الضّربة الإيرانيّة و”العرض الإعلاميّ”.. سلاحٌ من أسلحةِ الحرب!

منذ إعلان انطلاق المُسيّرات ثمّ الصّواريخ الإيرانيّة نحو الكيان الإسرائيليّ ليلةَ ١٣ إلى ١٤ من شهر نيسان/أبريل الجاري، ونحن نسمع معزوفات تتحدّث عن "مسرحيّة" و"استعراض" و"تمثيل" وما إلى ذلك.

إنّ الهدف من كتابة هذا المقال هو التّشديد على فكرة أنّ الخطاب والإعلام الرّمزيّ-الوجدانيّ هو:

(١) من جهة، ذو أهميّة قصوى ضمن الثّقافة الإيرانيّة بشكل عامّ (خصوصاً في إطار ما سمّيناه سابقاً بالعقل العرفانيّ أو الصّوفيّ)؛

(٢) ومن جهة ثانية، سلاحٌ فتّاكٌ لا ريب، ضمن أسلحة الحروب والمعارك بالنّسبة إليهم.. كما هو الحال مع أغلب شعوب ودول الأرض بطبيعة الحال.

مجدّداً؛ نعود إلى ما سمّيناه بـ”العقل الإيرانيّ الجيوسياسيّ“، مُذكّرين بسلسلة مقالاتنا حول الموضوع مع بدء معركة “طوفان الأقصى” أواخر العام المنصرم (أيضاً على موقع 180Post). أعتقد أنّ بعض النّقد للسّياسة الإيرانيّة من زاوية أنّها تستخدم إلى حدّ كبير خطاب وإعلام الرّمز والوجدان (والعاطفة): سببه عدم الإلمام بعمق بمَعلَم أساسيّ من معالم “العقل الإيرانيّ الجيوساسيّ” الجوهريّة والنّموذجيّة.. ألا وهو مَعلم أو سمة “العقل الصّوفيّ-العرفانيّ”، أو ما رمزنا إليه في السّابق أيضاً بعبارة “أنّ الصَّباحَ خيرٌ مِن المِصباح”.

كما رأينا سابقاً، إذن: فإنّ العقل الإيرانيّ المذكور يتضمّن جانباً مبدئيّاً مؤكّداً وصلباً (أ) لا ينبغي اغفاله أو التّقليل من شأنه أبداً كما يفعل البعض وهم برأيي مخطئون جدّاً وجدّاً. كما يتضمّن جانباً عقلانيّاً (ب) من النّوع الأرسطيّ-المشّائيّ-الدّيكارتيّ البارد ذي الجَلَد والحدّة التّحليليّة الشّديدة، وهو مقرونٌ بجانبٍ يُعنى بعلاقة مع الزّمن (ج) من النّوع الغريب جدّاً بالنّسبة إلينا كعرب (وعندَه: أنّ العاجلَ ليس دائماً خيراً من الآجل، بل قد يكون العكس في الأغلب لَهُوَ الصّحيح). وقد شدّدنا في ما سبق أيضاً على أنّ العقل الإيرانيّ هذا يتضمّن كذلك جانباً سمّيناه بالصّوفيّ-العرفانيّ (د): ولا ينبغي بطبيعة الحال اغفاله والتّقليل من أهميّة آثاره وفعله. إنّه الجانبُ الذي يُعنى عموماً بالحياة الرّوحيّة الميسطيقيّة (أي “الصّوفيّة”). وقد يجوز الادّعاء برأيي أنّ أصحاب هذا “العقل” يعتقدون في بواطن الأمور ومضامينها أنّ هذه الحياة المذكورة هي الحياة الحقيقيّة الوحيدة في نهاية الأمر.. وما باقي الحَيَوات أو الأبعاد الحياتيّة إلّا انعكاسٌ لها في أفضل الأحوال، أو هي وهمٌ في وهم، وسرابٌ في سراب (ولكنّ أكثر النّاس محجوبون عن هذه الحقيقة، أيضاً حسب هذا الاعتقاد).

مع التّبسيط: الفاعل الحقيقيّ حسب هذا العقل هو الله وحدَه (أو لنقلْ مع التّبسيط أيضاً: عوالم الألوهة واللّاهوت والجبروت). والأداة الأساسيّة بهدف استنباط الأمر الإلهيّ أو الإذن الإلهيّ في مختلف الشّؤون لا سيّما منها المصيريّة: تُصبح “الحدس الرّوحيّ” أو “العقل الصّوفيّ المتعالِ”.

