أهل جبل عامل.. ثقافة الحياة الحقيقية

في الأسابيع الأولى التي تلت 8 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، عاش سكان الجنوب اللبناني ولا سيما أبناء القرى الحدودية، حالة من الترقب، لكنهم قرّروا البقاء في بيوتهم وممتلكاتهم وأرزاقهم قبل أن يشتد أوار العنف الإسرائيلي الممنهج، لتبدأ حركة نزوح تدريجية شملت معظم القرى الحدودية.

تميّزت المرحلة الجديدة التي يعيشها عشرات آلاف النازحين الجنوبيين بأمور عدة، أبرزها حالة التكافل والتضامن الاجتماعي بين الجنوبيين أنفسهم؛ إذ استضافت الأسر بعضها البعض، قبل أن يستقر قسم كبير من النازحين في بيوت مغتربين أو في شقق سكنية خالية فتحها أصحابها للتخفيف من معاناة من تركوا قراهم وبلداتهم قسراً.

وثمة مشهدية تاريخية قوامها هذا الإصرار الأهلي على احتضان جثامين الشهداء والموتى من أبناء القرى الحدودية في تراب وثرى قراهم، في ظل مشاركة واسعة من الأهالي النازحين ومن بقي من المقيمين في مواكب التشييع، برغم التحديات الأمنية يومياً، ومن ثم إقامة مجالس عزاء عن أرواح الراحلين، توزعت على حسينيات ومجمعات القرى التي نزحوا إليها وشاركهم فيها أهالي تلك القرى. وفي الوقت نفسه، لم يُترك أحد من عائلات الشهداء لمصيرهم، فكما الشهداء أمانة كذلك أسرهم التي حظيت، كمن سبقها من الأسر، بالرعاية المعنوية والمادية.

النازحون بشكل عام، لم يُتركوا لمصائرهم بل وجدوا يد العون تمتد إليهم بشكل عفوي، قدر المستطاع، من المقاومة لتأمين المسكن والحاجات الأساسية إضافة إلى المساعدة في تحمل أكلاف المعيشة، وقد حاول بعضهم في غياب “أم كامل” (طائرة الاستطلاع الإسرائيلية الشهيرة)، أو عند المشاركة في تشييع أحد الشهداء “خطف رجلهم” إلى بيوتهم لتفقدها ونقل ما تيسر من الأغراض في سياراتهم الشخصية وليس في شاحنات النقل المقفلة مخافة استهداف الأخيرة.

أما المُزارعون من النازحين، فقد ضاعت مواسمهم من زيتون وحبوب وخضار. أيضاً توقفت زراعة التبغ التي يعتاش منها قسم لا بأس به من أبناء قرى الحافة الحدودية، ما يعني خسارة مواسمهم وما يسندهم في الآتي من أيام. كما اضطر أصحاب المزارع المنتشرة في القرى الحدودية لبيع حيوانات مزارعهم من دجاج ومواشٍ على عجل خوفاً من أن تنفق إذا تركوها بلا رعاية واهتمام، أو خوفاً من تعرض تلك المزارع للقصف والتدمير، فأدى ذلك إلى توقف معامل انتاج الألبان والأجبان ولا سيما في بلدة عيترون.

حتى أن كثيرين من أصحاب المهن والمحلات التجارية والسوبرماركات أقفلوا مصالحهم لفترة قبل أن يُقرّر معظمهم الإنتقال، ولو بصعوبة، إلى القرى المجاورة التي لم يطلها القصف والتدمير بعد، واعتمدوا المنصات الالكترونية وسيلة اعلانية للترويج لمصالحهم التي صارت لها عناوين جديدة.

هذه هي المرة الأولى التي يعرف فيها المقيمون على جانبي الحدود المعاناة ذاتها مع فارق جوهري في كيفية التعامل مع هذه المرحلة بين أهالي القرى الحدودية اللبنانية الذين لم يصرخ أحد منهم أو قال “آخ” حتى الآن، بينما سكان المستعمرات الشمالية في إسرائيل صار نصفهم غير راغب بالعودة إلى حيث كانوا يقيمون

واستطاع أغلب التلامذة والطلاب، وبطرق مختلفة، متابعة التحصيل العلمي ولو ممزوجاً بأصوات تحليق طائرات (MK) الاستطلاعية، ومترافقاً مع أصوات القصف المدفعي والغارات التدميرية التي طالت قرى عدة اهتزت من جراء انفجارها قرى الجوار أو حتى تلك البعيدة نسبياً عنها. وساهمت الباصات التي كانت تعمل بين القرى الحدودية وبيروت، والتي واصلت عملها مع تغيير في وجهة السير، في مساعدة الطلاب لا سيما الجامعيين منهم في متابعة دراستهم في النبطية أو صور أو صيدا أو بيروت.

