في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، هزم 1500 مقاتل من فرقة النخبة في “حماس” فرقة غزة خلال وقت لم يتجاوز الساعة، والموجة الثانية من 1500 “مخرب” والثالثة كانتا من المدنيين الذين استغلوا النجاح. إن السهولة التي لا يمكن تصورها التي استطاع بواسطتها جيش “إرهابي” أضعف كثيراً من الجيش الإسرائيلي الانتصار على فرقة عسكرية إسرائيلية نجمت قبل كل شيء عن الأوضاع الاستهلالية؛ فبعكس عقيدتها الأمنية، سمحت إسرائيل لفرقتَي كوماندوز (فرقة الرضوان في الشمال، والنخبة في الجنوب) تضمان أفضل المقاتلين، ومزودتَين بالسلاح المتطور بالتمركز على حدودها، وبأن تكونا قادرتين على الانتقال من الحياة الطبيعية إلى حالة الطوارئ خلال 3 ساعات فقط.
ومنذ اللحظة التي انتهى فيها بناء قوات النخبة وفرقة الرضوان، أصبحت الكارثة أمراً حتمياً، وهذا أيضاً لأن الاستخبارات الإسرائيلية لم تكن لديها طوال الوقت القدرة على منع هجوم مفاجئ على المستوطنات المحاذية للحدود.
ومع ذلك، فإن حجم هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر كان يمكن أن يكون أصغر بكثير. لإسرائيل 3 أنواع من الحدود: حدود قتالية (سوريا، لبنان، وقطاع غزة)، وحدود فيها اتفاقات (مع مصر والأردن)، وخطوط داخلية (الضفة الغربية). في الحدود القتالية، دافع الجيش الإسرائيلي عن هذه الحدود حتى 7 تشرين الأول/أكتوبر بطريقة تتعارض مع عقيدته القتالية، وتجاهل مبدأً أساسياً في هذه العقيدة، وهو الدفاع.
أولاً، تنظم العقيدة العسكرية مجال الدفاع على محاور طويلة وواسعة ضمن نطاقين: الاستحواذ والأمن، وعن طريق تحديد المناطق المهمة للدفاع عن الأراضي الحيوية. وفي لبنان وقطاع غزة، عمل الجيش الإسرائيلي من دون مناطق آمنة، ومن دون أن يقيم مواقع وتحصينات تعتمد على مبدأ المعاملة بالمثل والحجم، ومن دون قوة نار كبيرة مستقلة للفرق المناطقية (طوافات ومدفعية)، وبلا احتياطي متنقل كبير في عدد الكتائب، أو بنى تحتية مناسبة للدفاع وحجم قوات مناسب. ولم تكن لدى مقاتلي الجيش الإسرائيلي في غرب النقب فرص للتصدي لخطة “حماس” وقدراتها، ولو شنت قوة الرضوان هجوماً مشابهاً في الشمال، لأدى ذلك إلى فشل مشابه في قيادة الشمال، وإلى نتائج أخطر كثيراً.
وكان القرار في تحديد أماكن قيادات السيطرة والتحكم للقوات على الجبهة وفي المعسكرات غير مسؤول، فاستغلت “حماس” حقيقة “وضع كل البيض في سلة واحدة”، وقامت بإسكات فرقة غزة، وضربت بسرعة قدرات القيادة والتحكم التي تعتمد على منظومات متقدمة للتنصت وجمع المعلومات عبر تدمير 37 موقعاً للتنصت في منطقة الغلاف لم تكن محصنة كما يجب، وقضت على قيادة الفرق والألوية المناطقية في برعيم. ومن دون قيادة وتحكّم، قاتلت القوات من دون تنسيق أو سلاح الجو أو قوات احتياط توجَّه إلى الأماكن الصحيحة.
