الجنائية الدولية.. هل تجعل إسرائيل سجناً لقادتها؟

تردد مؤخراً في وسائل الإعلام الأجنبية أن المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم أحمد خان، وهو محامٍ بريطاني متخصص في القانون الجنائي، سيُصدر مذكرات اعتقال بحق مسؤولين سياسيين وعسكريين إسرائيليين، على خلفية حرب الإبادة التي يشهدها قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. فما هي قصة المحكمة والتحقيقات في الممارسات الإسرائيلية؟

نشأت المحكمة الجنائية الدولية، وهي هيئة قضائية دولية دائمة ومستقلة عن الأمم المتحدة، بموجب معاهدة روما الأساسية في 17 تموز/يوليو 1998 ودخلت حيز التنفيذ في 1 تموز/يوليو 2002. للمحكمة سلطة ممارسة اختصاصها على الأفراد المتهمين بارتكاب الجرائم المسماة حصراً في المادة 5 من الباب 2 من النظام الأساسي: جرائم الإبادة الجماعية، جرائم الحرب، جرائم العدوان والجرائم ضد الإنسانية. وتلعب هذه المحكمة دوراً مكملاً للمحاكم الوطنية بحيث تمثل المآل الأخير لها بعد أن تصبح غير قادرة على التحقيق أو الإدعاء أو حتى في حال أبدت قبولها باختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

وللمحكمة الجنائية الدولية أن تمارس اختصاصها في الجرائم التي أشرنا إليها سابقاً في الحالات الآتية:

أولاً؛ في حال إحالة دولة طرف إلى المدعي العام وفقاً للمادة 14 من نظام روما الأساسي، أي في حالة اشتباه وقوع جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة. وبذلك، تطلب هذه الدولة من المدعي العام التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يجب توجيه الإتهامات لشخص أو أكثر بارتكاب هذه الجرائم.

ثانياً؛ عندما يُحيل مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة حالة يبدو فيها أنه تم ارتكاب جريمة أو أكثر من هذه الجرائم.

ثالثاً؛ مباشرة المدعي العام بالتحقيق من تلقاء نفسه على أساس معلومات قد حصل عليها متعلقة بارتكاب جريمة أو أكثر من هذه الجرائم. بحيث تجيز له المادة 15 من نظام روما أن يبدأ بجمع وتحليل المعلومات المتلقاة والتحقيق فيها.

ولكن المحكمة الجنائية الدولية ليست مطلقة الصلاحية بل صاحبة اختصاص مقيد من حيث الزمان والمكان:

من حيث الزمان؛ ليس للمحكمة اختصاص في الجرائم التي تم ارتكابها قبل نفاذ نظام روما الأساسي، أي بمفعول رجعي قبل عام 2002، تاريخ تأسيسها، وفي حال أصبحت دولة طرفاً في هذا النظام بعد نفاذه لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا في الجرائم التي ارتكبت بعد نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة إلا في حال قبلت الدولة الغير طرف فيه بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة بقبول اختصاص المحكمة على الجريمة قيد البحث.

من حيث المكان؛ تمارس المحكمة اختصاصها في الدول التي هي طرف في النظام الأساسي فيما يتعلق بالجرائم المشار إليها في المادة 5. أو في حال كانت دولة أو أكثر من الدول التالية طرفاً في هذا النظام، الدولة التي ارتكبت الجريمة في إقليمها أو الدولة التي يكون الشخص المتهم بارتكاب الجريمة من رعاياها. كما أيضاً في حالة قبول الدولة التي ليست طرفاً في نظام روما لاختصاص المحكمة على الجرائم التي تقع على إقليمها.

