حالةُ غيابٍ عربي أم تروٍِ وتقريرُ مصير؟

أتيحت لي فرصة استدراج الآراء حول التوصيف المناسب لمواقف عديد الأطراف من المشروع الذي أقسم بنيامين نتنياهو وحكومته وبعض حلفائه على تنفيذه في الشرق الأوسط وجاري بالفعل تنفيذه بتكلفة مادية وبشرية باهظة. تجمعت عندي أوصاف كثيرة لهذه المواقف بعضها غير لائق تكراره وبعض آخر يعكس حيرة وارتباك وبعض ثالثٍ راضٍ ومؤيد مع تحفظ وبعض رابعٍ راضٍ ومؤيد بدون قيد أو شرط.

توقفتُ طويلاً عند رأي أطلقه أو تناقله أو تمسك به كثيرون بعضهم من العاقلين والنجباء المخلصين وطنياً وقومياً، خلاصته موجزة ولكن موحية وتقع في ثلاث كلمات هي “حالة غياب عربي”. تشاورتُ مع عدد من أصحاب هذا الرأي. استبعدنا سوء النية والتواطؤ والمبالغة وتفهمنا دعاوى وأحياناً مزاعم الضغوط الخارجية والداخلية وقبلنا مرغمين حجج ضعف الإمكانات المخصصة للسياسة الخارجية ومنها الاستعدادات الدفاعية والأمنية. كانت تجربة في الحوار والمشاورات مثمرة وخلاصتها في النقاط التالية:

أولاً؛ ساعدتنا التجربة ونوعية المشاركين وتاريخهم في وضع حدود واضحة وتعريفات صريحة لمفاهيم من نوع التواطؤ والتبعية والاختراق من الخارج والشكوك المتبادلة بين أطراف عربية والعداء للسامية أو عداء السامية المتبادل في الشرق الأوسط والجوانب الغامضة في العلاقات الإيرانية الأمريكية، ومفاهيم أخرى تثير الجدل حول كثير من الأفكار والآراء المطروحة حالياً في ساحات صنع السياسة والقرار وساحات الرأي في الشرق الأوسط.

***

ثانياً؛ كان وما يزال مفيداً الإقرار بداية بأن موقف كل من روسيا والصين من عمليات تعميق الاحتلال الصهيوني لفلسطين ومن سياسات توسيع هذا الاحتلال يستحق الصفة التي ترددت معه وهي أنه يعكس “حالة غياب” غير مفهومة من جانب حكومتي الصين وروسيا. كثيرون انتظروا من الصين وروسيا موقفاً من اعتداءات إسرائيل أقل حذراً وتردداً وهما القطبان الدوليان الأهم مع أو بعد الولايات المتحدة، القطب الدولي المتواطئ صراحة وفعلاً مع إسرائيل.

 ***

ثالثاً؛ ليس كل العرب، ولا أغلب العرب، ولا حتى نسبة يعتد بها من العرب يستحقون صفة الغياب التي أطلقها أصحاب رأي واسع في العالم العربي وخارجه. نحن في الشارع وفي أعمالنا غاضبون وأهلنا في الشارع وفي أعمالهم غاضبون. نحن وأهلونا مثل كثيرين في الشوارع العربية منفعلون وإن كنا غير فاعلين بنفس قدر الانفعال. ننتظر من حكوماتنا حضوراً وهي، أو بعضها على الأقل، تتمنى لو استطاعت أن تتفلت من ضغوط خارجية بعضها معروف وأكثرها خافٍ تماماً أو مستتر، تتمنى لو حضرت ولو في أدوار أخرى وتحت أسماء شتى. تتمنى لو هبّ إعصار أطاح بهذه الدولة التي تجاوزت في الشرور كل الحدود، حتى حدود الأسطورة التي تتغنى بها وتتباهى بها في مدارسها وصلواتها.

***

 شعوبنا بعد هذه التجربة الأخيرة مع الدرس الأعنف على يد إسرائيل وحليفتها جاهزة أكثر من أي وقت مضى للانطلاق نحو نهضة جديدة واستقلال جديد. انطلاقةٌ لا بد أن تبدأ باستعادة وحدة أقطار عربية انفرطت بفعل فاعل ووضع قواعد عمل جديدة

رابعاً؛ الشعب الفلسطيني حاضر بشجاعة وبقوة وبتضحيات هائلة. السلطة الفلسطينية غائبة مثل بعض حكومات دول عربية أخرى. هنا مثلاً عندما سئلنا وجدنا صعوبة في تبرير غياب السلطة التي تدعي أنها “سلطة مقاومة” وغياب قوات أمنها عن حماية مكتب قناة “الجزيرة” من الغزو العسكري الصهيوني وحماية أبناء وبنات المخيمات في أنحاء الضفة. ولو حدث مثل هذا في عاصمة دولة عربية أخرى لكانت لدينا صفة أخرى تنفع في وصف موقفها.

