لم تمضِ ساعات لا بل دقائق على ظهور النتائج الأولية للدورة الأولى (30 حزيران/يونيو المنصرم) للانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة، حتى تسارعت الاسئلة حول مرحلة ما بعد انتخابات الدورة الثانية المقررة الأحد المقبل وما يمكن ان يترتب عليها من تطورات وتداعيات سياسية اجتماعية واقتصادية وأمنية ودستورية متعددة.
قبل محاولة رسم ملامح المرحلة الآتية، لا بد من التوقف عند المعطيات التي خرجت بها الدورة الأولى والتي يمكن أن يتحكم معظمها بمسار الدورة الثانية.
أولاً؛ حسابات الربح والخسارة:
1-الرابح الأكبر دون أي شك، هو حزب “التجمع الوطني” المنتمي إلى أقصى اليمين بزعامة مارين لوبن ورئاسة جوردان بارديلا. فقد تمكن من مضاعفة حجم شعبيته مقارنة بالانتخابات التشريعية السابقة بحصوله على أعلى نسبة تجاوزت الـ 33 بالمئة من المقترعين وبات حصوله على “الأكثرية النسبية” داخل الجمعية الوطنية المقبلة (البرلمان) شبه مضمون. التحدي الذي ينتظره “التجمع” في الدورة الثانية امكان حصوله على “الاكثرية المطلقة” (289 مقعداً) بشكل يُمكّن بارديلا من تشكيل الحكومة الجديدة وممارسة الحكم “بشكل مريح” وتطبيق الاصلاحات التي ينادي بها دون خشية قيام معارضة تُهدّده بطرح الثقة بحكومته. وقد بادر بارديلا بعد اعلان النتائج إلى طمأنة الناخبين معلناً بأنه سيكون رئيساً للوزراء لـ”جميع الفرنسيين” وأنه عازم على “احترام المؤسسات والمعارضة”.
2-قوى اليسار (تحالف أحزاب الاشتراكي والشيوعي والخضر وفرنسا الأبية) استطاعت، بالرغم من التباينات الداخلية في صفوفها وبين مكوناتها، من تجميع صفوفها وتوحيد معركتها تحت راية واحدة مشتركة وهي “الجبهة الشعبية الجديدة”. كما تمكنت من المحافظة على موقعها كقوة سياسية ثانية داخل الجمعية الوطنية.
حالة “الغضب” التي سادت مختلف الأوساط السياسية والاقتصادية والشعبية حيال قرار الرئيس ماكرون حل الجمعية الوطنية، تحولت إلى حالة من “القلق العميق والخوف الكبير” من تداعيات “اليوم التالي” الذي سيلي موعد الدورة الثانية والذي ستكون سمته الأبرز “اللا استقرار” وعنوانه “القفز في المجهول”
3-الخاسر الأكبر هو الرئيس ايمانويل ماكرون الذي أصيب بفشل ذريع في رهانه المزدوج، أكان على صعيد إحداث “صحوة” لدى الفرنسيين لتصحيح المسار السياسي بعد هزيمة حزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي أو على صعيد اضعاف الفريقين السياسيين الأكثر تشدداً يميناً ويساراً. إذ فقد حزبه أكثر من ثلثي المقاعد وبات القوة النيابية الثالثة. والملاحظ أن ماكرون قرّر أن يصمّ أذنيه على جرسي انذار: الأول، في الانتخابات التشريعية قبل عامين والتي حجبت عنه الأكثرية البرلمانية المطلقة، والانذار الثاني يتمثل بالتراجع الكبير للتحالف الذي يقوده في الانتخابات الأوروبية الاخيرة.
عملياً، تراجعت شعبية ماكرون بشكل مذهل وثمة أزمة ثقة غير مسبوقة بشخصه، فضلاً عن انقسامات حادة في صفوف تحالف حزبه وبين قادته خصوصاً مع بروز وجوه تسعى للدخول في معترك خلافته في قصر الاليزيه (رئيسا وزرائه الحالي غبريال أتال والسابق ادوارد فيليب ووزير الداخلية جيرار دارمانان ووزير الاقتصاد برونو لومير).
4-أما اليمين التقليدي المعتدل القريب من الإرث الديغولي والمتمثل بحزب “الجمهوريون” فهو أيضاً عانى من تراجع كبير في شعبيته اضافة إلى تفكك قيادته من خلال مبادرة رئيسه أريك سيوتي وبشكل فردي، ومن دون التنسيق مع أركان حزبه، الى التحالف مع اليمين المتشدد والمتطرف.
ثانياً؛ سيناريوهات أحلاها مر:
1-“مساكنة صعبة ومعقدة” بين ماكرون وبارديلا:
المادة 8 من دستور الجمهورية الخامسة تنص على أن الرئيس يُعيّن رئيس الوزراء، لكنها لا تُحدّد المعايير التي يجب أن يستند إليها. يؤكد “التجمع الوطني” أن رئيس الحزب بارديلا هو مرشحه لرئاسة الوزراء. ولكن الحزب قال أيضاً إنه سيرفض المنصب إذا لم يفز هو وحلفاؤه معا بأغلبية مطلقة لا تقل عن 289 مقعداً. لذلك يُعوّل “التجمع” في حال عدم تمكنه من الحصول على العدد الكافي من النواب على مد يده إلى نواب اليمين المعتدل لتشكيل “اتحاد لكل قوى اليمين”. ويجمع الخبراء على أن المساكنة، إن تمّت، لن تكون سهلة ليس فقط نظراً لطبع كل من الرجلين وامكان تشابك الصلاحيات بينهما بل ايضاً وخصوصاً لتباين الرأي بينهما حول اكثر من موضوع داخلي وخارجي.