من دون حاجة للعودة إلى تفاصيل هذا الجانب الصّوفيّ -العرفانيّ ضمن هذا العقل الإيرانيّ، دعونا نقول ما يلي:

 إنّ أغلب النّاقدين للسّياسة الإيرانيّة من زاوية استعمالها الشّديد نسبيّاً للخطاب الرّمزيّ والوجدانيّ.. يُغفلون دور هذا العقل العرفانيّ بنسب متفاوتة، أو ربّما لا يعلمون بوجوده بشكل ملموس وواقعيّ أصلاً. والحقّ أنّ هذا الخطاب الرّمزيّ-الوجدانيّ، العاكِس للعقل الصّوفيّ-العرفانيّ المذكور؛ الحقّ إنّه سلاحٌ مهمٌّ للغاية داخل اللّعبة الإيرانيّة الدّاخليّة.. ولكن أيضاً ضمن لعبة مخاطبة الحلفاء والمؤيّدين خارج إيران، كما ومخاطبة الأعداء والخصوم بطبيعة الحال.

***

قد يكونُ البعضُ اعتبرَ نفسَه أمامَ مشهدٍ سورياليّ واقعاً. ولكنّ الأكيد، حسب هذه الثّقافة المذكورة، أنّه: قد يكون ذلكَ هُوَ المشهد الرّياليّ (Réel) بامتياز:

-ايحاءٌ أو اعلامٌ بأنّ أولياء الأمر من خاصّةِ الخاصّة: قد اعتزلوا بضعة أيّام للتّفكّر، وخصوصاً للتأمّل.

-إشارةٌ إلى أنّ وليَّ الأمرِ المُرشدَ الأعلى، قد أعطى الأمرَ: في “يومٍ” معلوم، إلى منفّذي الأمرِ في ظاهر التّنفيذ.

-تصويرٌ لغرفة عمليّات شبه غامضة يظهر فيها قادةُ الحرسِ الثّوريِّ الإسلاميّ، ويُعلنون وصولَ “الأمر” من مصدره (الظّاهر والباطن)، ويُعلنون للعالم البدءَ بتنفيذه ظاهراً وباطناً أيضاً (حسب خطابهم هم).. بعد البَسمَلة والحَمدَلة والحَوقَلة، وبعد الشّهادة أنّه لا فاعل في حقيقة الأمورِ إلّا الله وحدَه، ولا شريكَ لهُ في ذلك، ولا نظيرَ لهُ ولا مِثالَ له.

-تلاوةٌ لآية قرآنيّة ذات معنى رمزيّ كبير:

(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِين)؛ التّوبة، آية ١٤

-استذكارٌ للشّهداء القادة، ثمّ إعطاءٌ ظاهرٌ بيّنٌ “للأمر”.. ثمّ نداء (يا رسول الله) ثلاث مرّات مع الصّلوات على محمّد وآل محمّد.

فكأنّما بعد ذلكمْ فوراً: قُضيَ الأمرُ، وصَدقَ الوعدُ، وتَمَّ النّصرُ، وجَاءَ الفَتحُ.. وقيلَ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

بعد هذه الرّمية الظّاهرة والباطنة معاً، أصبح الضّغطُ – في أعمّه الأغلب، بل وفي جوهر جوهره – على الآخَرين لا على “مسبّبي” الحدث وموضوعه أنفسهم! أمنيّون، عسكريّون، سياسيّون، دبلوماسيّون، اعلاميّون، مراقبون، محلّلون، معلّقون (إلخ..): يتحرّكون كسكّان خليّة النّحل لكن المضطربة أشدّ الاضطراب. المَهول في الأمر، في اعتقادي، أنّ الهندسة الإيرانيّة كانت بحيث يكون النّصر تامّاً – أو يكاد – قبل ظهور النّتائج المادّيّة للحدث، كما في كثيرٍ من الأحيان مع هذه الثّقافة الفريدة.

إقرأ على موقع 180  الرجاء.. اصمتوا يرحمكم الله

أمّا النّصر في إيران؛ فقد تَمّ وأُنجز في أوّل دقائق للحدث (وربّما قبل ذلك) في حقيقة الأمر! وما عدا ذلك فهو من باب الضّجيج الكلاميّ والإعلاميّ..

لاحظ هذه القدرة الاعلاميّة الرّمزيّة والوجدانيّة اللّافتة جدّاً واقعاً:

١/ “النّصر” يُنجز عمليّاً عند انطلاق المسيّرات والصّواريخ، وتُطوى الصّفحة عمليّاً في مرحلة مبكّرة جدّاً؛

٢/ المُهاجمون يُبدون طمأنينة شبه كاملة، غير مكترثين تقريباً بما يقوله “الآخرون”؛ فكأنّما مجال العمليّة يُصبح في “داخل المهاجم” لا في “خارجه”؛

٣/ تصميم رمزيّ ووجدانيّ للحدث، بحيث يشعر الإيرانيّ المؤيّد بالنّشوة العارمة. أمّا المؤيّد في العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين فتبدو له المُسيّرات والصّواريخ عند ظهورها كالطّارقِ في السّماء السّوريّة، أو كالنّجمِ الثّاقب. حتّى يبدو لَكَ بعضُهم وكأنّه يُنشدُ أبيات ابن الفارض، مع تحريفٍ طفيف، عندما يشاهد بعض القنوات المُعادية لإيران تعرض المشهدَ شبهَ السّورياليّ على شاشاتِها:

أدِرْ ذِكْرَ مَن أهْوىْ ولو بمَلامِ

فإنّ (صَوَاريخَ) الحَبيبِ مُداميْ

لتشْهَدَ (عينيْ) مَن أُحبُّ وإن نأىْ

بطَيفِ مَلامٍ لا بطَيفِ مَنامِ

فَليْ (ذِكْرُهمْ) يَحلوْ على كلِّ صِيغةٍ

وإنْ مَزَجوهُ عُذّليْ بخِصامِ!

