تكمن أهمية هذه الجولة التفاوضية في كونها تأتي في أعقاب إقدام إسرائيل على اغتيال كل من القيادي الكبير في حزب الله فؤاد شكر (السيد محسن) في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت ورئيس المكتب السياسي في حركة حماس إسماعيل هنية (أبو العبد) في قلب العاصمة الإيرانية وتعهد الجانبين بالرد على الجريمتين الإسرائيليتين.
كما تأتي هذه الجولة في خضم وصول الحرب الإسرائيلية المفتوحة منذ عشرة أشهر ضد قطاع غزة إلى حائط مسدود، برغم كل التسميات والتحايلات التي يُطلقها الجانب الإسرائيلي على العمليات العسكرية التي تتكرر ضد مناطق الشمال والوسط والجنوب في قطاع غزة.
غير أن العنصر الأهم هو التئام الجولة الحالية في ظل دينامية أميركية غير مسبوقة، تأتي غداة تنحي الرئيس الأميركي جو بايدن عن خوض غمار الإنتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل لمصلحة نائبته كامالا هاريس التي ستنافس خصمها الجمهوري الرئيس الأميركي الاسبق دونالد ترامب. وهذا التنحي جعل إدارة بايدن أكثر تحرراً من أي وقت مضى من العامل الإنتخابي وبالتالي أكثر قدرة على توسيع هوامشها في ضوء المخاطر التي تُهدّد مصالحها في منطقة الشرق الأوسط (المثلث الحيوي الممتد من الخليج العربي حتى شاطىء البحر المتوسط مروراً بالبحر الأحمر والممرات المائية والبرية التي تتحكم بأسواق الطاقة والممرات التجارية العالمية).
وسبقت هذه الجولة سلسلة اجتماعات شملت العديد من عواصم المنطقة، من زيارات مسؤولين روس وأتراك وقطريين وفرنسيين لطهران، مروراً بمفاوضات أميركية – إيرانية في مسقط، وصولاً إلى زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لأنقرة، وليس انتهاءً بزيارة رئيس جهاز أمن الدولة القطري عبد الله الخليفي لواشنطن بالتزامن مع تقليده وسام “جورج تينيت” من قبل وكالة المخابرات الأميركية المركزية.
وبرغم سيل الزيارات الأميركية الشرق أوسطية التي أعقبت “طوفان الأقصى” حتى يومنا هذا، فإن الزيارات الأميركية غير مسبوقة بكثافتها وجداول أعمالها من زيارة قائد القيادة المركزية للجيش الأميركي (سنتكوم) التي تشمل عملياتها الشرق الأوسط الجنرال، مايكل كوريلا، قبل حوالي الأسبوع إلى زيارة مدير المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، بيل بيرنز، وكبير مستشاري الرئيس الأميركي جو بايدن لشؤون الشرق الأوسط، بريت ماكغورك، ومستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة، آموس هوكشتاين، فضلاً عن استعداد وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، للتوجه إلى المنطقة فور انجاز الإتفاق في إحدى العاصمتين المصرية أو القطرية.
وهذه أول جولة مفاوضات تُخاض تحت سقف حركة حماس بزعامة يحيى السنوار عقب انتخاب الأخير رئيساً للمكتب السياسي للحركة خلفاً لإسماعيل هنية، وكان لافتاً للإنتباه أنه مع سقف عدم المشاركة المباشرة في المقاوضات، كانت حركة حماس فاعلة في الغرف المغلقة في الدوحة من خلال نائب رئيس الحركة خليل الحية وعدد من القياديين الحمساويين الذين كانوا على مدار الساعة على تواصل مباشر مع القيادة السياسية في غزة..
وفي الوقت نفسه، واكبت طهران وقيادة حزب الله هذه المفاوضات لحظة بلحظة من زاوية اختبار جدية الوسطاء الثلاثة ولا سيما الأميركي في ظل سيل من الأسئلة حول ما إذا كانت طهران وحزب الله يُمكن أن يتخليا عن الثأر لكل من فؤاد شكر وإسماعيل هنية في حال التوصل إلى تسوية ما، على قاعدة “نقبل بما تقبل به حماس”، وهذه المعادلة كانت في صلب المحادثات القطرية ـ الإيرانية والروسية ـ الإيرانية في ظل موقف موسكو الرسمي الداعي إلى خفض منسوب التصعيد في الشرق الأوسط.
