الصراع على القدس وفلسطين ببعده الديني.. نماذج الرحابنة وقباني وطوقان (1)

ليس هناك من أدنى شكّ أنّ الصراع على القدس وفلسطين له بعده الديني، وهذا الأمر ليس بخافٍ على أحد. لكن برأيي، ليس هناك من وعي صحيح لحجم هذا البعد وتأثيراته. سأحاول في سلسلة من المقالات استعراض جوانب من هذا البعد الديني للصراع حول القدس وفلسطين (الأرض المقدّسة)، وهذا أولها.

نحن أمام حقبة مهمّة في الصراع على القدس وفلسطين، لا تقلّ أهميّة عن مراحل سابقة كان لها نتائجها الدراماتيكيّة (وبعضها مأساوي)، مثل نكبة سنة 1948، ونكسة سنة 1967، وإنتفاضة سنة 1987 (ستمرّت بضع سنوات). ويمكن أن نضيف الإجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 1982 كمحطة أساسية من محطات هذا الصراع، وأيضاً المواجهة المفتوحة بين حزب الله وإسرائيل، خصوصاً بعد الإنسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني في سنة 2000.

لكن بعكس الكثير من المراحل السابقة، فإن المشهد الصراعي الحالي لا يمكن فهمه من دون محاولة تلمس البعد الديني للصراع والذي كان موجوداً في السابق لكن بطرق لم تكن واضحة للكثيرين، كما هو الحال.. الآن.

وليس مستغرباً أن من يحتل واجهة الصراع حالياً هي الأحزاب الدينيّة، وتحديداً حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي (فلسطين) وحزب الله (لبنان). ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الجانب الصهيوني، حيث للأحزاب الدينيّة دور رئيسي في تأجيج الحرب والممارسات النازيّة لإسرائيل (جيشاً ومستعمرين). الشيء نفسه ينطبق أيضاً على الدعم الغربي المفتوح لإسرائيل ودور دول الغرب في المجازر وحرب الإبادة الممنهجة ضد شعب وتراب فلسطين، تحديداً الغزّة-كوست والضفّة-كوست (ولكي لا يكون هناك أي سوء فهم، أنا أعني هنا الهولوكوست التي تُرتكب في غزّة والضفّة).

لكن، وبرغم إقرار الكثير من المعنيّين وحتّى “الغير- مهتمّين” بالصراع مع إسرائيل (بشقوقه المتداخلة: الفلسطيني-العربي- والإسلامي) بوجود البعد الديني، تعوّدنا على إبراز البعد الإستراتيجي (العسكري والسياسي والإقتصادي) لنشأة الكيان الفاشي الإرهابي الإحلالي المغتصب لأرض فلسطين. وتعوّدنا على ربطه بالمخطّطات الإستعماريّة للغرب من أجل شرذمة العالم العربي واستغلال موارده الطبيعيّة والبشريّة. لكن البعد الإستعماري، وعلى أهمّيته، لا يُفسّر تلك الشراسة الغربيّة والإستشراس في دعم إسرائيل من دون الإقرار بالبعد الديني المسيطر على العقل الغربي والذي يخفيه وراء قناع علمانيّته الكاذبة.

***

كمقدّمة لدراسة البعد الديني، سأستعرض في هذا المقال ثلاث قصائد كُتبت بعد سقوط القدس بيد الصهاينة النازيّين في سنة 1967 وسيطرتهم على كامل فلسطين. ما يجمع هذه القصائد الثلاث هو أنّ مؤلّفيها ركّزوا فقط على البعد الديني للصراع مع إسرائيل وعلى أهمّية القدس وفلسطين كأرض مقدّسة لمن يعيش فيها وحولها. وبذلك تجاهل هؤلاء الشعراء أهميّتها ودورها في الوعي الوطني الفلسطيني، وكأنّ القدس هي فقط مدينة للعبادة، لا يعيش فيها أناس عاديّون، يحلمون بها كعاصمة، فيها منازل ومتاجر وأسواق، حدائق ومنتزهات، مقاهٍ وحانات، دور سينما ومسارح، أولاد يلعبون وعيون الكبار تلاحقهم.

والقصائد الثلاث هي لعمالقة من القرن المنصرم كان لهم تأثيرهم الكبير في الوعي الثقافي والسياسي في العالم العربي: الأخوان عاصي ومنصور الرحباني (لبنان)، نزار قبّاني (سوريا)، وفدوى طوقان (فلسطين).