ما هو مسار القضية الراهنة؟

كانت القضية الفلسطينية من أكبر المعضلات العالمية التي واجهت المحكمة الجنائية الدولية منذ تأسيسها قبل 22 عاماً. بدأ مسار الدعوى بعد أن قدمت السلطة الفلسطينية في 1 كانون الثاني/يناير 2015 إعلاناً بموجب الفقرة الثالثة من المادة 12 من نظام روما الأساسي، التي تجيز لدولة غير طرف أن تقبل باختصاص المحكمة في الجرائم التي ترتكب على أرض هذه الدولة، للنظر في الجرائم التي ارتكبها العدو الصهيوني منذ 13 حزيران/يونيو 2014 على الأراضي الفلسطينية. وفي 2 كانون الثاني/يناير 2015، انضمت فلسطين رسميا إلى نظام روما الأساسي عن طريق إيداع وثيقة انضمامها لدى الأمين العام للأمم المتحدة، وبذلك يكون هذا النظام قد دخل حيز التنفيذ بالنسبة للدولة الفلسطينية، بحسب المادة 126، في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع وثيقة الإنضمام، وبالتالي أصبح نافذاً بتاريخ 1 نيسان/أبريل 2015.

في حال صدور مذكرات التوقيف بحق القادة الإسرائيليين، وبالتأكيد سترفض إسرائيل تنفيذ هذه المذكرات بحجة عدم موافقتها على اختصاص المحكمة (نظام روما الأساسي). في هذه الحالة، ستصدر مذكرات اعتقال وبالتالي تصبح إسرائيل سجناً لقادتها بحيث يتعذر عليهم السفر لأي دولة في العالم إلا تلك التي تقبل استقبال مجرمي الحرب

وفي 16 كانون الثاني/يناير 2015، أعلن المدعي العام عن فتح دراسة أولية للوضع في فلسطين لأجل التحقق من إستيفاء المعايير المحددة في نظام روما للبدء بالتحقيق وهي مهمة انتهت في 20 كانون الأول/ديسمبر 2019 بعد أن أعلنت المدعية العامة عن انتهاء التحقيق الأولي للوضع في فلسطين بعد دراسة شاملة وموضوعية للمعلومات المتاحة لمكتبها والتأكيد على تحقق تلك المعايير لفتح تحقيق في الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. ولكن المدعية العامة أرجأت موعد البدء بالتحقيق لحين الحصول على قرار قضائي من الدائرة التمهيدية الأولى بشأن الاختصاص الإقليمي للمحكمة على الأراضي الفلسطينية وذلك إستناداً إلى طلب قدّمته في 22 كانون الثاني/يناير 2020 لهذه الغرفة (الدائرة التمهيدية الأولى). وفي 5 شباط/فبراير 2021، قضت هذه الأخيرة بأغلبية قضاتها بأن للمحكمة الجنائية الدولية الاختصاص الإقليمي للنظر في الجرائم على الأراضي الفلسطينية ويمتد اختصاصها إلى غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية.

إقرأ على موقع 180  لِفتا جارة القدس.. سجل شعب

الجدير ذكره أن السلطة الفلسطينية طلبت من المدعي العام بتاريخ 22 أيار/مايو 2018 فتح تحقيق وفقاً لاختصاص المحكمة الزمني بالجرائم الماضية والجارية والمستقبلية التي ترتكب في جميع أنحاء إقليم دولة فلسطين، وبالتالي تكون بذلك قد سجلت الإحالة الثامنة التي تتلقاها المحكمة من دولة طرف في نظام روما الأساسي.

لكن هذه الدعوى اختفت ثم عادت للواجهة بعد أن أعلن مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 أنه تلقى إحالة من خمس دول هي: جنوب إفريقيا، بوليفيا، بنغلاديش، جزر القمر وجيبوتي بشأن الوضع في فلسطين. وقد واجهت المحكمة موجة استنكار دولية لا سيما بعد أن كانت قد أصدرت بسرعة مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب الأزمة الأوكرانية، ولكنها لم تقم بأي ردة فعل إزاء ما قامت وتقوم به إسرائيل، برغم تلقيها أكثر من دعوى مدعمة بمعلومات وأدلة على الجرائم التي ارتكبتها في قطاع غزة. وأكد المدعي العام كريم أحمد خان أنه تلقى الإحالة هذه وبأنه يجري تحقيقاً في هذه الدعوى منذ 3 آذار/مارس 2021.

