مع انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وعودة حركة “حماس” للمشهد والصورة من بوابة صمودها الأسطوري في قطاع غزة أعادت أنظمة المنطقة نقاشاتها الداخلية والخارجية عن إمكانية سطوع نجم “الإخوان المسلمين” في العالم العربي في مناطق متفرقة، في ظل حالة التأييد العارم الذي حصدته “حماس” في أوساط كثيرة، عربياً وآسيوياً وأفريقياً.
وهذا الطوفان الشعبي الذي استعادته حركة “حماس”، بات مصدر قلق أن يتحول فرصة جديدة قد تقتنصها الجماعات “الإخوانية” في المنطقة لتكريس عودتها للملعب السياسي بعد اقصائها منه بكل الأساليب الأمنية والعسكرية (مصر والسودان وسوريا وتونس) والسياسية (المغرب ولبنان والعراق)، ما أدى لتخلل بنيتها التنظيمية حد التنازع الداخلي والتصارع على بقايا التنظيمات.
والحديث عن عودة “الإخوان المسلمين” لتولي زمام الأمور مع حالة الفراغ السياسي وفشل التجارب البديلة، كانت مناسبة لأن تكون عودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان ومحاولة استكشاف التربة السياسية فيه، عنواناً رئيساً في برنامج النقاشات اليومية للحريري، سراً وعلانية، وخاصة في ظل ما تسرب في لقاءاته ذات الطابع السني عن سؤال متكرر عن حجم حضور الإسلاميين في الشارع السني بعد “طوفان الأقصى”.
وبات جلياً أن هذا العنوان سيكون عنواناً تشاركياً بين مكونات متعددة في لبنان والمنطقة، وقد يجنح البعض في المستقبل بالدعوة لتشكيل تحالف إقليمي وعربي لمواجهة الموجة القادمة للحضور “الإخواني” في المنطقة وصد أي مسعى لإنعاش هذه التيارات بعد كل الاستثمار الخليجي والعربي في تقليص حضورها وتشتيت شملها وتركها عرضة للصراعات البينية القاتلة.
أمام كل هذه الصورة القاتمة في تيارات الإسلام السياسي على امتداد خريطة المنطقة، يبدو أن أطرافاً تسعى لاستغلال تداعيات “طوفان الأقصى” لإعادة التخويف من “الإخوان المسلمين”، للاستفادة بحجز مقعدها في أي ترتيبات مستقبلية، كراعية للتوازن والوسطية الدينية
الإنفتاح المصري التركي
يبدو المشهد في المنطقة مُغايراً للمعطى الفعلي، فجماعات “الإخوان المسلمين” على امتداد المنطقة، وعلى الرغم من عدم إمكانية القضاء عليها بكونها تيارات متجذرة في وجدان المؤيدين والمناصرين برغم كل الحرب الضروس التي تواجهها، لكنها بالفعل تعيش أزمات متلاحقة تجعل من المستحيل إعادة احياءها، وفقاً لجملة معطيات لا يمكن القفز فوقها:
أولاً: في مصر، يعيش تنظيم “الإخوان المسلمين” أزمة باتت أعمق من صراعه مع الإدارة السياسية والعسكرية في مصر، وذلك نتيجة للصراع الحاصل بين تيارين رئيسيين داخل التنظيم (اذا ما استثني التيار المتبقي داخل مصر):
– تنظيم لندن الذي قاده لعقود طويلة إبراهيم منير والذي توفي نهاية العام 2022 بعد أن تولى منصب القائم بأعمال المرشد العام للجماعة، ليعود ويتولى عوضاً عنه هذه المسؤولية صلاح عبد الحق الذي تتواصل معه كل الأطراف الداخلية والخارجية، على اعتبار أن الإرث السياسي الذي عمل عليه إبراهيم منير في الغرب والولايات المتحدة ما يزال في رصيده بعض من العلاقات في أروقة بعض المجالس المنتخبة في لندن وواشنطن.
– تنظيم يقوده محمود حسين الذي يتولى منصب الأمين العام للجماعة المصرية ويقطن في اسطنبول.
وقد وصلت الصراعات بين الجانبين حد الاتهامات المتبادلة بالاختلاس والفساد والحديث عن تزوير مستندات تنظيمية، في ظل انتفاء رغبة الدولة المصرية بإجراء أي حوار سياسي مع الجماعة.