***

كتب الأخوان الرحباني قصيدة “زهرة المدائن”، وغنّتها فيروز للمرة الأوّلى في مهرجان الأرز في صيف سنة 1967، أي بعد بضعة أسابيع على سقوط القدس وما تبقى من تراب فلسطين بيد الصهاينة. تقول الأغنية:

“لأجلِكِ يا مدينةَ الصلاة أصَلّي

لأجلك يا بهيّة المساكِن

يا زهرة المدائن

يا قدسُ يا مدينة الصلاة أصلّي

عيوننا إليكِ ترحل كلَّ يَومْ

تدور في أرْوِقَةِ المَعابدْ

تُعانقُ الكنائس القديمة

وتمسح الحزن عن المساجدْ

يا ليلة الإسراء

يا درب من مَرّوا إلى السماء

عيوننا إليكِ ترحل كلّ يَومْ

وإنّني أصلّي

الطفلُ في المغارةْ وأمُّهُ مَريم وجهانِ يبكيانْ

يبكيانْ

لأجْلِ مَن تشرَّدوا

لأجْلِ أطفالٍ بِلا مَنازلْ

لأجْلِ من دافع واستُشهِد في المَداخل

واستُشهِد السلامْ في وطن السلامْ

وسقط العَدْلُ على المَداخل

حين هَوَتْ مدينة القدسِ

تَراجَع الحبُّ

وفي قلوبِ الدنيا اسْتَوْطَنت الحربُ

الطفلُ في المغارة وأمُّهُ مريم وجهانِ يبكيانْ

وإنَّنِي أصلّي

الغضبُ الساطع آتٍ

وأنا كُلِّي إيمانْ

الغضب الساطع آتٍ

سأمُرُّ على الأحزانْ

من كُلّ طريق آتٍ

بِجيادِ الرهبةِ آتٍ

وكَوَجْهِ الله الغامِرِ آتٍ آتٍ آتٍ

لن يُقفلَ بابُ مدينتنا فأنا ذاهبةٌ لأصلّي

سأدُقّ على الأبوابْ

وسأفتحُها الأبوابْ

وستَغسِلُ يا نهرَ الأردُنّْ

وجهي بِمِياهٍ قُدسيةْ

وستَمحو يا نهرَ الأردُنّْ

آثارَ القدمِ الهَمَجيةْ

الغضبُ الساطع آتٍ

بِجيادِ الرهبةِ آتٍ

وسيهزِمُ وَجْهَ القُوّة

البيتُ لنا والقدسُ لنا

وبأيدينا سنُعيدُ بَهاءَ القدسِ

بأيدينا للقدسِ سلامٌ آتٍ

للقدسِ سلامٌ آتٍ”.

***

القصيدة الثانية عنوانها “يا قدس” كتبها نزار قبّاني في سنة 1968، ويقول فيها:

“بكيت.. حتى انتهت الدموع

صليت.. حتى ذابت الشموع

ركعت.. حتى ملني الركوع

سألت عن محمد، فيك وعن يسوع

يا قدس، يا مدينة تفوح أنبياء

يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء

يا قدس، يا منارة الشرائع

يا طفلةً جميلةً محروقة الأصابع

حزينةٌ عيناك، يا مدينة البتول

يا واحةً ظليلةً مرّ بها الرسول

حزينةٌ حجارة الشوارع

حزينةٌ مآذن الجوامع

يا قدس، يا جميلةً تلتف بالسواد

من يقرع الأجراس في كنيسة القيامة؟

صبيحة الآحاد.

من يحمل الألعاب للأولاد؟

في ليلة الميلاد..

يا قدس، يا مدينة الأحزان

يا دمعةً كبيرةً تجول في الأجفان

من يوقف العدوان؟

عليك، يا لؤلؤة الأديان

من يغسل الدماء عن حجارة الجدران؟

من ينقذ الإنجيل؟

من ينقذ القرآن؟

من ينقذ المسيح ممن قتلوا المسيح؟

من ينقذ الإنسان؟

يا قدس.. يا مدينتي

يا قدس.. يا حبيبتي

غداً.. غداً.. سيزهر الليمون

وتفرح السنابل الخضراء والزيتون

وتضحك العيون..

وترجع الحمائم المهاجرة..

إلى السقوف الطاهره

ويرجع الأطفال يلعبون

ويلتقي الآباء والبنون

على رباك الزاهرة..

يا بلدي..

يا بلد السلام والزيتون”.