***

خامساً؛ خلصنا من ضمن خلاصات أخرى إلى أن النظام العربي ممثلاً في مؤسسته القومية، أقصد العربية، فشل على امتداد سبعين سنة أو أكثر فشلاً ذريعاً في صنع أو حتى في وضع أساس يصلح لصنع منظومة أمن جماعي أو، حتى قطاعي أو جهوي، عربي. فشل فشلاً أفظع حين رفض وضع قواعد وقيم أخلاقية ووطنية ولا أقول قومية، تؤهلنا لاحترام أسبقية أبناء الوطن على اختلاف مذاهبهم على أجانب من خارج الوطن هدّدوا بالتخريب والإرهاب صروح هذا الوطن. هذه الثغرة هي التي أثارت اتهامات التواطؤ أو العمالة أو خيانة الوطن في مواقع عربية بعينها، وهي الثغرة التي نفذ منها عدد محدود من مذيعات ومذيعين في قنوات تنطق بالعربية، راحوا ينشرون الوقيعة بين أبناء الوطن الواحد ويسترخصون موت مدنيين أبرياء هم من أشرف وأطهر بنات وبنين هذا الوطن. هذا هو الغريب الأخطر وليس الغياب العربي وبعض أسبابه القاهرة يمكن تفهمها.

***

سادساً؛ حصل إجماع في الرأي بأن فلسطين، اسماً وعنواناً ومقاومةً وكياناً وشعباً، لم تحصل يوماً منذ نكبتها الأولى على مثل ما تشهده اليوم من تعاطف وانبهار واعتراف على امتداد ساحات أممية شاسعة. لم يدخل حوارنا في جدل غير لائق ولا مناسب ولا أخلاقي تحت عنوان إن كان كل هذا يستحق أو لا يستحق الدماء التي سالت على طريق تخليص وطن عربي سليب من براثن استيطان متوحش تدعمه الدولة الأعظم والأقوى في تاريخ العالم، وكلاهما تحركهما قوى نظام عالمي تحت النشأة تقوده إمبراطورية “سامية” مهيمنة على عديد مفاتيح الهيمنة في عالم الغد. أقصد تحديداً المنظومة الصهيونية العالمية. أتحدث هنا عن مشروع تتسع آفاقه لمجالات خيال بلا حصر ولا حدود وتقف أسسه وقواعد عمله على قاعدة ثابتة المعالم من واقع نراه ونلمسه في دول أوروبية بعينها وفي مواقع القرار الاستراتيجي في الولايات المتحدة.

إقرأ على موقع 180  غزة ما بعد الجعبري.. معركة المعادلات الجديدة 

***

بالأمس، قال نتنياهو أنه جاهز لصنع شرق أوسط جديد. هل تدارسنا فيما بيننا الأمر، أم نحن عن مثل هذه الأمور المصيرية ننشغل بأمور أقل أهمية؟ هل يستحق الأمر العرض على مجلس للجامعة العربية على مستوى القمة؟ هل يستحق أن نتشاور في شأنه مع أعضاء مجموعة “البريكس”

سابعاً؛ سقط قطر عربي بعد الآخر في غياهب الفوضى والحرب الأهلية أو ينتهي أمره مصالح تتقاذفها ميليشيات مسلحة تتلفح بالدين أو بصراعات السلطة أو بمكافحة بعضها البعض الآخر أو بعصبيات طائفية أو وبصريح العبارة سقطت بأفعال أو لأخطاء أمريكية. كان ضرورياً أن يحدث هذا السقوط المتتالي لتتمكن إسرائيل من تنفيذ وتبرير مشروعات توسعها تستكمله باتفاقات تطبيع تعقد تحت الضغط الخفي غالباً والمعلن أحياناً مع أقطار عربية لم تصبها بعد يد الفوضى وعدم الاستقرار، وكأن الأمر أو القرار العربي صار مخيراً بين مستقبل سيء ومستقبل أسوأ.

***

على العكس، رأينا في حوارنا مستقبلاً أفضل. الآمال كبار في أن التطور الجاري في النظام الدولي يمنحنا كأقطار عربية منفردة أو مجتمعة فرصاً عديدة لتغيير تحالفاتنا الخارجية. نرى عالم الجنوب ينهض ويدعونا للنهوض معه. نهضنا من قبل ونحن فيه ونجحنا قبل أن نُقرّر فرادى أو جماعات أن نغيب.

الآمال كبار أن نعود لنقتحم، جماعة أو فرادى، مع المقتحمين علوم وفنون الصعود والمناعة وأن نستعيد للذاكرة العربية أفكار وخطط التكامل الإقليمي، أو القومي إن شئتم. شعوبنا بعد هذه التجربة الأخيرة مع الدرس الأعنف على يد إسرائيل وحليفتها جاهزة أكثر من أي وقت مضى للانطلاق نحو نهضة جديدة واستقلال جديد. انطلاقةٌ لا بد أن تبدأ باستعادة وحدة أقطار عربية انفرطت بفعل فاعل ووضع قواعد عمل جديدة، أو تحديث وتعزيز قواعد قائمة لعمل عربي مشترك، وتحديث الوعي العربي في تعاطيه مع قوى إقليمية صاعدة في منطقة الشرق الأوسط. لم نعد الطرف الوحيد الفاعل في المنطقة وبالتأكيد لسنا الطرف الأقل أهمية وفاعلية حتى بعد ما فعلته بنا العدوانية الصهيونية.

***

بالأمس، قال نتنياهو أنه جاهز لصنع شرق أوسط جديد. هل تدارسنا فيما بيننا الأمر، أم نحن عن مثل هذه الأمور المصيرية ننشغل بأمور أقل أهمية؟ هل يستحق الأمر العرض على مجلس للجامعة العربية على مستوى القمة؟ هل يستحق أن نتشاور في شأنه مع أعضاء مجموعة “البريكس” التي تعتبر مستقبل الشرق الأوسط يقع ضمن خياراتها.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  لوفوفر: موسكو تتحاور مع طالبان وتتقدم على واشنطن!