وهذا القرار ترافق مع المصالحة الجارية بين تركيا ومصر، والأكيد أن صورة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مصافحاً عبد الفتّاح السيسي في قصر الرئاسة المصري، كانت كافية لإيصال الرسائل، والتي في طبيعة الحال ستنعكس على وضع التنظيم المصري في تركيا وقدرته على التحرك والخطاب الإعلامي.
حزم قيس سعيد!
ثانياً: في تونس، تعيش “حركة النهضة” أزمة أكثر عمقاً، فرئيسها الشيخ راشد الغنوشي المعروف باعتداله السياسي والديني، بات اليوم خلف القضبان مع حكم مبرم بحقه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، في ظل رغبة الرئيس قيس سعيد بتقييد أي حركة محتملة لـ”النهضة”، والتعامل الأمني معها بحزم، في ظل تقدم علاقته الشخصية مع الامارات ومصر وسوريا، الدول الأكثر مناهضة للإسلام السياسي في المنطقة على تنوع مسمياته.
وهذا الأداء الرسمي مع “النهضة” سبقته خلافات عميقة داخل الحركة وتحديداً من أجنحة شابة، كانت تعتقد أن الغنوشي يستفرد بقرار الحركة ويُضحي بمكتسباتها، الأمر الذي أدى إلى استقالات داخلية، كان على رأسها نائب رئيس لمجلس الشعب السابق والمرشح الرئاسي عبد الفتاح مورو، الذي كان رافضاً لدعم انتخاب قيس سعيد، ورافضاً أيضاً لحالة الإقصاء التي مُورست في “النهضة” في السنوات الأخيرة.
السودان.. خوف متبادل
ثالثاً: في السودان، كان الانقلاب على الرئيس عمر البشير وحل حزب “المؤتمر الشعبي” (الواجهة السياسية لجماعة “الاخوان المسلمين”)، كافياً لإخراج الجماعة من المشهد السياسي، مع العلم أن جزءاً رئيسياً من عقابها والانقلاب عليها، مرده احتضانها حركة “حماس” والسماح لها بإنشاء مصانع لصنع الصواريخ التي يُستخدم اليوم جزءٌ رئيسيٌ منها في حرب “طوفان الأقصى”، والتي بلغت مدياتها تل أبيب ومدناً إسرائيلية أخرى.
وعلى الرغم من عدم قدرة النظام الجديد في السودان على إنهاء التنظيم في مهده، وخاصة أن بعض قيادات الجيش والاستخبارات، من صلب “الإخوان المسلمين”، وهم اليوم يقاتلون مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في مواجهة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لكن عين البرهان ما تزال عليهم وهو حريص منذ اليوم الأول لمعركته المستمرة مع (حميدتي) على إبقاء أنظاره على ضباط الجيش والمخابرات المنتمين لحزب “المؤتمر الشعبي”، خوفاً من لحظة انقلاب غير متوقعة، لكن وفي العمق، فإن التنظيم الدعوي للجماعة بات غير موجود وحضوره بات مقتصراً على مساجد ومراكز في مناطق سودانية نائية.
لا عودة مرتقبة للإسلام السياسي في القريب العاجل، فالعطب البنيوي لن تعالجه انتصارات “حماس” في خان يونس ورفح وشمال القطاع، ما يعني أن هذه السردية ليست “ربيحة” هذه المرة في دوائر صنع القرار العالمي
لبنان.. الغطاء السياسي مفقود
رابعاً: في لبنان، وهنا بيت القصيد، وعلى الرغم من الزخم الإعلامي الذي حصلت عليه “الجماعة الإسلامية” في لبنان مع أول إعلان عن إطلاق مجموعاتها زخات صاروخية دعماً لحرب “طوفان الأقصى”، والتي تحتفل اليوم بالذكرى الـ60 لتأسيسها، إلا أن هذا الزخم عاد ليتقلص ويعود إلى مربعه الأول، وهو بات معروفاً بكل سياقاته التاريخية: “السنة لا يُحبون التشكيلات المسلحة”.