***

إقرأ على موقع 180  البرلمان الكويتي الجديد مُهدّد بالحل في سنته الأولى

والقصيدة الثالثة هي لفدوى طوقان، عنوانها “إلى السيد المسيح في عيده” (نشرتها في ديوانها “الليل والفرسان” الذي صدر عن دار الآداب في بيروت سنة 1969). تقول طوقان:

“يا سيد، يا مجد الأكوان

في عيدك تُصلب هذا العام

أفراح القدس

صمتت في عيدك يا سيد كل الأجراس

من ألفي عام لم تصمت

في عيدك إلا هذا العام

فقباب الأجراس حدادٌ

وسوادٌ ملتفٌ بسواد. 

القدس على درب الآلام

تُجلد تحت صليب المحنة

تُنزف تحت يد الجلاد

والعالم قلبٌ منغلقٌ

دون المأساه

هذا اللامكترث الجامد يا سيد

انطفأت فيه عين الشمس فضلّ وتاه

لم يرفع في المحنة شمعه

لم يذرف حتى دمعه

تغسل في القدس الأحزان.

قتل الكرّامون الوارثَ يا سيدُ

واغتصبوا الكرم

وخطاة العالم ريّش فيهم طيرُ الإثم

وانطلق يدنّس طهر القدس

شيطانياً ملعوناً يمقته حتى الشيطان. 

يا سيد يا مجد القدس

من بئر الأحزان، من الهوة، من

قاع الليل

من قلب الويل

يرتفع إليك أنين القدس

رحماك، أجزُ يا سيد عنها هذي الكأس“!

***

إذا كان هناك من رابط بين هذه القصائد الثلاث فهو التركيز على البعد الديني للصراع مع إسرائيل. بالطبع، هذه القصائد لم تكن لتُكتب لولا الحدث: “نكسة” سنة 1967 واحتلال الصهاينة للقدس.

تستعيد فدوى طوقان آلام المسيح عندما تتحدّث عن آلام القدس، وكأنّ تدنيس الصهاينة هو صلب لها يحاكي صلب المسيح. وتستعير طوقان مخاطبة المسيح لله وهو على الصليب، فتجعلها للقدس، تخاطب المسيح نفسه ليُبعد عنها كأس الهزيمة والمذلّة.

أمّا نزار قبّاني، فنراه يستعرض برشاقته المعروفة التاريخ الديني للقدس، كمدينة حضنت الأنبياء، وكانت طريقهم إلى السماء. ويركّز في توازنه بين ثنائيّة الإسلام والمسيحيّة (محمّد-يسوع، قرآن-إنجيل، جوامع-كنائس، معراج-ميلاد). وهذه الثنائيّة نراها أيضاً في أغنية فيروز، لكن أدخل الرحابنة إليها صورة الأرض المقدسّة كاملة عندما ربطوا القدس بالمغارة (في بيت لحم) التي احتمت بها مريم لتلد المسيح.

تجاهل البعد الوطني السياسي لم يكن مجرد هفوة سقط فيها الرحابنة أو قبّاني أو طوقان. ما عبّروا عنه هو طبيعي جدّاً. كلماتهم كانت ردّة فعل تجسّدت قبل أن يبدأ التفكير وتتداخل السجيّة بالشكوك والـ”لكن” والحجج المضادّة و..، حيث تبدأ العفويّة بالتراجع أمام التفكير “المتأنّق” و”العميق”. فقالوا ما قالوه، ملتجئين إلى البعد الديني لأنّه مؤسّس لهويّتهم وسجيّتهم وعفويّتهم، وهذا حال الكثيرين في مجتمعاتنا، حتّى بين أشدّ العلمانيّين إلحاداً.

***

كيف تأسّست هذه القناعة التي تربط عفويّاً القدس بالمفهوم الديني قبل كلّ شيء؟

ستعالج المقالات التاليّة هذه المسألة بأبعادها العديدة والمتشابكة. وسأخوض في كيفيّة صياغة هذه الأبعاد والعوامل التي على أساسها أو من خلالها عرّف وربط أتباع الديانات اليهوديّة والمسيحيّة والإسلامية علاقتهم بالقدس. من دون شكّ، الصياغة والربط والعلاقة والتعريف و.. لم تكن ثابتة، بل كانت دائماً ديناميكيّة، تطوّرت عبر العصور ودخلت عليها تعديلات وتحويرات كثيرة، بعضها طفيف وبعضها جذري. وليس القصد من هذا الجهد أن نفهم تأثير الماضي على الحاضر، بل كيفيّة استحضار الماضي لكي نُؤثّر في الواقع الذي نعيش فيه ونواجهه.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  البرلمان الكويتي الجديد مُهدّد بالحل في سنته الأولى