عندما يُطلق الغرب رصاصه الإقتصادي على.. قدميه!

نستخدم مقولة "كمن يُطلق الرصاص على قدميه" لوصف قرار أحمق تكون تبعاته أليمة على صاحبه. قرار الغرب بفتح صراع عسكري مع روسيا وآخر إقتصادي مع الصين وسياسة العقوبات "المؤلمة" عليهما.. كُلّها لم توصل إلى النتائج المرجوّة. على العكس، فمع انتقال المبادرة إلى روسيا في أوكرانيا وصمود إقتصاد الصين، يبدو أنّ الغرب يرتشف كأس السمّ الذي أعدّه لهما.

أسوأ ما نتج عن سياسة الغرب العدوانيّة حيال روسيا (وأنا لست من المعجبين بسياسات أو ممارسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) والعقوبات المتتالية عليها منذ العام 2014 هي أنّها رفعت عالميّاً سعر برميلي النفط والغاز ومشتقّاتهما وسلعاً أخرى أساسيّة كثيرة أهمّها الحبوب والأسمدة الزراعيّة. مع ارتفاع أسعار هذه المنتجات، ارتفع معدّل التضخّم في دول الغرب ليبلغ مستويات تاريخيّة لم تشهدها الإقتصادات الغربيّة منذ عقود. نتج عن ذلك حتمية زيادة الفائدة بهدفين متلازمين: لجم التضخّم، والمحافظة على الودائع بالدولار واليورو في المصارف الغربيّة.

استراتيجيّة رفع معدّل الفائدة هدفت إلى وضع عراقيل أمام الشركات بحيث تتوقف عن التوظيف أو تُسرّح بعض الموظّفين، ويقود ذلك برأي عباقرة الإقتصاد إلى ازدياد عدد العاطلين عن العمل، الأمر الذي يؤدّي بدوره إلى انخفاض معدّل الأجور كون العاطلين عن العمل سيقبلون بأجور أقلّ، ويسري ذلك على العاملين الذين سيقبلون بامتيازات أقل مخافة فقدان وظائفهم.

ارتفاع سعر الفائدة ستكون كلفته كبيرة على الشركات التي تعتمد على القروض القصيرة أو المتوسّطة أو الطويلة الأجل من أجل تمويل مشاريعها أو إعادة جدولة ديونها، وهذا ما لا يشتهيه أو يريده المستثمرون في هذه الشركات.

هنا تكمن خطورة ما يحصل في العالم الغربي على صعيد الفائدة، ولذلك نجد مدراء الشركات متحفّظين عليها. من جهة، يضغطون على البنوك المركزيّة من أجل تخفيض سعر الفائدة. ومن جهة أخرى، يخشون أن تؤدي السياسات الماليّة الحكوميّة إلى حالة ركود إقتصادي بعنوان لجم التضخّم، كونهم يعرفون حقّ المعرفة أنّ هذه المجازفة لها خطورتها. بمعنى آخر، السياسات الماليّة للحكومات الغربيّة حاليّاً سينتج عنها برأيهم ركود إقتصادي مصحوب بنسبة بطالة عالية وتضخّم في الأسعار. أي ستواجه إقتصادات الغرب كلّ هذه المشاكل، كما كان الحال في سبعينيات القرن المنصرم مع ارتفاع سعر النفط.

هل كان إذاً قرار أمريكا ودول أوروبا بفتح جبهة حرب ضدّ روسيا صائباً أم لا؟ وهل العقوبات ضد الصين تعكس سياسة سليمة أم لا؟ الجواب نشاهده أمام أعيننا. روسيا في موقع صعب من دون شكّ، لكنها ليست في موقع أسوأ من ذي قبل (لا إقتصاديّاً ولا عسكريّاً) ويمكن الجزم أن وضعها أهون من التحدّيات التي يواجهها الغرب الذي بدأ يدق نواقيس الخطر في العواصم الغربيّة. مثلاً، الإقتصاد الألماني هو منذ 2022 في وضع حرج نتيجة إنقطاع الغاز الروسي الرخيص والذي كان يساعد الصناعات الألمانيّة لكي تنافس في الأسواق العالميّة.

لا يخفى على أي عاقل أو مجنون أنّ فاتورة انتشار الفاشيّة في أوروبّا، بتشجيع من النخب السياسيّة والاقتصاديّة الوازنة والنافذة من أجل محاربة المدّ اليساري، أنتج فعليّاً الحرب العالميّة الثانيّة. هذه النخب كانت مقتنعة كلّيّاً أنّ سياساتها عبقريّة، لكن تبيّن أنّها كانت كارثيّة. والتاريخ “يُعيد نفسه” الآن

المواجهة مع الصين أيضاً ليست بسهلة، ولن تساعد بالتأكيد الإقتصادات الغربيّة على مكافحة التضخّم. على العكس، تدهور العلاقات التجاريّة مع الصين يزيد من المشاكل التي تواجهها المصانع الغربيّة؛ فالصين هي، من جهة، المركز الأساس لتصدير الكثير ممّا ينتجه الغرب من سلع غالية، ومن جهة أخرى، هي المصدر لكثير من المواد التي تحتاج إليها مصانع الغرب. إذاً، استخدام سياسة العقوبات ضدّ الصين يُجبر الشركات الغربيّة على الإعتماد على الإنتاج المحلّي وهو أكثر كلفةً أو شراء حاجاتها من دول أخرى بسعر أغلى ممّا توفّره الصين.

