القوى النافذة في الملف الرئاسي، داخلياً وخارجياً، لا تُريد أن ينظر الناس إلى الأعماق. تريد أن يعيشوا ملهاة على المسرح تُنتجُ في ما بعد مأساة دموية لِيبقى التقاطعُ قائماً بين الاستغلال الداخلي والاستغلال الخارجي. الثاني يتكِّىءُ على الأول، والأوَّل لا يريد الخروج على الثاني. مصلحتُه الطبقية – الطائفية تقتضي ذلك. وفي هذه الحالة يستمرُّ التسطيح السياسي المخيف. يتحوَّلُ إلى إيديولوجيا دعاويَّةٍ مُغلقة. يَجري كلَّ مرَّةٍ تصويرُ الرئيس الآتي إلهاً مُخلِّصاً فتغيب عندئذٍ مشكلةُ النظام السياسي الطائفي – الطبقي، وتحضر المهاترات الزعاميّة المعتادة في توزيع حصص النفوذ والمال في إطار تقاسم السلطة.
ينظرُ المؤثرون الداخليون إلى الرئيسِ المقبل بوصفِه ورقةً يُقرِّرُها الخارج. هم يتسابقون إلى حجز مقاعدهم في المسرح الذي يبنيه الأميركيون، سواء أجرى الانتخاب في التاسع من الشهر المقبل أم لا. الجلسة مرشَّحةٌ طبعاً للانعقاد بنسبة كبيرة. ولا مُعطى حتى هذه اللحظة لإلغائها، فيما انتخاب الرئيس احتمال مُمكن لكنَّه ضعيف بصورة ملحوظة، ما لم تكشف واشنطن كلمة السر الأخيرة فتبعث مع “هوكشتاين” بـِ”الرُّقـْيةِ” الرئاسية، محفوظةً بقلادةِ الـ 1701.
تغيَّر الرؤساء كثيراً منذ ما يسمَّى استقلالاً عام 1943 لكنَّ المعضلة السياسية الكامنة في طبيعة النظام الطائفي – الارتهاني لم تتغيَّر. ومنذ خطابِ بشارة الخوري أوَّلاً حتى ميشال عون أخيراً، كانتِ الخُطبُ الرئاسية ُ تتوجَّهُ ً سرَّاً وعلناً إلى الخارج وتُهمِّش الداخل. وهي كلـُّها لم تتضمَّن برامج عملية كي لا نقول برامج إصلاحية، بل كانت ترتكز على معادلاتٍ آنيَّةٍ، وعلى التسليم بأن لبنان كيانٌ وظيفي لا وطنٌ. لهذا بالضبط، المشكلة الجوهرية ليست في الرئاسة، ولا في الرئيس – ولا سيّما بعد الطائف – بل في الرؤيا والبرنامج والهوية والدور.
الرئيس الجديد سيعملُ في مرحلةٍ تعيشُ فيها المَنطِقة ُإرهاصاتِ تغييرِ خرائطِ الجغرافيا السياسية والديموغرافية والاقتصادية. ولبنان يستحيلُ أن يكونَ في منأى عن ذلك، إلا إذا حصلتْ مُعجِزةُ وحدةٍ داخليةٍ على أساس المُواطنة لا المُواطَـفة. وهذه معجزة غير منظورةٍ الآن
المعادلاتُ الآنيَّةُ ما زالت فاعلة. الرئيسُ يُصنَعُ ويُعَيَّنُ ولا يُنْتخبُ، وتلك هي المهزلة ُ- المأساة. إذا صحَّتِ جلسةُ التاسعِ من كانون الثاني/يناير المقبل، فسيكونُ للبنانَ – الكيانِ رئيسٌ يلتزمُ بالدورِ الوظيفيِّ الجديد. أمَّا بناءُ الدولةِ والانتقال من حالةِ الكيانِ إلى حالةِ الوطن، فأمرٌ غيرُ مرتقَبٍ. وإذا جرى التأجيلُ فإنَّ المعادلاتِ هي نفسُها باقية. ضمنَ هذهِ الصورةِ يظهرُ واضحاً أننا نستطيعُ أن نتوقَّعَ ما سيكونُ عليه أيُّ خطابٍ رئاسيٍّ في هذه المرحلة. القرارُ 1701 الذي يَستبْطنُ القرارينِ 1559 و1680 هو لبُّ البرنامج الرئاسي. الحديث عن النهوض بالدولة ممكنٌ، وهو لزوم البروتوكول الكلامي، لكنَّ لوازم التحوُّل من الكلام إلى الفعلِ غير متوافرة.