***

من زاوية هذه المشهديّة بالتّحديد، نجح صاحبا القرار والتّنفيذ الإيرانيَّان، وبمهارة وكفاءة يصعب فهم معانيهما وآثارهما بعيدة الأمد على العَقلَين الجيوسياسيَّين العربيّ والغربيّ (عموماً ومع التّبسيط).

من خلال استخدام لغة الرّمز والوجدان، واستذكار بعض أسرار القرآن والعرفان، ما وراء آليّات الظّاهر والموضوعيّة والبُرهان: يمكن القول إنّ إيران قد نفّذت في هذه اللّيلة العجيبة عمليّة ناجحة في ذاتِها، تكادُ تكون نتائجُها في داخلها قبل خارجِها! فحقّقت الهدفَ المباشرَ تجاه المؤيّدين والمعارضين في الدّاخل الإيرانيّ الوطنيّ. وحقّقت الهدفَ الجليَّ تجاه المؤيّدين والمعارضين من شعوب ودول وقوى الخارج.

وطبعاً، وما وراء وصول بعض المُسيّرات والصّواريخ إلى أهدافها الماديّة الظّاهرة المحدّدة برغم اجتماع دول عظمى وغير عظمى (أبداً) لصدّ الهجوم؛ فقد حقّقت هذه العمليّة المرجوَّ من الضّرر الحقيقيّ تجاه العدوّ. فقد تلقّى هذا الأخير صفعةً باطنيّة-نفسيّة قبل تلقّيه صفعةً ناريّة-عسكريّة.

هي صفعةٌ لها تبعاتها الاستراتيجيّة العميقة كما رأينا سابقاً: تجاه شعبه الموعود بملاذٍ آمنٍ بدا غيرَ موجود؛ وتجاه جيشه الذي بدا عاجزاً عن صدّ الهجوم الظّاهر والباطن وحدَه بلا دول عظمى تأتي لنجدته عاجلاً؛ وأمام قراره السّياسيّ الذي احتار بدوره أمام استحالة الرّدّ العاجل على عمليّة عجيبة من هذا الصّنف. فاختار العاجلَ كالعادة عندَه: من خلال عمليّة مُستعجلة – مُثيرة للسّخرية غالباً – على أصفهان كما قيل.

ولكنّ إيران كانت قد طوَت الصّفحة برأيي منذ اللّيلة العجيبة الغريبة للرّابع عشر من نيسان/أبريل لعام ٢٠٢٤: وكان قادَتُها يعلمون، بسبب طبيعة عقلهم الجيوسياسيّ وطبيعة آلية اتّخاذ القرار عندَهم ظاهراً وباطناً.. أنّ الأمرَ قد قُضيَ، والوَعدَ قد تَمّ، والواعِدَ قد صَدَق.. وكان آخر دعواهم حينَها، حسب تقديري المتواضع طبعاً: أنّ الأمور السّياسيّة وغير السّياسيّة مرجعها أصلاً لله جميعاً.. وأنِ الحمدُ للّهِ ربِّ العالَمين.

***

أقول لنفسي أحياناً إنّ اللهَ سبحانَه (أو الوجودَ إن شئت) قد سلّط على هؤلاء الظّالمين: القومَ المناسِبين لمواجهتهم في هذا الزّمان وفي هذا المكان وضمن هذا السّياق.. وهُم سَيجعَلون شبابَهم شِيباً على الأرجح.. وسيُفقدونهم صبرَهم وجَلَدهم في العاجل أو في الآجل.

فإن لم تأتِ هزيمةُ الظّالمين النّهائيّة على أيدي هؤلاء، فمن الواضح أنّهم سيُنهكون هذا العدوّ الإسرائيليّ إلى أقصى حدّ.. بانتظار قيام مشروع عربيّ مقاوم ونهضويّ حقيقيّ وجدّي وقويّ.. والله أعلم بطبيعة الحال.

في النّهاية غير النّهائيّة، أذكّر القارئ العزيز بأنّ المبالغةَ حسب منهجيّتنا هي من أدوات البحث والتّحليل والبيان، ونُحيلُه في ذلك وغيره إلى سلسلة “العقل الإيرانيّ الجيوسياسيّ” على موقع 180Post.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  وثيقة بكين.. تفسير أيديولوجي للنظام الدولي الجديد