واللافت للإنتباه أن “الجماعة الإسلامية” التي انتقلت من يمين تركيا وقطر نظرياً (برغم عدم وجود دعم يُذكر من هاتين الدولتين) إلى يمين يحيى السنوار وصالح العاروري، باتت تعيش أسوأ حالة تباين داخلي في تاريخها، فالقيادة الجديدة التي حاولت منذ اللحظة الأولى إظهار أنها باتت أقرب إلى “خط المقاومة والممانعة” لم تستطع حتى الآن “تقريش” هذا التموضع، لا سياسياً ولا عسكرياً، بدليل أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ومنذ أولى خطاباته بعد “طوفان الأقصى” إلى خطابه الأخير، لم يأتِ على ذكر الجماعة ولم يذكر مشاركتها، وثانياً الاعتقالات المستمرة لأعضاء “قوات الفجر” من قبل الأجهزة الأمنية والجيش اللبناني، ما يعني عدم توفر أي غطاء سياسي (حزب الله والحكومة) لأي نشاط سني قد يتطور في المستقبل ليصبح مشروع صراع مستقبلي لا يمكن تخيل تبعاته.
وثمة شعور أن توقف تنظيم “قوات الفجر” عن اصدار بيانات تبني إطلاق صواريخ في الجنوب اللبناني، مرده الرئيسي شعور الجماعة أن أيام سوداء تنتظرها عقب انتهاء الحرب، سيشمل عقابها سياسياً على انخراطها في هذه المعركة الكبرى، والتي لا مكان فيها للاعبين المستجدين؛ لذا تدرك الماكينة الإعلامية والسياسية التي روّجت للحريري بصفته رمزاً للاعتدال وسوّقت لعودته، تدرك حساسية هذا العنوان لدى الدول الفاعلة في المنطقة لن تسمح بأن يملأ الفراغ السني المستمر أي تنظيم إسلامي لا أفق للتعاطي معه.
صورة قاتمة
لكن لا يمكن البقاء عند كل هذه الصورة المستحيلة للعودة “الإخوانية”، وهنا يمكن النظر بشكل أوسع للجهود الجارية لإعادة ترتيب الأحزاب “الإخوانية” الأكثر ملاءمة للعصر، عبر إطلاق ورشة حوار مستمر لما يسمى “ملتقى العدالة والديموقراطية”، والذي بات اليوم يشكل الاطار الجامع لأحزاب إسلامية مهمة في المنطقة، كـ”العدالة والتنمية” المغربي، ونظيره التركي، وحزب “عدالة الشعب” الماليزي، وأحزاب آسيوية ومجموعات عمل في الجاليات العربية في أوروبا والولايات المتحدة واستراليا.
وليس صدفة أن يترأس هذا الملتقى في العام الأخير الأمين العام السابق لـ”الجماعة الإسلامية” في لبنان عزّام الأيوبي، الذي يعد أكثر قرباً من أنقرة والدوحة، واستطاع التيار الأكثر “حمساوية” من إبعاده عن الصورة اللبنانية، بعد تولي “التنظيم الأمني” لقيادة الجماعة، في ظل ما يرشح عن تحفظ الايوبي وفريقه داخل الجماعة (من ضمنهم النائب عماد الحوت) عن اعلان ضرب الصواريخ، والتهديدات التي أطلقت في تشييع العاروري عن الرد على اغتياله من لبنان، والذي رد عليه الحوت في مقابلة تلفزيونية معاكساً هذه النظرية واعتبار أن الرد على اغتيال العاروري وظيفة “حماس” في فلسطين وليست وظيفة أي حزب لبناني.
وأمام كل هذه الصورة القاتمة في تيارات الإسلام السياسي على امتداد خريطة المنطقة، يبدو أن أطرافاً تسعى لاستغلال تداعيات “طوفان الأقصى” لإعادة التخويف من “الإخوان المسلمين”، للاستفادة بحجز مقعدها في أي ترتيبات مستقبلية، كراعية للتوازن والوسطية الدينية، لكن الحقيقة أن لا عودة مرتقبة للإسلام السياسي في القريب العاجل، فالعطب البنيوي لن تعالجه انتصارات “حماس” في خان يونس ورفح وشمال القطاع، ما يعني أن هذه السردية ليست “ربيحة” هذه المرة في دوائر صنع القرار العالمي.
الأكيد أن المبالغات الفجة لا تُغيّر الحقائق!