2-بين “السد المنيع” و”الحكومة الموسعة”:
لتفادي الوصول الى هذه المواجهة ولتجنيب البلاد مخاطر هذه التجربة، جهد ماكرون منذ لحظة صدور نتائج الدورة الاولى إلى قيام ما سمي بـ”السد المنيع” أمام وصول اليمين المتشدد إلى الحكم من خلال سحب مرشحي حزبه (النهضة) في كل دائرة انتخابية وصلوا فيها إلى المركز الثالث ومن شأن استمرارهم فيها تعزيز فرص نجاح مرشحي اليمين المتشدد. هذه الخطوة تتيح الفرصة أمام مرشحي “الجبهة الشعبية الجديدة” (تحالف قوى اليسار) للفوز بالمقعد. وهو بذلك تجاوز ما كان ينادي به حتى الأمس القريب بأن معركته مزدوجة ضد اليمين المتطرف واليسار المتطرف في آن. وقد وصف بارديلا موقف ماكرون بـ”العار” و”المعيب”.
وقد لاقت “الجبهة الشعبية الجديدة” اليسارية هذا الاتجاه وهي التزمت به عددياً أكثر من حزب “النهضة” الماكروني الذي سجل عدة اختراقات وعدم التزام بهذا التوجه. كما أن ابرز النقابات العمالية أيّدت قيام مثل هذا “السد”.
وفي مناورة التفافية هادفة إلى “تعويم” عهده وسلطته، يسعى ماكرون إلى تسوية تجمع “أوسع تحالف نيابي” (من اليمين المعتدل الى اليسار غير المتطرف مروراً بالوسط والخضر) يكون مناهضأً لـ”التجمع الوطني”، على أن يتم عرض منصب رئاسة الوزراء على شخصية سياسية جامعة، أو شخصية وسطية (من بين الأسماء التي تردّدت رافايل غلوكسمان الذي ترأس اللائحة المدعومة من الحزب الاشتراكي في الانتخابات الأوروبية الأخيرة وهو رفيق حياة الصحافية ليا غسان سلامة) وذلك من أجل تشكيل حكومة انقاذية موسعة وجامعة تنفذ برنامجاً اصلاحياً ائتلافياً يتم الاتفاق على كامل بنوده. لكن مثل هذا التوجه يصفه البعض بـ”التقارب الهجين والائتلاف الهش” كما أنه لا يخلو من المحاذير إذ أن عزل المتشددين والمتطرفين يميناً ويساراً قد يستجلب ردود فعل عنيفة.
3-حكومة تقنية محدودة زمناً ومهمة:
في حال استحالة قيام ما سبق من خطط نظراً لتضعضع القوى وتشرذم المقاعد وعدم امكان ردم هوة الخلافات بينها وتعمق الفراغ قد يصبح البلد “غير قابل للحكم” وأمام أزمة شلل سياسي كامل. عندها، وبحسب رأي بعض الخبراء والمتابعين، قد يضطر رئيس الجمهورية إلى سلوك مسار غير مألوف وهو تشكيل حكومة “تقنية” موقتة وغير سياسية مهمتها تصريف الاعمال العادية وادارة الشؤون اليومية الاساسية وخصوصاً لجهة مواكبة كل الاستعدادات والتدابير الموضوعة والتي تتناول مجريات الألعاب الأولمبية التي تستضيفها فرنسا خلال هذا الصيف في انتظار بلورة الاوضاع وانقضاء مهلة السنة التي يفرضها الدستور قبل امكان توجيه الدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة.
ثالثاً؛ من الغضب إلى القلق:
الساعات التي تفصلنا عن موعد الدورة الثانية قد تكون حبلى بالمفاجآت والتسويات والمساومات والتنازلات المتبادلة، وستتحكم في العملية الانتخابية عناصر متعددة، أهمها عنصران:
العنصر الأول هو الوضع المستجد بعد اقدام أكثر من 210 من المرشحين المنتمين إلى الأكثرية الحاكمة وتحالف قوى اليسار على سحب ترشيحاتهم وبالتالي تحويل الاقتراع الى مواجهة ثنائية مباشرة مع اليمين المتطرف وحصر الخيار بين مرشحيه وأحد المرشحين أكان ينتمي للاكثرية الحاكمة الحالية أو لتحالف قوى اليسار.
أما العنصر الثاني، وهو الأكثر غموضاً وأهمية، هو مزاج الناخب الفرنسي وكيفية تعامله مع هذا الوضع المفروض عليه وبالتالي معرفة مدى الالتزام بعملية تجيير الاصوات خصوصاً وأن المؤشرات تدل على أن نسبة لا بأس بها من الناخبين ستعمد إما إلى الامتناع عن التصويت وإما الاقتراع بورقة بيضاء.
والملاحظ أن حالة “الغضب” التي سادت مختلف الأوساط السياسية والاقتصادية والشعبية حيال قرار الرئيس ماكرون حل الجمعية الوطنية، تحولت إلى حالة من “القلق العميق والخوف الكبير” من تداعيات “اليوم التالي” الذي سيلي موعد الدورة الثانية والذي ستكون سمته الأبرز “اللا استقرار” وعنوانه “القفز في المجهول” ومعه “تعميق الانقسام والتشرذم” وخطورة “انتقال الفوضى من المؤسسات إلى الشارع”.