حتى كتابة هذا المقال، عمّت التظاهرات أكثر من ستين جامعة في الولايات المتحدة أبرزها الآتية: جامعة كولومبيا في نيويورك، جامعة ولاية تكساس، جامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلوس، جامعة هارفارد، جامعة براون في مدينة بروفيدنس، جامعة ميشيغان في مدينة آن أربور، جامعة كاليفورنيا بوليتكنيك في مدينة هومبولت، جامعة ييل، جامعة مينيسوتا في سانت بول، جامعة كال بولي هومبولت بكاليفورنيا..
تراوحت طبيعة التحركات بين اعتصامات تقام خلال النهار فقط، واعتصامات مفتوحة من خلال خيم نصبها الطلاب في حرم بعض الجامعات. هذا الحراك الطلابي الذي بدأ يتدحرج من أميركا نحو أوروبا، أحرج إدارات الجامعات الأميركية لأنها من جهة، تحرص على حرية الرأي والتعبير لا سيما مع إرث الحريات الأكاديمية المتوارث في الولايات المتحدة. ولكن من جهة أخرى، فإنّ اللوبي اليهودي في أميركا شديد التجذر في الأوساط الأكاديمية. وبالتالي، جنّد هذا اللوبي قوته في الضغط على رؤساء الكليات الجامعية مستعملاً العبارة – اللازمة: “معاداة السامية”.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تعرّضت رئيسة جامعة كولومبيا، نعمت شفيق، لانتقادات من بعض الجهات المانحة ومجموعات الخريجين وأعضاء في الكونغرس الأميركي ومعظمهم من الجمهوريين، وطالبها بعضهم بالاستقالة لعدم قدرتها على إنهاء الاحتجاج واصفين المخيم الطلابي بأنه “معادٍ للسامية”. وبرغم أن شفيق (مصرية الأصل) حاولت استرضاء اللوبي اليهودي عبر مقال نشرته في صحيفة “وول ستريت جورنال”، شبهّت فيه هجمات السابع من أكتوبر بـ 11 أيلول/سبتمبر 2001، الا أنّ الحملة ضدها لم تهدأ لا بل أصبحت تواجه جبهتين: الأولى؛ تتمثلّ بالطلاب المتظاهرين الذين زادوا غضبهم عليها وعلى الجامعة، عقب طلبها من شرطة مدينة نيويورك اقتحام حرم الجامعة لفض الاعتصام الطلابي، ما أسفر عن اعتقال 108 أشخاص. أما الجبهة الثانية، فهي التي يقودها عتاة اليمين الأميركي وفئات حزبية جمهورية ومنظمات اللوبي الإسرائيلي الذين لم يعجبهم مضمون شهادتها التي ألقتها في جلسة استماع حول ما يسمى “تزايد العداء للسامية داخل حرم جامعة كولومبيا”.
وكانت إدارة الجامعة، قد أوقفت ابنة النائبة الديموقراطية بمجلس النواب الأميركي، إلهان عمر، وطالبتين آخريتين عن الدراسة. والجدير بالذكر أنّ عمر طلبت استجواب عدد من الإداريين بالجامعة بشأن سوء معاملة الطلاب أثناء اعتصامهم في كانون الثاني/يناير الماضي. وتستمر لغاية هذا اليوم، المطالبات باستقالة شفيق من منصبها.
إذاً، وبعد كل هذا السرد، لا بدّ من تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً؛ تحوّلت القضية من قضية حريات عامة تخصّ جامعات محلية إلى قضية رأي عام لها أولويتها في ساحات ومساحات النقاش السياسي والإعلامي في الولايات المتحدة بدليل أنّ الرئيس الأميركي، جو بايدن، علّق على الموضوع شخصياً وقال “إني أؤمن بحرية التعبير والنقاش وعدم التمييز وهذه كلها أمور مهمة في حرم الجامعة”.
ثانياً؛ دخلت هذه المسألة في سياق الصراع المحموم بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، اللذين يستعدّان لمؤتمراتهما الداخلية في الصيف المقبل، على مسافة أشهر قليلة من الإنتخابات الرئاسية المقررة في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وفي هذا السياق، حذرّت صحيفة “نيويورك تايمز” في عددها الصادر يوم الاثنين، في 22 نيسان/أبريل، من سيناريو وصفته بـ”الكارثي”، في حال استطاع المحتجون ايقاف المؤتمر العام للحزب الديموقراطي والذي سيعقد في شيكاغو. الوضع الحالي في الكليات الجامعية يشبه – بحسب الصحيفة أيضاً – ما حدث عام 1968 عندما حصلت اشتباكات بين مناهضي حرب فييتنام والشرطة الأميركية خلال المؤتمر العام للحزب الديموقراطي. وكما هو معلوم، فإنّ انقساماً حاداً يسود في أوساط الحزب الديموقراطي على خلفية الحرب على غزة، بين تيار تقليدي محافظ مؤيد لإسرائيل، وآخر يعتبر أكثر تقدميةً. هذا الخلاف قد ظهّرته بشكل أكبر موقف إدارة بايدن من الحرب الإسرائيلية، ومن المرجّح أن يزيد هذا الانقسام كلما اقتربنا باتجاه الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، لا سيما إذا قرّر الجيش الإسرائيلي اجتياح رفح في الأيام والأسابيع المقبلة.
