“يا واش يا واش” قالها السيّد حسن نصرالله فى خطابه الذى تلا مقتل القيادى العسكرى فى حزبه فؤاد شكر قبل نحو شهرين. كانت الانتقادات قد أخذَت تتعالى لعدم ردّ الحزب على مقتل شخص بهذا الوزن وهذه الأهمية فقال لهم نصرالله “يا واش يا واش”، فلماذا تحاصرنى اليوم هذه الجملة؟ هل مثلا لأن هناك مبالغات كثيرة حول انهيار حزب الله بعد اغتيال أمينه العام فلهؤلاء يقال “يا واش يا واش”؟ ربما. هل لأن هناك عنترية شديدة على الجانب الآخر وشعورا بالانتفاخ والزهو والانتصار فمن أجل ترشيد هذه الفجاجة يقال “يا واش يا واش”؟ ربما. هل لأن هناك للمرة الألف حديثا عن نظام جديد للمنطقة بعد تصفية السيّد حسن فيلزم التنويه ولفت النظر إلى أن تصفية رمز تختلف تمامًا عن تصفية القضية والقول للمتطلعين للنظام الجديد.. “يا واش يا واش”؟ ربما.
***
التقيتُ بالسيد حسن شخصيًا مرة واحدة فى حياتي، وكانت هذه المرّة فى عام ٢٠٠٠ وعقب تحرير جنوب لبنان مباشرة، وبعد ثلاثة أعوام من استشهاد نجله الأكبر هادي. كنت مع وفد كبير من مصر نشارك فى أحد اجتماعات المؤتمر القومى العربى فى بيروت، وقيل لنا إن من المحتمل أن نذهب لزيارة السيد حسن فى الضاحية، فكان الخبر مفاجئًا. كان دوره فى تحرير الجنوب على كل لسان، ورباطة جأشه فى استقبال نبأ استشهاد ابنه البِكرى محّل كل تقدير، أما بلاغته وفصاحته وطلاقته وقدراته الخطابية الاستثنائية فقد أخذَت تتوسّع دوائرها ويترامى تأثيرها أبعد فأبعد. وبرغم ذلك كله لم تكن للسيد المنزلة التى بلغها بعد حرب تمّوز ٢٠٠٦، فهذه الحرب مثّلت نقلة نوعية جبّارة فى شعبيته على مستوى الوطن العربى كله. أستطيع القول إنه إذا كان احتلال أمريكا للعراق قد قسّم الوطن العربى طائفيًا ومذهبيًا بشكلٍ بغيض، فإن حرب تمّوز أذابت – على المستوى الشعبى وهذه الجملة الاعتراضية مهمة جدًا – الفروق بين المذاهب والأديان، فاصطّف المؤمنون بمبادئ التحرّر والعدل والكرامة تحت راية المقاومة، وغمرَت صور السيد حسن الشُرُفات والشوارع والسيارات، وكانت سيارتى واحدة من آلاف السيارات.
***
حدّثنا السيد حسن عن معركة تحرير الجنوب كمعركة إرادات لا إمكانيات، عن روح الشهادة وسلسال الشهداء الذين رووا أرض لبنان بدمائهم، عن الصفحة الجديدة من تاريخ المنطقة، فشدّنا بحضوره الطاغى وطرافة حكيه ولثغته المميّزة
الوضع فى لبنان وعلاقة الحزب بالدولة وضع غريب جدًا ومعقَد جدًا ولا شبيه له فى أى دولة أخرى فى العالم، فالحزب مواز للدولة وليس دولة داخل الدولة كما يقولون عنه. فأن يكون الحزب هو دولة داخل الدولة فهذا يعنى أن تكون الدولة اللبنانية هى الإطار الأوسع والأشمل والأعّم، وهذا ليس واقع الحال، فالحزب يتصّرف فى كثير من الأحيان بعيدًا عن الدولة ويفرض إرادته على مؤسساتها فى قرارات تبدأ باختيار شخص رئيس الدولة وانتظام جلسات مجلس النواب، وتنتهى بتحديد ساعة الصفر فى مواجهة العدو الإسرائيلي. لو أن إسرائيل غابت عن المعادلة وعن التحليل وعن المشهد، لما ارتبكَت الحسابات أبدًا فى تقييم الوضع الغريب للحزب فى علاقته بالدولة اللبنانية وفرض خياراته على الشعب اللبناني، والأهم أن علاقته العضوية غير المريحة بإيران ما كانت سوف تجد لها مبررًا . أما وأن إسرائيل تتوسّع وتتطاول وتستعرض عضلاتها فإن من الصعب اتخاذ موقف موضوعى فى قضية تخصّها لأننا اعتدنا من هذا الكيان على التجبّر والعنجهية والعدوان.. واعتدنا على إفلات قادته بجرائمهم من أى عقاب المرة تلو الأخرى. فلو قلت لى على سبيل المثال إن حزب الله قصف البارجة الحربية الإسرائيلية التى هاجمت بيروت فى تمّوز/يوليو ٢٠٠٦، فسيكون من الصعب علّى جدًا أن أدين استهدافها لأنه جاء بواسطة حزب الله فالمهم بالنسبة لى أنها استُهدفت، وسوف أرى كما رأيت دائمًا أن المقاومة تسّد شهية إسرائيل المفتوحة لابتلاع المنطقة.. كل المنطقة من البحر إلى النهر.
