تراه يكتب لنفسه ويوعظ جماعته قبل نفسه ويعيش أحياناً كثيرة أنانية مفرطة تدفعه إلى الفوقية على بني جلدته متناسياً أنه مسؤول عنها وأن العلم إذا فقد المسؤولية والإحساس بالآخر وبغايته تحول إلى شيء مستقبح وإلى وجه من وجوه الغطرسة والعدوان.
لم يكن الرسول محمد ولا السيد المسيح ليتركا فقاعات الفراغ تكبر، بل عملا، كما توضح سيرتهما، على سد الفجوة بين الناس وبين من يخاطبهم ويحاول توعيتهم وفتح مداركهم ورفض الفهم السطحي عند البعض لمعنى شخصية المثقف أو العالم الديني وما يجب أن يكون عليه بفهمه القاصر الذي يقول بأن جنس النبي وتصرفاته ينبغي لهما أن تكونا مختلفتين عن سائر البشر وذات صبغة غيبية ملكوتية تستفز المخيال وتطربه، فعملا بكل قوة وهمة عالية على تغيير هذا الفهم السائد والرجعي عبر المخالطة الاتصالية الفاعلة في قلب تفاصيل الحياة العامة في الأسواق وبين الناس وفي الصحارى وفي كل مكان تصل إليه أرجلهم وتبلغه حناجرهم، جاء في القرآن الكريم : (وَقَالُواْ مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُۥ نَذِيرا ـ “سورة الفرقان”، الآية 7).
احتج المشركون على النبي الأكرم فقالوا له: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف في الأسواق! فعيّروه بأكل الطعام، لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكاً وليس عادياً كسائر الناس، وعيّروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن المشي في الأسواق، وكان رسول الله يُخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم، لأنه مرسل من ربه إلى الناس ومطلوب منه مخالطتهم وعدم الانفصال عنهم في الأسلوب والتفاعل يريد أن يرفعهم إليه فنزل إليهم ولم يترفع عليهم، وهذا ما فعله الرسل والأنبياء جميعاً في مسيرتهم فالسيد المسيح مشى في الأسواق وساح في الأرض مبلغاً وداعياً إلى الله، وقال أبو العلاء المعري: وما حَبَس النّفس المسيحُ ترهُّباً ولكن مشى في الأرض مشية سائح..
نعم، ونحن في أجواء العاشر من محرم، مقاومتنا نهضت لكل أشكال الحرمان والتعسف والظلم والفساد فوهبت للأمة حياة في عروقها المتجمدة وأكدت بدمائها على ضرورة التحلي بالوعي والإدراك كسلاح باستطاعته كسر عنجهية الطغاة، لذا نريد من هذه المناسبة ومن يقوم على إحيائها أن تكون منبراً للتثقيف والتوعية وتأكيد الروابط الأخوية والتخلص من الجهل وأن يكون الفضاء العام مجالاً لتنفس الحرية والكرامة في زمن الانحطاط الذي يراد للناس أن يعيشوا في مستنقعه.
هذا الفهم المتحرر للتراث على اختلافه يتطلب الإلمام بانشغالات الجمهور وحاجاته الاجتماعية والروحية الملحة وتالياً فهم الدين والتراث المعرفي جيداً عبر إعادة النظر في طرائق التفكير والقراءات المتبعة بعيداً عن منطق الاستهلاك والإسقاط والعرض والطلب، فليست السياسة والثقافة والمعرفة أشياء تجارية نفعية ظرفية
نعم، إذا اتسعت الفجوة هذه فإن من يملأ الفراغ لن يكون سوى فكر رجعي يبث الخرافات والترهات ويستند إلى تسطيح وتجهيل يربط الناس به ليمنعهم عن التفكير الحر والسؤال المعرفي المنتج.
هذه الفجوة تدفع باتجاه تدين ظاهري يعيش على السطح ولا ينفذ إلى الأعماق بحيث يتجذر في النفوس ويعمل على تهذيبها وتربيتها بالشكل الصحي، وهو ما يجعل الأجيال تنحى نحو العبثية في كل شيء ويغذي ذلك تردي الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وتزايد خيبات الأمل على المستويات كافة.
إن آليات الخطاب المعتمدة لهي رجعية بحد ذاتها إذ تقوم على اجترار وتكرار لأحداث وأفكار مستهلكة وضاربة في التاريخ الحدثي المتشكل في ظروفه حينها وتحاول استحضاره اليوم وكأنه شيء معرفي؛ استحضار مبني على الأسلوب الوعظي والأسلوب الوصفي الإنشائي اللذين لا يحركان شيئاً في النفوس، بل يزيدان الغربة بين الناس وتراثهم لأن الحدث والتاريخ شيء والمنتج المعرفي شيء آخر له شخصيته وعناصره ومقوماته.