وفي الواقع، لو كانت الثقافة العملانية مختلفة، لكانت قد ساهمت في تقليص الضرر الكبير. وقد انتشرت قوات الجيش الإسرائيلي في منطقة الغلاف بناء على نيات العدو وليس بناءً على قدراته، وتسبب ذلك بمفاجأة الجيش وهزيمته. لقد كان جنود الجيش الإسرائيلي أقل عدداً وعتاداً، وقد أدى عدم الانضباط والخلل في الثقافة العملانية إلى أن قسماً من الوحدات لم يكن في وقت الهجوم في حالة استعداد للرد عليه، ويُضاف إلى ذلك عدم وجود تحذير محدد. لقد كان نصف عدد فرقة غزة موجوداً بسبب قرار إعطاء الجنود فرصة في نهاية الأسبوع والعيد (الفصح اليهودي)، وذلك وفقاً لسياسة 3/11 (11 يوماً في الوحدة و3 أيام في البيت). وبسبب ظاهرة سرقة السلاح والعتاد العسكري من القواعد، وخوفاً من وقوع حوادث، لم يكن لدى مقاتلي الجيش قنابل يدوية وصواريخ كتف ووسائل تفخيخ، بينما كان لدى “مخربي حماس” كميات كبيرة من السلاح.
كما كانت لدى “حماس” ميزة أُخرى؛ استخبارات نوعية وحميمة عن القوات الإسرائيلية في الغلاف. وقد استغلت الحركة عدم إجراء تغييرات طوال سنوات في انتشار قوات الجيش الإسرائيلي في المنطقة، وفي الإجراءات، والثقافة الأمنية والاستخباراتية الضعيفة، فلم تكن في حاجة إلى جواسيس، لأن الجنود الإسرائيليين أنفسهم قدّموا هذه المعلومات النوعية والحميمة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ فالفيديوهات والصور التي نُشرت عن معسكرات الجيش ومستوطنات الغلاف والجنود والمدنيين كلها موجودة على وسائل التواصل الاجتماعي، وقدّمت معلومات عملانية استغلتها “حماس” من أجل التخطيط للهجوم.
وعلى الرغم من مرور عام، فإن تحليل فَشَلِ 7 تشرين الأول/أكتوبر لم يرسخ تحقيقاً عسكرياً شاملاً. ومن أجل تحصين الحدود الشمالية للدولة في نهاية المعركة في الشمال، وتجديد ثقة المواطنين في القدرة على الدفاع عنهم، فإن المطلوب من الجيش أن يُجري تحقيقاً في أسرع وقت ممكن في هذه الأحداث، وأن يعرض على الجمهور الاستنتاجات الأساسية والدروس، فضلاً عن عقيدة دفاعية جديدة ومختلفة. وقد سمى الجيش العقيدة الدفاعية الجديدة “الدفاع القوي”، لكن الدفاع بحسب العقيدة القتالية يجب أن يكون قوياً، ولا وجود لدفاع ضعيف، إلاّ إذا جرى تنفيذه بصورة غير صحيحة.
وفي مواجهة لبنان (كما في مواجهة قطاع غزة)، يجب أن تركز العقيدة الجديدة ليس فقط على المستوطنات، بل أيضاً على المحاور، وخصوصاً على التقاطعات المركزية كمناطق حيوية. وسيضطر الجيش إلى أن يعتمد في الحدود القتالية خطة دفاعية في حالات الطوارئ والحرب، بالإضافة إلى خطة تتدرب عليها قواته بصورة منتظمة للسيطرة الفورية في حال أي تصعيد على خط المواقع الأمامية في المناطق الأساسية المشرفة والموجودة في الأراضي اللبنانية (مارون الراس على سبيل المثال).
وبدلاً من إعادة إعمار العائق، وبناء أسوار ينجح العدو في تفكيكها في لحظة، يجب على الجيش أن يوظف جهوده في إقامة منظومة من المواقع والمحاور والبنى التحتية المحصنة الآمنة، وقيادات الألوية والفرق تحت الأرض، وتنفيذ عمليات روتينية للكشف وإغلاق كل المناطق القريبة من السياج الحدودي التي تُستخدم كممرات للتسلل إلى الأراضي الإسرائيلية، وإقامة منظومة جمع للمعلومات خفية وسرّية بالإضافة إلى العلنية، لا يمكن تدميرها بالصواريخ المضادة للدروع من بعيد.
كيف تعيد إسرائيل الإحساس بالأمان إلى سكان الشمال؟
إن انهيار الجيش في 7 تشرين الأول/أكتوبر، و”المذبحة” في الغلاف، وإخلاء مستوطنات الشمال ودمارها أثار أزمة ثقة حادة بين المواطنين الإسرائيليين والجيش النظامي ومؤسسات الدولة؛ فعودة سكان الشمال إلى منازلهم ليست مرتبطة فقط بوقف الحرب، بل أيضاً قبل كل شيء استعادة الثقة.
