“الدونيّة الجمعية”.. أو لعبة “دمى الأميش”!

ثمة نص قرآني يقول بأن الله خلق الإنسان بأبهى صوره. كثيرة هي الآيات التي تُشير إلى الجبلة التي حملها الإنسان معه إلى هذه الدنيا ومنها الآية القرآنية "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم". وهي صورة ميّز الله الإنسان بها عن الحيوان بامتلاكه أحسن وأعدل قامة كونه حظي بمؤهلات عقلية وقيمية؛ فإما أن ينشد في حياته الطريقة لترجمتها، أو أن تكون حياته كالأنعام بل أضل سبيلا، وهو نص لا جدال فيه.

وفق مفهوم علم النفس “الأدلري”، نسبة إلى الطبيب وعالم النفس النمساوي ألفرد أدلر، أحد رواد مدرسة التحليل النفسي، فإن الإنسان في أصله يُولد وعنده شعور بالنقص، يتمظهر حالما يبدأ الطفل بفهم وجود أناس آخرين حوله تتوفر لديهم قدرة أفضل منه للعناية بأنفسهم والتكيف مع بيئتهم، ما يعطيه القوة الدافعة لتطوير قدراته. ويستمر كذلك في عملية مستمرة من التجاوز والتعويض متأثرًا بأداء الآخرين حيث يتتبعهم في مختلف المجالات. ولا يلبث أن يبرح وينتفض لتجاوز عقدة النقص ورفع قيمة الأنا، فإما أن تنمو هذه العقدة بسبب البيئة والتربية، أي موقعه الاجتماعي، وإما أن تتلاشى.

وبرأي أدلر كل إنسان يبقى يجاهد من أجل التغلب على مثل هذه الأحاسيس وفقًا لأهداف محددة ومنتقاة. ولكل فرد طريقة متفردة في محاولاته لتحقيق تلك الأهداف. يقول أدلر أيضًا أن كل فرد يولد ومعه خاصيَة تسمى الاهتمام الاجتماعي، وهذه الخاصية تمكن الفرد من الانتساب لبقية الناس وتضع المصلحة الاجتماعية فوق مصلحته الذاتية، ما يساهم أيضًا في تخطي الشعور بالنقص. وحول دوافع السلوك البشري، فإن القوة الرئيسية للنشاط البشري عبارة عن نضال لتحقيق الرّفعة والكمال، وهذا بلا شك يساهم في تشظي المحمول قسرًا، أي عقدة الدونية، وذلك بحسب مفهوم أدلر.

وعقدة الدونية تُشعر الإنسان بالعجز النفسي والعضوي والاجتماعي ويظهر ذلك الإحساس مع طغيان المشاعر السلبية إزاء الذات؛ التحسس من آراء الآخرين؛ المبالغة في الفرح عند المدح؛ تتبع أخطاء وقصور الآخرين؛ الميل نحو العزلة؛ الاهتمام المبالغ به بالمظهر وكذلك البذخ والإسراف كعامل تعويضي؛ اعتماد الآخر كالعالم الغربي قدوة، حتى أن هناك علماء نفس واجتماع أقروا بأن جميع البشر يولدون ولديهم مثل هذا الشعور.

ولو سلّمنا جدلًا بقول أدلر بوجود تلك العقدة الاجتماعية عند كافة البشر وسلّمنا أيضًا أن الناس يمتلكون دوافع للقيام بنشاط وسلوك اجتماعي لتجاوز هذا الشعور بالنقص، فلماذا لم نرَ هذا الحراك في جامعاتنا وعند أساتذتنا وطلابنا كما نشاهد منذ أسابيع في العديد من جامعات أميركا والدول الغربية؟ وهل تحولت عقدة الدونية إلى عقيدة ثابتة؟ ومن المسؤول عن تشوّه القوة الدافعة نحو التغيير؟

السؤال هو كيف نقنع الشعوب العربية أن هناك خياراً آخر غير فكرة الضعف والهزائم وأننا فعلًا أمام تغيير جذري وحقيقي أبطاله شبان حرّكتهم طبيعتهم الإنسانية التي ترفض الظلم وسلب الحقوق وعمليات الإبادة التي تمارس على أهل غزة للشهر الثامن على التوالي؟

لا شكّ بأن عامل التربية والتنشئة الاجتماعية يُمثل العامل المشترك في العديد من العقد النفسية، كما هو الحال مع أمراض نفسية أخرى.