بالنسبة لاسرائيل، فإنها عارضت إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ورفضت نظام روما نظراً لتخوفها من سوق قادتها إلى المحاكم الدولية ومحاكمتهم بتهم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها بحق الفلسطينيين.

ما هو مستقبل هذه الدعوى؟

مع استمرار الحرب الإسرائيلية ضد غزة منذ أكثر من مائتي يوم، تصاعد الكلام عن احتمال اصدار مدعي عام المحكمة مذكرات توقيف بحق كبار قادة إسرائيل حالياً (رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وزير الدفاع يؤاف غالانت، ورئيس الأركان هرتسي هاليفي). وبرغم حقيقة أن إسرائيل لا تهتم للقانون الدولي، نظراً للدعم الأميركي والأوروبي الأعمى لها في المحافل الدولية، إلا أن خوفها من إصدار المدعي العام قراره جعلها تقوم بأوسع استنفار ديبلوماسي، بما في ذلك الإستنجاد بالرئيس جو بايدن وكبار أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي والعديد من دوائر صنع القرار الأميركي والغربي من أجل ممارسة الضغوط الكفيلة بمنع كريم خان من اصدار مذكرات التوقيف.

وفي حال صدور مذكرات التوقيف هذه، تكون إسرائيل قد وضعت نفسها في قفص الإتهام للمرة الثانية في فترة قصيرة (محكمة العدل ثم المحكمة الجنائية)، وبذلك تجد نفسها مضطرة للدفاع عن نفسها في مواجهة الاتهامات التي يمكن أن تطال دولة تُعرّف نفسها بأنها “ديموقراطية”، وبلغ الأمر بالمسؤولين الإسرائيليين حد التهديد بتدمير السلطة الفلسطينية عبر الحجز على أموال الضرائب التي تجمعها الحكومة الإسرائيلية لصالح السلطة الفلسطينية ما قد يؤدي لإفلاسها.

وفي حال صدور مذكرات التوقيف بحق القادة الإسرائيليين، والتي تعتبرها المحكمة دعوة لهؤلاء للدفاع عن أنفسهم في مواجهة التهم الموجهة إليهم وليست بالضرورة تأكيداً للتهم هذه، إلا أن الجهة الإسرائيلية سترفض هذا الأمر وبالتأكيد سترفض تنفيذ هذه المذكرات بحجة عدم موافقتها على اختصاص المحكمة (نظام روما الأساسي). وفي هذه الحالة، ستصدر مذكرات اعتقال وبالتالي تصبح إسرائيل سجناً لقادتها بحيث يتعذر عليهم السفر لأي دولة في العالم إلا تلك التي تقبل استقبال مجرمي الحرب، مع العلم بأن معظم الدول الأوروبية هي جزء من نظام روما، وستصبح مجبرة على تنفيذ مذكرات الاعتقال.

ما هي عقوبة من تثبت عليهم الجرائم؟ 

وفقاً لأحكام المادة 77 من نظام روما الأساسي، يكون للمحكمة أن تنزل بالشخص المدان بارتكاب جريمة من تلك الجرائم المنصوص عليها في المادة 5 عقوبة السجن لعدد محدد من السنوات على أن لا يقل عن 30 سنة أو السجن المؤبد في حال كانت العقوبة مبررة بالخطورة البالغة للجريمة.

إضافة إلى هذه العقوبات تستطيع المحكمة أن تفرض على المدان غرامة مالية بموجب المعايير المنصوص عليها في القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات و/أو مصادرة العائدات والممتلكات المتأتية بشكل مباشر أو غير مباشر من الجريمة دون المس بحقوق الأطراف الثالثة الحسنة النية.

Print Friendly, PDF & Email
رواد منذر

باحث لبناني متخصص بالقانون الدولي العام

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الخريطة المصرية بعد ثورة 1919.. تفريخ أحزاب جديدة