هذا الخطاب الذي يحاول اختزال الواقع وتوجيهه وإدراته ثقافياً لا يمكن له أن يوفق ويستمر على هذا المنوال فالحتمية في الأمور تفرض الاصطدام بالحاجة والنقص لدى الناس إلى من يغذي عقولهم وسرعان ما سيكتشفون سطحية ما يخاطبون به مما يؤدي إلى نقمة عامة على كل شيء وإن احتاجت عملية الاكتشاف إلى وقت.
إيمان الشارع أو العامة هو إيمان حالم مناضل ثوري يستدعي المزيد من المنتج المبدع الذي يساوي ما يحلم به ويطمح إليه ولا يقبل بأي دخيل ديني أو معرفي يسحق وعيه ويجمده ويحتكره ويحاول استلابه.
هذا الوعي الشعبي الحالم يتطلب تالياً مفسرين حقيقين لهذا المنتج المعرفي والديني وقادرين على انتقاء الأساليب البيانية المباشرة والسهلة غير الموغلة في التعقيد والغيبيات المغلقة.
نعم، نحتاج إلى جيل واع من المفسرين المثقفين؛ نحتاج إلى أحرار يحملون أمانة في الفهم والتفاعل ويجترحون من النصوص ما فيه شفاء للصدور وغذاء للعقول، فيستفزون الناس من خلال إثارة التساؤلات ويفككون النصوص ويحسنون قراءتها من دون تحميلها ما لا تحتمل؛ قراءة متأنية تتساوق مع عذوبة اللغة الإلهية التي لم تكن يوماً معقدة وشائكة بل جعلها البعض كذلك.
هل يا ترى نمتلك الجرأة في الفضاء الإسلامي والمسيحي على اتباع طريق في الفهم والقراءة يفضي إلى رفع الغبن عن الواقع وإغنائه بشكل سليم؟
نعم، نحتاج إلى هكذا جرأة ومن دونها سنظل مكبلين ومشدودين إلى الخطاب نفسه وإلى الرتابة نفسها وهو ما يعمق الانفصال بين النص ومريديه، نحتاج إلى قراءة متحررة وثورية في فضاء الروايات والمفاهيم القرآنية المتصلة بحاجات الناس والأمر نفسه نحتاجه في اللاهوت المسيحي الذي لا بد من انطلاقة ثورية تحررية في قراءته بما يعزز الواقع العام في كل تشكلاته وفضاءاته، وبما يؤكد على ضرروة دفع مشاعر الإحباط والاستياء عن الناس.
أقول الناس لأن مقولة الرعية بمعناها التبعي الضيق ليست قائمة وموجودة في قاموس الله كونها غير منسجمة البتة مع فطرة الله، بل هي عبارة عن ربط حضاري ومعرفي متواصل بين المثقف والناس في عملية تفاعلية لا بد وأن تكون طبيعية مبنية على الاحترام وحفظ الكرامات والحقوق، فالروابط التعارفية المستندة إلى المعرفة المبدعة والمنتجة والتشاركية بين البشر هي أقوى بكثير من روابط الطائفة والمذهب والدم والعائلة.
هذا الفهم المتحرر للتراث على اختلافه يتطلب الإلمام بانشغالات الجمهور وحاجاته الاجتماعية والروحية الملحة وتالياً فهم الدين والتراث المعرفي جيداً عبر إعادة النظر في طرائق التفكير والقراءات المتبعة بعيداً عن منطق الاستهلاك والإسقاط والعرض والطلب، فليست السياسة والثقافة والمعرفة أشياء تجارية نفعية ظرفية. إنّها تعبّر عن خطورة بالغة وعن حساسية كبيرة كونها تتصل بنفسانيات الفرد والجماعة وتوجه وعيهم وإدراكاتهم وتشكيل نظرتهم وتفاعلهم مع قضايا الحياة والوجود.
نعم، باعتقادي هناك كرامة أدنى وهي المشاعر والأحاسيس الملتصقة بكل فرد وهناك كرامة أعلى وهي العقل المدرك الذي به تأخذ الكرامة حيزها ومنتهاها بقدر ما ينتج ويبدع.
بنظرة سريعة وأولية هل – إسلامياً ومسيحياً – هناك احترام لهذين الشكلين من الكرامة البشرية على صعيد الخطاب وسد الفجوة بين من يدعي الثقافة بوجه عام وبين الناس؟
بمعنى آخر بين من يُقدّم نفسه حارساً للنصوص ومُمسكاً لمفاتيح قرءاتها وأسرارها (الكهنة ورجال الدين) وبين المتدين الفطري البسيط أو متدين الشارع العادي.