منذ أشهر، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يُهدّد بشنّ حرب واسعة ضد حزب الله في لبنان بعد انتهاء العمليات العسكرية التي يشنها جيشه في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي (…).
بين إسرائيل وحزب الله تاريخ طويل من الصراع، تعود جذوره إلى الإجتياح الإسرائيلي عام 1982، واحتلال الجزء الجنوبي من لبنان (1985- 2000)، والحرب واسعة النطاق التي خاضها الجانبان في عام 2006 (…). لكن تواتر هذا الصراع وحجمه زادا في أعقاب الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة ومعها تتزايد المخاوف من احتمال اندلاع حرب كبيرة أخرى بين الطرفين.
وإذا نفّذ نتنياهو تهديداته، فستكون الحرب التي يتوعد بها ضد بلد على حافة الهاوية بالفعل. فلبنان يعيش أوضاعاً متدهورة إلى حد كبير، ويعاني من انهيار اقتصادي شبه كامل منذ العام 2019، ويواجه تحديات جمَّة لا تُعد ولا تُحصى، ما أدَّى إلى تأجيج الإحباط واليأس والغضب بين المواطنين اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم (…).
مع حزب الله ضد إسرائيل
حتى قبل الحرب الإسرائيلية على غزة، كان لبنان بلداً شديد الانقسام. فقد شهد حرباً أهلية مروعة (1975-1990) دارت رحاها على أسس طائفية إلى حد كبير، وانتهت باتفاق سلام هشّ يضمن للطوائف الرئيسية حقوقاً سياسية متساوية إلى حد ما (…).
لكن صعود حزب الله في العقود الثلاثة الماضية أدَّى إلى تغيير جذري في ميزان القوى هذا. فهو الطرف غير الحكومي الأكثر تسلحاً في العالم (…)، ويعمل كحزب سياسي قانوني، ويشكل قوة دافعة في السياسة المحلية (…). وبرغم أن الحزب لا يحظى بدعم واسع النطاق في جميع أنحاء البلاد؛ ولو أنه يتمتع بمستويات عالية جداً من الدعم بين المواطنين الشيعة (يتركزون في مناطق جنوب وشرق لبنان وضاحية بيروت الجنوبية)؛ لكن العديد من اللبنانيين يتبنون ويفضلون بعض المواقف الأساسية التي يتخذها الحزب. فهم يؤيدون (بأغلبية ساحقة) حقوق الفلسطينيين التي يدافع عنها الحزب، ويدينون إسرائيل التي يقاتلها، بحسب “منظمة الباروميتر العربي” الذي توضح نتائج استطلاعه في الفترة ما بين شباط/فبراير ونيسان/أبريل 2024، أن الدعم لدور حزب الله في الشؤون الإقليمية ارتفع بين اللبنانيين غير الشيعة، منذ أن شنّ الحزب “حرب إسناد” لغزة وللفصائل الفلسطينية المقاومة في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وأن هذا “الدعم” مرجح لأن يرتفع أكثر إذا نفذ نتنياهو وعيده وأعلن حرباً مفتوحة ضد حزب الله في لبنان.
مسألة ثقة
يكشف استطلاع “الباروميتر العربي” أنه وبرغم النفوذ الكبير الذي يتمتع به حزب الله في لبنان، فإن مستويات الثقة به تختلف بشكل كبير حسب الطائفة: 85% من الشيعة قالوا إن لديهم ثقة كبيرة أو مطلقة. وبالمقارنة، فإن 9 بالمائة من السنة والدروز، و6 بالمائة من المسيحيين فقط قالوا إنهم يثقون بالحزب. ومنذ آخر استطلاع للرأي أجراه “الباروميتر العربي” في لبنان، في عام 2022، ارتفعت الثقة في حزب الله بين الشيعة بمقدار 7 نقاط، لكنها ظلَّت دون تغيير بين المسيحيين والسنة والدروز.
