفية الهجوم على “كروكوس سيتي هول”.
كما يكثر الحديث عن سيناريو تكون فيه خاركيف، ثاني كبريات المدن الأوكرانية، هدفاً للهجوم الروسي الجديد في الصيف المقبل. وبناء على هذه المخاوف شرع الجيش الأوكراني في الأسابيع الأخيرة في تشييد خطوط دفاعية قوية حول هذه المدينة.
وفي مواجهة التفوق الروسي البري، صعّدت أوكرانيا من وتيرة هجماتها بالمُسيّرات على مصافي النفط الروسية أملاً في عرقلة خطوط الإمداد إلى الجبهات. وتتحدث مجلة “الإيكونوميست” البريطانية عن تضرر 7 في المئة من صناعة النفط الروسية بفعل الهجمات الأوكرانية، حتى قيل أن الولايات المتحدة طلبت من كييف عدم التوسع في ضرب المنشآت النفطية الروسية، حتى لا يكون ذلك سبباً في ارتفاع أسعار النفط العالمية، خصوصاً أن ذلك قد يُضر بفرص فوز جو بايدن بولاية ثانية بعد سبعة أشهر.
يكثر الحديث عن سيناريو تكون فيه خاركيف، ثاني كبريات المدن الأوكرانية، هدفاً للهجوم الروسي الجديد في الصيف المقبل. وبناء على هذه المخاوف شرع الجيش الأوكراني في الأسابيع الأخيرة في تشييد خطوط دفاعية قوية حول هذه المدينة
ومع تأكيد أوكرانيا على انجازاتها في قصف العمق الروسي ودفع منشقين روس إلى التسلل إلى القرى الحدودية واشغال الجيش الروسي، ومع الحديث عن النجاح في “تحييد ثلث” القطع البحرية لأسطول البحر الأسود، يبقى العامل الحاسم في البر.. وأي اختراق روسي بري جديد في الصيف، سيخلق وقائع جديدة في المعادلات السياسية. وما يمكن أن تقبل روسيا التفاوض عليه الآن، لن يكون مقبولاً إذا ما نجحت براً في الأشهر القليلة المقبلة.
وفي ما يشبه السباق بين الهجوم الروسي وحصول أوكرانيا على مقاتلات “إف-16” الأميركية وعلى منظومات “باتريوت” للدفاع الجوي، هناك أشهر حاسمة حتى تجف التربة في سهول أوكرانيا من ذوبان الثلوج، لتبدأ جولة أخرى من حرب مديدة. فهل تصمد “دفاعات الربيع” الأوكرانية أمام “هجوم الصيف” الروسي المتوقع؟
في الانتظار، يتعين التوقف ملياً عند تحذير أصدره وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في وقت سابق من هذا الشهر عقب اجتماع للدول الداعمة لكييف في قاعدة رامشتاين الجوية الأميركية في ألمانيا، عندما تحدث للمرة الأولى عن أن مستقبل أوكرانيا “في خطر”. تزامن ذلك مع قول المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف للمرة الأولى في حديث أجرته معه صحيفة روسية، قبل عشرة ايام “نحن في حالة حرب. نعم لقد بدأ الأمر كعملية عسكرية خاصة، لكن منذ شارك الغرب مجتمعاً في كل هذا إلى جانب أوكرانيا، بالنسبة إلينا، أصبحت حرباً”.