الشباب الذين عقدوا قرانهم، والذين سبق أن جهّزوا بيوتهم في قراهم، حاولوا بدورهم، وبعد أن طالت فترة النزوح لأشهر، ايجاد البديل المؤقت عبر الاستئجار في قرى وبلدات أقضية بنت جبيل وصور ومرجعيون البعيدة عن الحدود، وكذلك فعل من قرّر منهم الارتباط قريباً لا سيما وأن تسهيلات كثيرة تُعطى للملتزمين منهم في بداية حياتهم الزوجية. وقد اقتصر الاحتفال بهم على لقاءات عائلية حُصِرت بالأهل والاقارب في أماكن وسطية يستطيع الوصول إليها أهل كلا العروسين، تلك اللقاءات غالباً ما كانت تشكل مناسبة للقاءات عائلية تُعوّض عن التجمعات التي كانت تشهدها القرى الحدودية قبل نزوح أهلها في الشهور السبعة الأخيرة.

التعويض لأسر الشهداء، ومعالجة الجرحى وكذلك التعويض عن التدمير والضرر الذي طال أحياء ومنازل كثيرة وأطاح بجنى العمر وبالذكريات ومراتع الطفولة، شكّل مادة خلافية جديدة بين اللبنانيين، إذ ارتفعت بعض الأصوات التي ترفض أن يتم التعويض عن تلك الخسائر البشرية والمادية من خزينة الدولة، الفارغة أصلاً، لأن الإنخراط بالحرب العسكرية لم يكن قراراً للدولة اللبنانية([1] )، بالرغم من أن مناصري أولئك المعارضين يستفيدون كما غيرهم من الدعم الذي تُقدّمه المقاومة للنازحين من قراهم في أكثر من قرية حدودية!

واقع النازحين من القرى الحدودية، أعايشه يومياً لا سيما وأنني من أبناء تلك القرى. لكن السمة البارزة في ذلك الواقع هي إرادة الحياة والاستمرار عند أغلب أولئك النازحين من قراهم، وهو ما يدحض ما يزعمه قسم من اللبنانيين بأن ثقافة الموت هي السائدة عند أهالي تلك المنطقة مقابل ثقافة الحياة عند غيرهم. هذا التحدي تُرفع  له القبعة يومياً، فأسر النازحين ومنهم إخوتي وأخواتي، على سبيل المثال لا الحصر، ممن تفرق شملهم وانتشروا في أكثر من قرية من قرى قضاء بنت جبيل وصولاً إلى بيروت، حافظوا على إيقاع معين، برغم كل الآلام والجراح  والخسارات البشرية والمادية، وتابع أبناء النازحين وبناتهم الدراسة، فأحد أبناء أختي مثلاً وليس حصراً، ناقش عبر “الأونلاين” أطروحة الدكتوراه في استخدامات الذكاء الاصطناعي في الوقت الذي كان بيت أهله يتصدع نتيجة غارة إسرائيلية على بيوت مجاورة وقد حصل على تقدير “جيد جداً”، هو يستعد قريباً لبداية حياته الزوجية مع إنسانة أحبها وأحبته، أما أخته فقد تخرجت باختصاصين مختلفين وارتبطت بشريك الحياة أيضاً.

إقرأ على موقع 180  نتنياهو الغارق في غزة.. يحاول خلط الأوراق وإحراج بايدن

نعم، الحياة تستمر ولا مجال للتوقف عن عيشها وإلا هزمتنا مشاعر اليأس والخوف والإحباط التي لطالما زُرعت في النفوس، وذلك خوفاً من إسرائيل التي كانت أمي ـ رحمها الله ـ لا تستسيغ  لفظ اسمها وتستعيض عنه بـ”السايبة” التي كانت تستبيح قرانا وأهلها؛ تخطف وتقتل من تشاء وتُدمّر ما  تشاء ودون حسيب أو رقيب.

ليس مشهداً بسيطاً ذاك الذي نحياه منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ فهذه هي المرة الأولى التي يعرف فيها المقيمون على جانبي الحدود المعاناة ذاتها مع فارق جوهري في كيفية التعامل مع هذه المرحلة بين أهالي القرى الحدودية اللبنانية الذين لم يصرخ أحد منهم أو قال “آخ” حتى الآن، بينما سكان المستعمرات الشمالية في إسرائيل صار نصفهم غير راغب بالعودة إلى حيث كانوا يقيمون في المستوطنات الشمالية قرب الحدود مع لبنان.. ويكفي أن نُراجع وسائل الاعلام لنكتشف الفارق بين صورتي الجمهورين.                                              [1] اعلان حالة الحرب هو من المواضيع الاساسية التي اوجب الدستور في المادة 65 منه موافقة ثلثي مجلس الوزراء. 

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  لبنان.. "خلية حمد" جديدة في مواجهة "جبهة المعارضة"!