كذلك يقول الثلث فقط إنهم يوافقون أو يوافقون بشدَّة على أنه من الجيد للعالم العربي أن يشارك حزب الله في السياسة الإقليمية، في حين أن 42% لا يوافقون على ذلك تماماً: 78 بالمائة من الشيعة يرون أن دور حزب الله في الشؤون الإقليمية إيجابي، مقارنة بـ 13% فقط من السُنَّة، و12% من المسيحيين، و16% من الدروز.
ومع ذلك، فإن التصور بأن دور حزب الله في السياسة الإقليمية إيجابي قد زاد بمقدار 9 نقاط منذ عام 2022 – والجدير بالذكر أن هذه الزيادة في الدعم لا تأتي من الشيعة فقط، الذين ظلَّت وجهات نظرهم بشأن هذه المسألة دون تغيير على مدى العامين الماضيين. وبدلاً من ذلك، يأتي الدعم المتزايد من أبناء الطوائف الأخرى، مع زيادة قدرها 10 نقاط بين الدروز، وزيادة قدرها 8 نقاط بين السُنَّة، وزيادة قدرها 7 نقاط بين المسيحيين.
ومن المرجح أن تشير هذه الزيادة إلى التعاطف مع موقف حزب الله تجاه إسرائيل. فالمواطنون اللبنانيون، على اختلاف انتماءاتهم وطوائفهم، يشعرون بالسخط والغضب جراء الحرب الإسرائيلية على غزة. ومن قائمة مكونة من سبعة مصطلحات تتراوح بين “الصراع” إلى “الإبادة الجماعية”، فإن المصطلحات الأكثر شيوعاً التي يستخدمونها لوصف الحرب الإسرائيلية هناك هي “الإبادة الجماعية” (36% من المستطلعين اختاروا هذا المصطلح) و”المذبحة” (25%). وفي الوقت نفسه، يقول 78% من اللبنانيين إن القصف الإسرائيلي على غزة يمثل “عملاً إرهابياً” مقارنة بـ 11% فقط يعتبرون هجمات حزب الله في شمال إسرائيل بمثابة “إرهاب”.
ومن غير المستغرب أن تعكس وجهات نظر اللبنانيين تجاه إيران مواقفهم من دور حزب الله في السياسة الإقليمية. 36% من اللبنانيين لديهم وجهة نظر إيجابية للغاية أو إيجابية إلى حد ما تجاه إيران، مع ظهور الانقسام الطائفي مرة أخرى: 80% من الشيعة نظرتهم ايجابية، مقارنة بـ 26% فقط من الدروز، و15% من السُنَّة، و15% من المسيحيين. وبالرغم من هذا المستوى العام المنخفض من الدعم، فقد زادت هذه الآراء الإيجابية تجاه إيران بمقدار 8 نقاط مئوية منذ عام 2022، وكانت الزيادة مدفوعة في المقام الأول بتغير وجهات النظر بين غير الشيعة. وتحسنت صورة إيران أكثر بين الدروز (9 نقاط)، يليهم المسيحيون (5 نقاط) والسُنَّة (4 نقاط).
وقد اقترن التحول نحو إيران، وخاصة بين الطوائف غير الشيعية في لبنان، بانهيار الدعم للولايات المتحدة. في عام 2024، كان لدى 27% فقط من اللبنانيين وجهة نظر إيجابية تجاه الولايات المتحدة، مقارنة بـ 42% في عام 2022. المسيحيون هم الأكثر إيجابية تجاه أميركا (49%)، يليهم الدروز (32%)، والسُنَّة (25%). أما بين الشيعة، فالنسبة منخفضة للغاية: 5 بالمائة فقط. وكان التغيير أكثر دراماتيكية بين السكان الدروز، حيث انخفضت الآراء الإيجابية تجاه الولايات المتحدة بنسبة 31 نقطة مئوية. وانخفضت الأفضلية بنسبة 13 نقطة بين المسيحيين، و11 نقطة بين السُنَّة، و8 نقاط بين الشيعة (…).
