يقول الكاتب والمفكر المصري، أنور عبد الملك، في معرض نقده النزعة الأيديولوجية في التفكير العربي، “إن إعطاء الأولوية للتأثير السياسي والمحوري للجيوبوليتيكا، كما يُحدّدها عمق مجالنا التاريخي، يعني التخلّي عن الذاتيّة، أي عن إعطاء الأولويّة للمعالجة الأيديولوجيّة لمشكلة القوّة”. ويُشدّد على أن النهج السليم الذي وضعه ابن خلدون وآخرون، يتمثّل في الربط بين الثقافة والقوّة، بين الفكر والفعل، بين عالم الأفكار والطريق الصعب للسياسة الواقعيّة.
وهكذا يَفرض التفكير الاستراتيجي الواقعي، أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية كانت تُدرك فعلاً تبعات مسؤوليتها كقوّة إقليميّة مناهضة للهيمنة الغربيّة وإسرائيل، وتحتاج تبعاً لذلك إلى أدوات سياسية إقليميّة مناسبة لتثبيت موقعها في الصراع العربي ـ الإسرائيلي وقضيّته المركزية فلسطين؛ وليس من جدوى لهذه السياسة الإقليميّة، إذا ما غيّبت العمل المستمر لتعزيز آليات الربط والتفاعل بين جبهة أماميّة تتمثّل في المقاومة الفلسطينيّة ودول الطوق من ناحية، والمجال الجيوسياسي الوسيط من بلاد الشام إلى الهضبة الإيرانية المتّكئة على أوراسيا من ناحية ثانية.
وفي هذا المجال الجيوسياسي الذي يغيب عنه قرار العرب، وسط تكالب القوى العالمية الكبرى للسيطرة عليه، تضطلع سوريا بدور “منطقة القلب” مع بلاد الرافدين، وتتحكّم بجسر الارتباط والقطع والوصل بين الساحل المتوسطي الذي يشمل فلسطين والعمق الجيوإستراتيجي الإيراني.
بكلام آخر، لسياسة الربط الإيرانيّة مع المشرق العربي، أهميّة حيويّة في هندسة الضغط على الجبهة الأمامية مع إسرائيل، وعِبر خط الإمداد المتلازم معها يسهل تدفّق السلاح والمال والخبرة العسكرية فضلاً عن الدعم البشري إذا اقتضت الحاجة. واللافت للانتباه في حقل العمل الدبلوماسي، أنّه يكفي رفع منسوب الضغط العسكري على خط التماس مع الدولة اليهودية، لكي يستنفر “الغرب الجماعي” وتتحرّك دوله لدعم إسرائيل، الأمر الذي قد يدفع إيران المشاكسة إلى صدارة الأجندة الدولية.
سوريا قاعدة استراتيجية
من السهل أن نتصوّر في ضوء ما تقدّم، أهميّة المجال الجيوسياسي المشرقي في التفكير الاستراتيجي الإيراني المسكون على الدوام برغبة الاتصال بالعراق وعتباته المقدّسة، وتالياً في التخطيط لسياسة إقليمية ناجعة تتقدّمها المواجهة مع إسرائيل والمنافسة مع القطب الإقليمي التركي النازع إلى “عثمانيّة جديدة”، فضلاً عن إدارة الشراكة الصعبة مع روسيا.
من هنا كان رهان النخبة الإيرانية الحاكمة على تحويل الحلقة السورية في المدار الشرقي المنكوب بالتدخلات العسكرية الخارجية، إلى قاعدة إستراتيجية متينة استدعت استثمارات كبيرة ومساعدات مالية ونفطية سخيّة. ما كانت هذه العملية الطويلة لتأخذ مداها في بناء شبكة من المعسكرات والمصانع ومخازن الصواريخ، من دون أن تُحرّك عدوانية الآلة العسكريّة الإسرائيليّة التي أطلقت ما سُمّي “المعركة بين الحروب” بذريعة الحدّ من توسّع قاعدة النفوذ الإيرانيّة، وذلك بالتواطؤ مع “الشريك” الروسي. ولم تتوقف إسرائيل عن شنّ الغارات على خطوط الإمداد الجويّة والبريّة الإيرانيّة، وعلى منشآت الحرس الثوري الإيراني، حتى سقوط النظام البعثي أخيراً بفعل التفكّك الداخلي والتقدّم الصاعق للمعارضة المسلّحة إنطلاقاً من قاعدة النفوذ التركيّة في إدلب في الشمال السوري وصولاً إلى إنهاء الوجود الإيراني في سوريا.
من السهل أن نتصوّر أهميّة المجال الجيوسياسي المشرقي في التفكير الاستراتيجي الإيراني المسكون على الدوام برغبة الاتصال بالعراق وعتباته المقدّسة، وتالياً في التخطيط لسياسة إقليمية ناجعة تتقدّمها المواجهة مع إسرائيل والمنافسة مع القطب الإقليمي التركي النازع إلى “عثمانيّة جديدة”، فضلاً عن إدارة الشراكة الصعبة مع روسيا
ربّما يصحّ الكلام عن “بطولة طفوليّة” من جانب بعض المخطِّطين الإيرانيين، في تقدير أو تصوّر القدرة على اختراق البنية الحضاريّة لبلاد الشام. لكن هذا يَفترض احتمال وجود اتجاهٍ متأخّر لمنظومة “تصدير الثورة” الإيرانيّة على أيدي ضبّاط من “فيلق القدس” في الحرس الثوري، إلا أنّه من الصعب إخراج الأمر إلى دائرة الضوء الإيرانية.