وعلى عكس كل المرات السابقة، تحدث الوسيطان القطري والمصري عن انطباع مشترك بشأن تلمس جدية أميركية مختلفة عن كل الجولات السابقة بهدف التوصل إلى حل ينهي الحرب في غزة ويخفض التصعيد ويسحب فتيل التوتر الإقليمي الحاصل في المنطقة. وهذا الأمر عكسه في بيروت وزير خارجية مصر الذي تحدث بنبرة مختلفة عن تلك التي كانت تتسم بها نبرة سلفه سامح شكري، سواء بتوجيه انتقادات قاسية لإسرائيل أو الحديث عن إرادة أميركية بالتوصل إلى وقف إطلاق النار، وهو المناخ نفسه الذي عكسه هوكشتاين في بيروت، على حد تعبير زوار رئيس مجلس النواب اللبناني.
ولم يخفِ المقربون من دوائر متابعة للتفاوض أنه منذ اليوم الأول للتفاوض صباح الخميس وبعد ساعة واحدة من بدء الحوار الحاصل بين الوسطاء وإسرائيل، بادرت أجهزة الاستخبارات الأميركية إلى تعميم أجواء ايجابية للمفاوضات برغم المسائل الشائكة، وهذا التعميم عبّرت عنه الصحف الاميركية وراحت تُروّج له وسائل إعلامية عربية.
لكن مصادر دبلوماسية عربية مطلعة في العاصمة القطرية تختصر مناخ الجولة الأخيرة على الشكل الآتي:
أولاً؛ حصل خلاف حاد مصري – إسرائيلي بسبب تمسك الجانب الإسرائيلي بالإمساك بالمعابر الجنوبية الحيوية في القطاع، وتحديداً محور فيلادلفيا، وهذا الأمر رفضته القاهرة وأيدتها الدوحة فيما بقي الصمت الأميركي مطبقاً وتم تأجيل النقاش بهذا الملف إلى اجتماعات القاهرة، على أن تسبقها اجتماعات ثلاثية مصرية إسرائيلية أميركية للتفاهم على صيغتين بشأن محور فيلادلفيا ومعبر رفح. بالتوازي، أعطت إسرائيل الموافقة على إدخال أطنان من المساعدات الإغاثية وفق صيغة يجب أن توافق عليها إسرائيل وتديرها الإمارات وجمعيات معينة عبر الهلال الأحمر الإماراتي، فيما يُرجح أن ترفض حماس هذه الصيغة. كما استمر التفاوض حول معبر نتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه والذي تصر إسرائيل على أن تكون لها الأمرة أثناء إنتقال السكان في الإتجاهين.
ثانياً؛ تبنى القطريون مطالب حركة حماس بشأن ملف تبادل الأسرى، وظهر من خلال المداولات أن مسؤول ملف التفاوض خليل الحية وضع سقفاً واضحاً غير قابل للتنازل، وبرغم كل الضغوط الأميركية على رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو من خلال مدير الـ”سي آي إيه” وليام بيرنز والمستشار بريت ماكغورك، إلا أن التنازل الوحيد الذي حقّقته المفاوضات يكمن في موافقة رئيسي “الموساد” و”الشاباك” ومستشار نتنياهو على طلب رئيس المخابرات الأميركية، على إطلاق سراح أسرى كانت تضع إسرائيل “فيتو” على إطلاق سراحهم، لكن ما أثار القلق لدى الوسطاء العرب هو إصرار إسرائيل على تأجيل البت النهائي بهذا الملف إلى مشاورات لاحقة.
ووفقاً لما تسرب فإن إسرائيل وضعت خلال كل الجلسات التفاوضية السابقة شروطاً تقضي بإبعاد أسماء كعبد الله البرغوثي ومروان البرغوثي وأحمد سعدات وآخرين إذا جرى التوافق عليهم إلى دول إقليمية، لكن حركة حماس ظلّت متمسكة برفض هذا المبدأ وهي تتحصن بموقف فصائل أخرى ترفض هذا الإبعاد.