عدو عدوي
إحدى نتائج الاستطلاع كانت مثيرة للدهشة إلى حد ما. وحدهم اللبنانيون، من بين السكان العرب في الدول السبع التي شملها استطلاع “الباروميتر العربي” منذ أيلول/سبتمبر 2023، يقولون إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن يجب أن تعطي الأولوية للتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط على حساب القضية الفلسطينية. وهذا أمر لافت للنظر، لأن معظم اللبنانيين يشعرون بقدر هائل من التعاطف مع الفلسطينيين ولديهم شكوك عميقة بشأن واشنطن. وتؤكد هذه النتيجة مدى اليأس الذي وصلت إليه الظروف في لبنان (…).
ويلجأ اللبنانيون إلى الجهات الفاعلة الأجنبية لأن الأزمة السياسية والمالية المستمرة دمّرت ثقة المواطنين في حكومتهم وإيمانهم بزعمائهم الدينيين. ويُعبّر المواطنون اللبنانيون عن أدنى مستوى من الثقة بالقادة السياسيين والمؤسسات في أي دولة شملها استطلاع “الباروميتر العربي”. قال تسعة من كل عشرة لبنانيين مشاركين إنهم لا يثقون كثيراً أو لا يثقون أبداً بحكومتهم أو البرلمان أو رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء. يقول 94% من المواطنين اللبنانيين إنهم غير راضين عن أداء الحكومة. علاوة على ذلك، قال ثلاثة من كل أربعة إنهم لا يثقون في الزعماء الدينيين؛ ويقول 65% أن الزعماء الدينيين من المرجح أن يكونوا فاسدين مثل غير المتدينين. ومن المثير للاهتمام أن المؤسسة العامة الوحيدة التي يُنظر إليها على أنها تتمتع بمصداقية كبيرة هي المؤسسة العسكرية اللبنانية: 85 في المائة يثقون بمؤسسة الجيش اللبناني (…).
وفيما تتزايد المخاوف (والاحتمالات) من اندلاع حرب مفتوحة بين إسرائيل ولبنان، يزداد عدد اللبنانيين الذين يوافقون على ضرورة أن يتصدى حزب الله لأي اعتداء من إسرائيل، من منطلق الرفض لكل الممارسات التي ترتكبها ضد الفلسطينيين في غزة (…). ومن المرجح أن يترسخ هذا المنطق الأساسي – عدو عدوي هو صديقي – بشكل أكثر صرامة إذا ما قرّرت إسرائيل شنّ حرب أكبر ضد حزب الله، وبخاصة إذا قرّر الجيش الإسرائيلي اجتياح أراضٍ في لبنان. وبرغم أن شن عملة عسكرية إسرائيلية ضد لبنان سيفاقم؛ بالتأكيد؛ الصعوبات التي يواجهها المواطنون العاديون بالفعل، يرى كثيرون في دعم حزب الله في الحرب المفترضة وسيلة عملية للدفاع عن وطنهم، وهذا بالطبع سيزيد من صعوبة تحقيق إسرائيل لأهدافها، بحسب “الباروميتر العربي”.
في الوقت نفسه، إذا ما تم النظر إلى حزب الله على أنه الطرف الذي تسبب في توسيع نطاق الحرب إلى لبنان، فقد يخسر الدعم المحدود الذي اكتسبه منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر وتنخفض شعبيته بين السكان غير الشيعة، لأن اللبنانيين العاديين لا يريدون الحرب، بحسب “الباروميتر العربي”. ونظراً لوجهات النظر السلبية للغاية التي يحملها اللبنانيون بشأن الممارسات العدوانية التي ترتكبها إسرائيل ضد أهالي غزة، يبدو من غير المرجح أن يؤدي انخفاض الدعم لحزب الله إلى أي تغيير إيجابي في وجهات النظر تجاه إسرائيل. وهذا من شأنه أن يترك العديد من اللبنانيين معارضين لكلا الطرفين الرئيسيين في حرب من شأنها أن تزيد من صعوبة تحمل ظروفهم الصعبة بالفعل، أيضاً بحسب “الباروميتر العربي”.
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) “الباروميتر العربي”، الشبكة البحثية الرائدة والأعلى تأثيراً لقياس الرأي العام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.