يبقى أن النتائج الواقعيّة لعمليّة الاختراق الجيوسياسيّة هذه، تُفيدنا بأنّها بقيت أسيرة حسابات تُداني فرض النفوذ من الخارج، وقد اصطدمت بصلابة العصبيّة السنّية للقاعدة الشعبيّة للمعارضة السورية. ولا شكّ في أنّ ما نجح نسبياً في العراق ولبنان، لا يُعوّض خسارة المحور الإيراني الحلقة الشامية في منظومة الممانعة.
التقاطع الغريب بين موسكو وطهران
من المفيد التذكير هنا، أنّ الانخراط الإيراني العميق في الأزمة والحرب في سوريا، جاء بالتفاهم مع روسيا لمنع انهيار حكم بشار الأسد المعزول عربيّاً ودوليّاً، أي أنّه كان وليد ظروف استثنائيّة قاهرة، وإنْ كان مرتكزه السياسي هو التحالف القائم مع سوريا منذ انتصار الثورة الخمينيّة في العام 1979، واعتماد دمشق على الثّقل الإيراني لموازنة الضغوط الإسرائيليّة والحصار الغربي.
أمّا عطب التقاطع الغريب بين طهران وموسكو في سوريا، فإنّه يكمن في اللعبة الإسرائيليّة من جهة، ومحاولة استغلال “منطقة القلب” من كلا الجانبين الروسي والإيراني لتفعيل الأدوار المنشودة على المسرح الدولي من جهة أخرى. وهذا يقود بالطبع إلى المفارقة حول النظرة إلى دمشق في المعادلة الإقليميّة ـ الدولية، وكيفيّة التعامل مع أزمة الإدارة والجيش والمجتمع المدني في ظلّ تناقض المصالح.
في هذا السياق، لم يكن ممكناً بالنظر إلى الطبيعة الدفاعيّة للاستراتيجيّة الإيرانيّة، ومنها أولويّة الحفاظ على النظام الديني، أن تأخذ عمليّة بناء النفوذ في سوريا طابعاً هجوميّاً قوامه تثبيت التقدّم السياسي الذي حقّقته الجمهورية الإسلامية بفضل تضحيات الحرس الثوري والشركاء الإقليميين. ولعلّ ذلك مردّه في الأصل إلى “المحرّك الفلسطيني” للمشروع الإيراني، بمعنى التموضع في القضيّة الفلسطينيّة والتركيز على التعامل مع التهديد الإسرائيلي وتوجيه كل عناصر القوة التي يملكها “محور الممانعة” نحو الجبهة الأماميّة. ولذلك ارتبطت حركة هذا “المحور” أساساً بالحاجات العملياتية اليوميّة ولم تكن معنية ببناء خطط مرحليّة، مثلما كانت الحال في التجربتين اللبنانيّة والعراقيّة بسبب الحضور الوازن للمكوّن الشيعي فيهما، ما جعل القاعدة الخلفيّة في سوريا عرضة لتحدّيات هائلة بلغت أوجّها في الحرب الإسرائيلية لتدمير البنية الدفاعيّة للدولة السوريّة على مدى السنوات الماضية وحتى بعد سقوط النظام البعثي!
احتراف دور التعطيل
ويتعيّن في الختام أن يُضاف إلى هذا التقويم السريع أنّ تجربة أكثر من 45 سنة من الدّفع الإيراني لأولوّية المواجهة مع إسرائيل، قد أعادت شيئاً من التوازن إلى المعادلة الإقليميّة عقب اتفاقيّة كامب ديفيد وخروج مِصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، كما هيّأت المناخ لاستعادة المقاومة الفلسطينيّة زخمها الهجومي الذي تجلّى في عمليّة 7 أكتوبر 2023 في سياق “طوفان الأقصى”، على الرغم من أعباء الهاجس الأمني في بيئة إقليميّة مخترقة من الغرب والاستخبارات الإسرائيليّة، ما جعل جهد إيران يبدو مركّزاً على تفكيك المشاريع المناوئة، ودفع بعض المحلّلين إلى القول إنّها “احترفت دور التعطيل.. وبات معيار الانتصار لديها إفشال أهداف الأعداء”.
إلّا أنّه لا يصحّ إطلاقاً أن يُطلب من إيران أن تعمل مع شركائها على تشديد الحصار على إسرائيل العدو الوجودي، وأن تعتمد في الوقت نفسه نمطاً من التدخل “في مساحة الأنظمة الحاكمة والعمليّة الاقتصادية وطبقات المجتمع المختلفة”. ذلك أنّ من شأن هذا التوجّه أن يصطدم بمفهوم السيادة والاستقلال في العلاقات بين الدول، علماً أنّه يتجاهل حساسيات العلاقات العربيّة – الإيرانية وحالة الريبة والتشكيك التي تُحيط بفاعليّة الحوار الاستراتيجي بين النُّخب العربيّة والإيرانيّة.