ومن أجل ترميم الثقة، يجب تحقيق أمرين أساسيَين: الأول؛ سياسة رد مباشرة وموثوقة على أي خرق للاتفاق ومنع حزب الله من إعادة بناء قدرات هجومية ونارية بالقرب من الحدود، والثاني؛ استعداد دفاعي قوي بناء على عقيدة قتالية واضحة للعيان. لكن ثمة شك في أن تحقيق هذين الأمرين بالكامل سيعيد سكان الشمال إلى منازلهم إذا لم تتحرك دولة إسرائيل عبر مؤسسات الدولة والجيش إلى إعطاء الشعور بالأمان، وليس فقط تحقيق الأمن.
وفي هذا السياق، يجب أن نتذكر أن لسكان الشمال وجزء كبير من سكان إسرائيل مطالب محقة، لكن غير واقعية من الجيش، وتقديراً مبالغاً فيه للإنجاز العسكري الممكن في الشمال. وفي ضوء الخيار المحدود الذي نفذه الجيش في الشمال (مع عدم القدرة على تحقيق حسم عسكري كامل على حزب الله)، فإن الإنجاز في هذه التسوية كان محدوداً، والمطالبة بمنع سكان القرى الشيعية المدمرة من العودة إلى منازلهم، والمطالبة بتواجد الجنود الإسرائيليين في منطقة أمنية وراء الحدود أو تدمير قدرات حزب الله بصورة نهائية هي أمور غير واقعية.
لقد أنهك الجيش مقاتليه النظاميين وفي الاحتياط طوال عام كامل من الحرب، وإطالة أمد الحرب يعرّض وجود الجيش النظامي والاحتياط للخطر؛ فمخازن الذخيرة وقِطع الغيار للجيش هي معطيات سرّية، لكن من الواضح للجميع أنها ليست “بئراً بلا قاع”. كما تبرز توقعات الإدارة الأميركية الجديدة بشأن إنهاء الحرب في الشمال قبل تنصيب الرئيس المنتخَب دونالد ترامب، ومن الواضح أن المستوى السياسي في إسرائيل يتطلع إلى التعاون الكامل مع هذه الإدارة. ومن هنا، فإن السعي لاتفاق في الشمال في الوقت الحالي هو ضرورة إسرائيلية، على الرغم من خيبة أمل سكان الشمال، وإعلانهم أنهم لن يعودوا إلى منازلهم مع اتفاق من هذا النوع.
ومن أجل إعادة الشعور بالأمان، هناك أوجه كثيرة ليست كلها عسكرية؛ فمن الناحية العسكرية فقط يتعين على الجيش زيادة قواته عبر انتشار جديد ومكثف على طول الحدود وفي مستوطنات التماس، وعلى الرغم من أن سيناريو حدوث هجوم لم يعد ذا دلالة في السنوات المقبلة بعد تدمير البنى التي أعدها حزب الله لذلك، وبعد سياسة رد مناسبة للمحافظة على استمرار الوضع على الحدود لزمن طويل، فإن الوجود المكثف للجيش الإسرائيلي في مستوطنات التماس ضروري من أجل الشعور بالأمان.
خلاصة وتوصيات
بعد أكثر من عام من الحرب، لدى إسرائيل فرصة لترجمة نجاحاتها في ميدان القتال إلى إنجاز استراتيجي: إنهاء المعركة في الشمال، وقطْع العلاقة التي أنشأها حزب الله بالمعركة في قطاع غزة، وإعادة سكان الشمال إلى منازلهم. ومن أجل ذلك، فالمطلوب من إسرائيل القيام بثلاث خطوات مركزية:
1-تنفيذ دروس الماضي فيما يتعلق بالاتفاق مع لبنان؛ أي التركيز على تشديد الرقابة الدولية ضد الخروقات من جهة، ومن جهة ثانية سياسة متشددة لتطبيق الاتفاق بالقوة العسكرية ضد أي خرق أو “تسلل” لقوات حزب الله وبناء بنى تحتية بالقرب من الحدود.
2-تحصين الحدود الشمالية في ضوء عقيدة دفاع عن الحدود تستند إلى التحقيق وتعلُّم دروس إخفاق 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
3-وجود عسكري كثيف في منطقة الحدود والمستوطنات على الأقل خلال السنة الأولى من الاتفاق.
(*) راجع نص الدراسة بالعربية كاملاً على موقع “مؤسسة الدراسات الفلسطينية“.