الرئيس الجديد سيعملُ في مرحلةٍ تعيشُ فيها المَنطِقة ُإرهاصاتِ تغييرِ خرائطِ الجغرافيا السياسية والديموغرافية والاقتصادية. ولبنان يستحيلُ أن يكونَ في منأى عن ذلك، إلا إذا حصلتْ مُعجِزةُ وحدةٍ داخليةٍ على أساس المُواطنة لا المُواطَـفة. وهذه معجزة غير منظورةٍ الآن.
الرئيسُ الآتي، سواءٌ أكان قائدَ الجيش أو غيرَهُ، سيُواجِهُ في البدايةِ خفايا اِتفاق وقفِ إطلاق النار على أساس الـ 1701، فالعدوُّ الإسرائيلي يتصرَّفُ – وفقاً لممارساتِه في الجنوب – على قاعدةِ عدمِ الانسحابِ بعد اِنقضاءِ مُهلةِ الستين يوماً، فيما تتصاعد في الداخل مواقف انتقاميةٌ ترى أنَّ الرئاسة المقبلة يجب أن تنطلق من فكرة هزيمة المقاومة، ومن التصوُّر الخُرافي بأنَّ اللبنانيين في المستقبل سيخضعون لما يُمليهِ الأميركيونَ والاحتلالُ الإسرائيلي. هذا وحدَهُ كافٍ للقلقِ منَ احتمالاتِ التفجُّر، ولا سيَّما إذا استمرَّ أصحابُ هذه المواقف في التعنُّت، وأصرُّوا على ترجمة التحوُّلات الإقليمية إلى ابتزازاتٍ سياسيّة في الداخل، خصوصاً في ظلِّ تصاعد الدعواتِ إلى نظام ٍ فيدرالي، وازدياد تكريس مصطلح “المكوِّناتِ اللبنانية”، ونشرِ ثفافةٍ عنصريةٍ على منوالِ: “لا نُشبِهُهُم ولا يُشبهونَنا” من دونِ أن يلتفتُوا إلى حقيقةٍ أثبتَتْها التجارِبُ، وهْيَ أنَّ الموزاييك اللبناني الذي رسمته سايكس- بيكو بعد تقسيم سوريا لا يعيش سالماً من غير تسويةٍ وطنيّةٍ لا طائفية.
هذه الحقيقة ستكون ماثلةً بقوةٍ أمام الرئيسِ اللبناني الآتي، ولا سيما بعد الخرائط التي يجري تحضيرها للمنطقة إثر سقوط النظام السوري.. الخرائط الملتهبة كما رسمها برنارد لويس تبدأ من أعالي العراق عند الفرات، وتشمل سوريا بالتقاطع مع تركيا، والأردن وفلسطين، وتمتدُّ إلى سواحل المتوسط، ولا توفِّرُ مصر. إنَّه تغييرٌ ناريٌ، وقد بدأ العدوُّ الإسرائيلي بالتنفيذ فاحتلَّ جنوب سوريا وغربَ جبلِ الشيخ اللبناني مُلوِّحاً بخريطة المَنطقةِ التي أعلنها بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة على إيقاع كلام دونالد ترامب الذي قال إنَّ مساحة إسرائيل صغيرة ويجب توسيعُها.
كلُّ هذه التحدِّيات ستكونُ أمام الرئيس المقبل. لن يكونَ لديه تَرَفُ السلطةِ الهادئة. عليهِ أن يتعاملَ معَ محيطٍ جديدٍ متقلِّبٍ، ومع وضع ٍداخلي يُراهِنُ عددٌ من قواهُ على هذه التقلُّباتِ المرتقبة، وأن يواجهَ العدوَّ الإسرائيلي الذي لا يتخلَّى عن أطماعه في لبنان لمجرَّدِ أنَّ تقول ذلك بعضُ القرارات الدولية. ربَّما يكون الخلاص بجرأةٍ استثنائية يجب أن يمتلكها الرئيس الآتي، وأن تقوم على حفظ الحد الأدنى من الوحدة الداخلية كي لا ندخل في المجهول، وكي لا نحترق بنار نظرية “المكوِّنات”.