الإصرار على مواجهة الصين وروسيا واستخدام سياسة العقوبات بوجههما سيبقي على التضخّم في العالم في الفترة المنظورة على الأقل وسيؤذي المصانع الغربيّة وهامش ربحها، وسينتج عنه ارتفاع في نسبة البطالة. أيضاً، ستُجبر الدول الغربيّة على إنفاق مبالغ طائلة لا تملكها، أي ستستديّنها من السوق بكلفة عالية، وهو أمرٌ له أبعاده وخطورته تحديداً لجهة ارتفاع معدّلات التضخّم.

هنا نصل إلى عامل آخر مهمّ في التضخّم الإقتصادي في الغرب: حجم الدين المتنامي لدولها وعجزها الواضح في إبطاء تناميه المتزايد. هذا العامل سيُجبر أمريكا ودول الغرب على الإبقاء على سعر الفائدة العالي من أجل المحافظة على الودائع الموجودة فيها. وهذا سينتج عنه ازدياد الدين العام، وارتفاع تكلفة الديون الخاصّة، الأمر الذي سيُترجم ارتفاعاً للأسعار وبقاء التضخّم على حاله.

وهناك وجه آخر لمشكلة التضخم في الأسعار (stagflation)، وهو أنّ الركود الإقتصادي وازدياد البطالة والتضخّم سيقودون إلى انتشار أكثر للتطرّف العرقي في دول الغرب. وهذا أيضاً ليس في مصلحة دول الغرب كون عظمتها وقوّة جاذبيّتها (من زاوية ما يُردّده الكثير من الناس في هذه الدول أو حول العالم) أنّها دول “حرّيّة” و”ليبراليّة” و”مساواة” و”حقوق” و”عدالة” إلخ.. لكن التطرّف العنصري سيقضي على ما تبقّى من ذلك، وستزداد الإعتداءات على المهاجرين ومن هم من أصل مهاجر، وستتصاعد الإتهامات لهم بالاستحواذ على فرص العمل أو إضعاف الأجور والإمتيازات وأمور كثيرة، كالقول إن الدول الغربية تنفق الكثير من ميزانيّاتها من أجل مساعدة المهاجرين (التعليم، الطبابة، السكن، المواصلات، الطعام، إلخ.) بدل أن تنفقها على سكّانها “الأصليّين”، وهذا ما نشهده فعليّاً في كثير من دول الغرب. وفي ظلّ ازدياد الممارسات الإرهابيّة لأجهزة الشرطة والأمن في هذه الدول، سنكون أمام عودة كاملة للفاشيّة إلى أوروبا وأمريكا.

إقرأ على موقع 180  تقدير إستخباراتي إسرائيلي: الأسد لم يعد راضياً عن الحضور الإيراني!

هنا علينا إعادة قراءة ما حصل في أوروبا نتيجة فترة الركود الكبيرة في أواخر عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم، عندما قادت السياسات الماليّة الخاطئة في أوروبا وأمريكا إلى انتاج حالة من الركود الإقتصادي مصحوبة ببطالة عالية وتضخّم كبير (بعضها مشابه وبعضها مختلف عما نشاهده حاليّاً). ذلك قاد إلى ظهور الفاشيّة وانتشارها بتشجّيع من حكومات أوروبّا وأمريكا وطبقة رجال الأعمال لكي تقف حائطاً أمام إنتشار الأفكار والتنظيمات اليساريّة فيها التي أصبح لها رواج نتيجة للركود والبطالة والتضخّم. ولا يخفى على أي عاقل أو مجنون أنّ فاتورة انتشار الفاشيّة في أوروبّا، بتشجيع من النخب السياسيّة والاقتصاديّة الوازنة والنافذة من أجل محاربة المدّ اليساري، أنتج فعليّاً الحرب العالميّة الثانيّة. هذه النخب كانت مقتنعة كلّيّاً أنّ سياساتها عبقريّة، لكن تبيّن أنّها كانت كارثيّة. والتاريخ “يُعيد نفسه” الآن.

إذاً، لنعد طرح السؤال: هل كان قرار الحرب مع روسيا قراراً عبقريّاً، وهل سياسة إحتواء الصين هي نابغة من النوابغ، أم هي رصاصات أطلقها الغرب فأصاب قدميه، وما يزال مصرّاً أنّها ليست قدميه؟ الجواب في القول القديم: على من تقرأ مزاميرك يا أبا سليمان!

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  حروب الوكالة فى أفغانستان.. مستمرة