إلا أن الأنظمة العربية هي في صدارة من يتحمل المسؤولية عن نمو هذه العقدة؛ كونها المسؤولة عن الاستبداد الذي يمنع كل أشكال التعبير، حيث تجد شعوبنا نفسها في حالة عزلة عما يحدث عندها وحولها من تحوّلات، اللهم إلا مشاهدة الفضائيات ورصد مواقع التواصل، لكأنها أصبحت هذه كلها نوعاً من المخدر الذي يجعل الناس أكثر استكانة بدل أن يتفاعلوا ويُترجموا مشاعرهم حيث يجب أن يُترجموها.

***

يُحكى قديماً عن دمية قُماشية تسمى دُمى “الأميش” Amish Dolls وهي شكل شهير من الفن الشعبي الأميركي ظهرت في نظام الشعوب القديمة. ميزة هذه اللعبة القماشية أن أكثرها لا تمتلك وجوها وكذلك الملابس متشابهة كتلك التي كان يرتديها أطفال جماعة “الأميش”. صناعة الوجوه من قماش بلاستيكي مشمّع لا لون فيه، محشوة بالقطن، وتخاط إما باليد أو تحاك بواسطة آلة الحياكة التي تملك مدوساً يتحرك بواسطة دوس القدم عليه عند جماعة “الأميش”. ويُروى أنه عند اتساخها كانوا يغطون جسدها القطني بشكل كامل بملابس أخرى. أما رمزية هذه اللعبة فيعود إلى العديد من الروايات حول أصول الدمي التي لا وجه لها. ويروى أن فتاة أعطيت “أميش صغيرة”، أي دمية قماشية ولكن تمتلك وجهًا بمناسبة عيد الميلاد، إلا أن والدها قام بقطع رأس تلك الدمية فورًا قائلًا “الرب وحده يمكنه أن يخلق الناس. الجميع متشابهون في عيون الرب” ثم استبدل الرأس بجورب محشو ليس له وجه. وهو ما يتوافق مع وصية الكتاب المقدس ضد الصور المنحوتة.

واللافت للانتباه أن معظم صناع دُمى “الأميش” في ذلك الوقت كانوا مجهولين باستثناء بعض أعضاء جماعات دينية كنسية، بحسب الرواية السوسيولوجية، أما صنّاع الدمى عندنا فليسوا بمجهولين، وهم المتحكمون بالممنوع والمسموح وبأي حراك شعبي أو طلابي يحدث لا يتناغم مع مصالحهم.

وحين نتحدث عن عقدة “الدونية الجمعية” في عالمنا العربي علينا ألا ننسى التفوق التكنولوجي والعسكري الذي خص به الغرب نفسه ولم يهدِ هذا التفوق مجانًا ولا حتى مدفوع الثمن إلى أي دولة من دول العالم الثالث إلا ما ندر منه وقل، بل كان يتعذر على أي دولة تحاول التقدم واثبات القدرات الذاتية وخياطة ملامح وصورة خاصة بها. وحدها الدول المُتحكمة يحق لها التصنيع ونحن ما علينا سوى أن نكون دمى بلا ملامح.

إقرأ على موقع 180  الصورة الرقمية للمرأة.. صانعة حياة أم إغواء؟

السؤال هو كيف نقنع الشعوب العربية أن هناك خياراً آخر غير فكرة الضعف والهزائم وأننا فعلًا أمام تغيير جذري وحقيقي أبطاله شبان حرّكتهم طبيعتهم الإنسانية التي ترفض الظلم وسلب الحقوق وعمليات الإبادة التي تمارس على أهل غزة للشهر الثامن على التوالي؟

 في نهاية القول، قد يكون من فظائع الأمور التي نرتكبها نحن في العالم العربي هو الاستسلام لبعض العقد التي تتلبسنا وأن نرى في وعي الشعوب أملًا.

الكل يسأل أين هم طلاب الجامعات في لبنان والدول العربية، ولماذا لم يخرجوا حتى الآن من جحرهم، إلا بشكل متواضع في الأيام الأخيرة؟

Print Friendly, PDF & Email
سلوى الحاج

أخصائية نفسية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لنا في محمد علي كلاي عبرة يا "أولي الشهادات"!