هل يكون هذا الحراك المناهض لإسرائيل واجرامها في الجامعات الأميركية، ممهداً لخروج الجيش الإسرائيلي من مستنقع غزة كما أدّى الحراك الطلابي الاعلامي لتسريع الانسحاب من مستنقع فييتنام في القرن الماضي؟
ثالثاً؛ اقتحام الشرطة حرم جامعة كولومبيا يحدث للمرة الأولى منذ الاحتجاجات الطلابية التي رافقت الحرب الأميركية على فييتنام، في ستينيات القرن الماضي. ومن المعلوم أنّ الرأي العام الأميركي قد غيّر حينها نظرته لهذه الحرب، بعد أن تكشّف دور الصحف المحلية الحكومية في اخفاء الخسائر التي مُنيَ بها الجيش الأميركي هناك. وكانت شرارة تلك الاحتجاجات إقدام عدد من الصحافيين على كشف وثائق سرية كان البنتاغون يخفيها وتتضمن معلومات حسّاسة حول الحرب ومجرياتها. ساهم نشر الصحافة الأمريكية لأوراق البنتاغون في تغيير مزاج الرأي العام الأميركي بعد أن ساهمت في توعيته حيال الأرقام والمعطيات، وكلها عوامل أدّت في نهاية المطاف إلى تعجيل انسحاب القوات الأميركية من “مستنقع فييتنام”.
رابعاً؛ ما تشهده الجامعات راهناً هو امتداد للمعركة السياسية التي بدأت في الجامعات الأميركية منذ بداية الحرب الإسرائيلية، الأمر الذي استفزّ اللوبي الإسرائيلي ودفعه لنشر مقالات صحفية ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تهاجم بعض الكليات الجامعية معتبرة إياها بوقاً لمعاداة السامية. وفي هذا السياق، تعرضت رئيسة جامعة هارفرد، كلودين غاي، لردود فعل قوية من الأوساط المؤيدة لإسرائيل بعد أن وضعت المظاهرات الطلابية في نطاق “حرية التعبير”. تصريحها هذا دفع بسبعين نائباً أميركياً لتقديم رسالة تطالب باستقالتها. وعلى الضفة الأخرى، ساندها أكثر من 700 من هيئة التدريس في الجامعة. انتهت المعركة باستقالة غاي من منصبها في أوائل العام الحالي. وعلى المنوال نفسه، تعرّضت رئيسة جامعة بنسلفانيا، ليز ماغيل، لانتقادات حادة بسبب موقفها من التظاهرات الطلابية، ما أدّى إلى استقالتها أيضاً في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي.
خامساً؛ من المحتمل جداً أن يستمر الحراك الطلابي الأميركي وأن يتطور وينتقل إلى العواصم الأوروبية التي دأب الناشطون فيها، على تنظيم وقفات احتجاجية ومظاهرات أسبوعية، كل يوم سبت. واللافت للإنتباه أنّه وفي بعض الحالات، ساند الأساتذة الطلاب حيث نظم المئات من أعضاء هيئة التدريس بجامعة كولومبيا (الاثنين في 22 أبريل/نيسان) إضراباً عن العمل فيما قرّرت إدارة الجامعة استئناف الدراسة عن بعد (أونلاين).
سادساً؛ ليس غريباً أن يُنظّم المظاهرات طلبة جامعيون، فقد أظهرت استطلاعات رأي صدرت حديثاً انخفاض نسبة الذين يؤيدون إسرائيل ضمن الفئة الشبابية في الولايات المتحدة الأميركية. بينّت نتائج استطلاع للرأي أجراه معهد “هاريس” ومركز الدراسات السياسية الأميركية بجامعة هارفرد أن 51% من الشباب من هذه الفئة العمرية يعتقدون أن الحل طويل المدى للصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو بـ”إنهاء إسرائيل وتسليمها لحماس والفلسطينيين”. استطلاع آخر أجرته مؤسسة “غالوب” (Gallup) في آذار/مارس 2023 أظهر أن الديموقراطيين من جيل الألفية (مواليد الفترة ما بين أعوام 1980-2000) يُعبّرون عن التعاطف على نحو متزايد تجاه القضية الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة بشكل يفوق تعاطفهم تجاه دولة الاحتلال (49% مع فلسطين مقابل 38% مع إسرائيل)..
سابعاً؛ الحراك الطلابيّ الذي استعر هذا الأسبوع يجري في ظلّ مرور أكثر من 200 يوم على حرب الإبادة الجماعية وفي ظلّ صمت وتواطؤ دوليين بلغا ذروتهما مع إقرار مساعدات أميركية لإسرائيل بقيمة 26 مليار دولار. زدْ على ذلك جسر المساعدات العسكرية الذي أقيم منذ اليوم الأول للحرب واستخدام حق “الفيتو” عدة مرات في مجلس الأمن ضد قرار وقف الحرب. فهل يكون هذا الحراك المناهض لإسرائيل واجرامها في الجامعات الأميركية، ممهداً لخروج الجيش الإسرائيلي من مستنقع غزة كما أدّى الحراك الطلابي الاعلامي لتسريع الانسحاب من مستنقع فييتنام في القرن الماضي؟
حتماً يُعوّل الكثيرون على هذا الافتراض، مثلما يُعوّلون على المعارك المتراكمة، التي خيضت وتخاض في كل شارع وبلدة ومدينة في العالم، لتعرية إسرائيل، أمام العالم أجمع.