***
انتقلنا إلى الضاحية الجنوبية فى عدّة أوتوبيسات، جلَست إلى جانب الدكتورة هدى عبد الناصر عضو المؤتمر، وكنّا قد اتفقنا مع الزميلات الأخريات إنه فى حال اشترط الأمين العام ارتداء زى معيّن عند لقائه كما أخذ يقول البعض- فإننا لن نذهب. لكنه لم يشترط، السيد أحكم وأعقل وأذكى من أن يشتبك مع هذه الشكليات. كان تنظيم القاعة على هيئة مجموعة من الموائد المستديرة المتقاربة، وجلس هو إلى إحداها. لم يكن مستوى التهديدات الأمنية الإسرائيلية قد بلَغ ما بلَغه اليوم، ولا كان التطوّر التكنولوچى قد وصل إلى هذا الحدّ المذهل القادر على التفخيخ والتفجير بسلاسة، إن كانت السلاسة صفة تناسب أفعال القتل والتدمير.
غير أن أربعة وعشرين عامًا بين تاريخ هذا اللقاء واليوم حملت معها تطوّرًا لم يخطر ببال أحد. حدّثنا السيد حسن عن معركة تحرير الجنوب كمعركة إرادات لا إمكانيات، عن روح الشهادة وسلسال الشهداء الذين رووا أرض لبنان بدمائهم، عن الصفحة الجديدة من تاريخ المنطقة، فشدّنا بحضوره الطاغى وطرافة حكيه ولثغته المميّزة. وكنّا قبل لقائه قد زرنا بوابة فاطمة فى قرية كفّركلا اللبنانية- هذه البوابة التى خرجَت منها قوات الاحتلال الإسرائيلى بليل فى عام ٢٠٠٠ حتى صار المكان رمزًا للنصر على جانب ورمزًا للهزيمة على الجانب الآخر. وهكذا فحين كنّا نستمع إلى الحديث المتدفّق للسيد كان مشهد بوابّة فاطمة حاضرًا تمامًا فى أذهاننا، وكانت هذه المرأة الجنوبية التى رفضَت مغادرة بيتها وجعلت منه مَدرسَةً لتعليم اللغة العربية والحساب والجغرافيا والتاريخ وكل العلوم لتغرى أهل المنطقة على البقاء.. كانت هى أيضًا حاضرة فى خيالنا ببساطتها وصلابتها. يفيد التضاد بين البساطة والصلابة فى توضيح المعنى أكثر من الكلمات المترادفة. كانت الشراشف أو المفارش البيضاء على الموائد نظيفة زى الفل، وفوقها بعض أطباق المناقيش اللبنانية اللذيذة وسلاطة الفتّوش المحبّبة وبعض الفاكهة الطازجة والكثير جدًا من الوّد وحسن الضيافة. وحين انتظمنا فى طابور طويل لوداع السيد وجاء دور النساء، وضع يده على صدره محييًا. ولم أره بعدها إلا عبر شاشة، فالتهديد الذى راح يلاحقه كان عظيمًا.
***
أحداثٌ ثقيلةٌ كأنها أحجار جبل، وغيومٌ كثيفةٌ مع دَخلة فصل الخريف. المهم أن تظَل البوصلة فى اتجاه يقيننا الداخلي، وأن نتحرّك صوب هذا اليقين ولو تحركًا بسيطًا أو حتى “يا واش.. يا واش”.
(*) بالتزامن مع “الشروق“