ثالثاً؛ بدا من خلال المداولات حول مصير المعابر والمرافق الحيوية وإدارة القطاع، أن لإسرائيل هواجسها العالقة في هذا الملف، ومن هنا بادرت مصر إلى تقديم تعهدات في أن تقوم مع الأتراك والقطريين ودول الخليج برعاية جلسات حوار بين حماس وفتح والفصائل الأخرى بهدف التوافق على الإمساك بمعبر رفح وحكم غزة وإدارة عملية إعادة الاعمار وتقديم المساعدات ورفع الأنقاض، وثمة قناعة ثابتة أن اندفاع مصر ومن خلفها قطر لهذا الموقف يهدف إلى قطع الطريق على ما تسمى “فرصة محمد دحلان” ومن خلفه الامارات في التسلل إلى الملف الفلسطيني بحجة الإعمار وبخاصة أن الجهود المصرية – القطرية تتكثف لإقناع السعودية ودول أخرى في المشاركة في إعادة الإعمار.
رابعاً؛ منذ صباح الخميس وحتى مساء اليوم (الجمعة) وما بينهما من جلسات ثنائية وثلاثية، بدا أن واشنطن التي فتحت خطوط التواصل مع طهران لضمان إنجاح جهودها قبيل الانتخابات الأميركية ولقطع الطريق على الثنائي ترامب – نتنياهو، استخدمت كل أوراق الهدوء الإيراني للضغط على إسرائيل للقبول بالتفاوض البنّاء، وهذا الإطار رسمته واشنطن منذ اللحظة الأولى لاغتيال هنية وشكر.
لكن السؤال الأهم هل من الممكن الذهاب فعلياً إلى حلول مستدامة؟
ثمة من يعتقد من الوسطاء أن أكثر ما يمكن التوصل إليه في المرحلة الأولى هدنة طويلة الأمد، في ظل رغبة مشتركة لدى كل الأطراف بعدم جر المنطقة إلى حرب شاملة، في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية المقبلة وما يمكن أن تفرزه في الخريف المقبل.
وهنا يبدو أن إيران هي الرابح الأكبر بالمباشر لأنها ستُؤسس لاستمرار حماس وإعادة تنظيم صفوفها وتجنيب لبنان تجرع الحرب الإقليمية التي ستكون شرارتها الأولى على أرضه.
ماذا تضمن البيان الثلاثي المشترك بين قطر ومصر والولايات المتحدة؟
“على مدى الـ ٤٨ ساعة الماضية في الدوحة، انخرط كبار المسؤولين من حكوماتنا في محادثات مكثفة كوسطاء بهدف إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة والإفراج عن الرهائن والمحتجزين. كانت هذه المحادثات جادة وبناءة وأُجريت في أجواء إيجابية”.
وأضاف البيان أنه “في وقت سابق اليوم (الجمعة) في الدوحة، قدّمت الولايات المتحدة الأميركية بدعم من دولة قطر وجمهورية مصر العربية، لكلا الطرفين اقتراحا يقلص الفجوات بين الطرفين ويتوافق مع المبادئ التي وضعها الرئيس بايدن في ٣١ أيار/مايو ٢٠٢٤ وقرار مجلس الأمن رقم ٢٧٣٥. يبني هذا الاقتراح على نقاط الاتفاق التي تحققت خلال الأسبوع الماضي، ويسد الفجوات المتبقية بالطريقة التي تسمح بالتنفيذ السريع للاتفاق”.
وذكر البيان أن “الفرق الفنية ستواصل العمل خلال الأيام المقبلة على تفاصيل التنفيذ، بما في ذلك الترتيبات لتنفيذ الجزئيات الإنسانية الشاملة للاتفاق، بالإضافة إلى الجزئيات المتعلقة بالرهائن والمحتجزين”.
وأشار البيان الى أن “كبار المسؤولين من حكوماتنا سيجتمعون مرة أخرى في القاهرة قبل نهاية الأسبوع المقبل، آملين التوصل إلى اتفاق وفقًا للشروط المطروحة اليوم. وكما ذكر قادة الدول الثلاث الأسبوع الماضي “لم يعد هناك وقت نضيعه ولا أعذار يمكن أن تقبل من أي طرف تبرر مزيداً من التأخير. لقد حان الوقت لإطلاق سراح الرهائن والمحتجزين، وبدء وقف إطلاق النار، وتنفيذ هذا الاتفاق. الآن أصبح الطريق ممهداً لتحقيق هذه النتيجة، وإنقاذ الأرواح، وتقديم الإغاثة لشعب غزة، وتهدئة التوترات الإقليمية”.